ثورة المهمشين

ثورة المهمشين


لا تزال الاضطرابات التي أثارت شرارتها في السابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2005 بعض الأحداث الدامية المحدودة التي راح ضحيتها بعض الشباب المهاجرين على يد الشرطة الفرنسية، بالإضافة إلى العبارات الاستفزازية لوزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي، وربما أيضا كما يعتقد بعض المحللين قطع المعونات في بداية العام الحالي عن الجمعيات الأهلية التي تعمل في الضواحي الباريسية، لا تزال هذه الاضطرابات مستمرة دون توقف منذ أسابيع.

ولا يزال إحراق السيارات والمكتبات والمدارس والمحلات التعبير المباشر عنها أيضا في العديد من المناطق الفرنسية رغم الإجراءات المتشددة التي اتخذتها السلطات، بما في ذلك فرض حظر التجول من التاسعة مساء حتى الفجر في 25 محافظة من المحافظات الفرنسية البالغة 96، حسب قانون الطوارئ نفسه الذي صيغ لوضع حد لتظاهرات تأييد الثورة الجزائرية وإدانة الحرب الاستعمارية في الجزائر عام 1955. لا بل إن رقعة الاضطرابات تزداد اتساعا في فرنسا وخارجها.

"
أحداث فرنسا تعبر عن الحالة النفسية المتمردة لدى الفئات التي بقيت على هامش المجتمع، أو التي تركها المجتمع تغرق في الهامشية الجغرافية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بما يعنيه ذلك من الإدانة بالفقر والبطالة وانعدام الآفاق والشعور العميق بالظلم والانسحاق
"

وتخشى بلدان عديدة أوروبية في مقدمها ألمانيا وإسبانيا حيث يعيش ملايين السكان من أصل أجنبي، عربي أو أفريقي أو آسيوي من انتقال عدوى تظاهرات الاحتجاج والغضب والتدمير إليها.

تثير هذه الأحداث ردود فعل متباينة عند الفرنسيين وقطاعات الرأي العام العالمي الأخرى، أما في البلدان العربية التي تغرق في نزاعات وحروب متعددة المصادر والأغراض وتتعرض لضغوط داخلية وخارجية متزايدة وقوية منذ عقود، فيوحي تركيز وسائل الإعلام، وفي مقدمها الفضائيات العربية على صور الإحراق والتخريب المثيرة بأن ما تعيشه فرنسا هو ثورة حقيقية تعصف بمدنها وقراها.

حتى إن العديد ممن أعرفهم قد تلقوا اتصالات هاتفية من ذويهم المقيمين في البلاد العربية للاطمئنان عليهم.

أما في الولايات المتحدة التي يضمر فيها قسم كبير من الرأي العام حقدا دفينا على الفرنسيين الذين يرون فيهم حجر عثرة تقف أمام نجاحهم في تطبيق سياستهم الدولية، ويرجعون هذا الموقف نفسه إلى ما يتسم به هؤلاء من غطرسة تجعلهم يحلمون باحتلال موقع الاتحاد السوفياتي السابق ولعب دوره كمنافس للولايات المتحدة على الساحة الدولية، فقد ذهب التشفي عند بعض المسؤولين إلى درجة وصف تظاهرات العنف بالحرب الأهلية الفرنسية.

وفي إسرائيل التي لا تنظر إلى العالم إلا من منظار القضاء على الهوية والدولة الفلسطينية، تحدثت وسائل الإعلام عن الانتفاضة العربية لتطابق بين ثورة الفلسطينيين الوطنية وتظاهرات الغضب المدمر الباريسية.

وفي جميع البلدان التي تدعو إلى مزيد من الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية كان الميل قويا للتأكيد على انهيار النموذج الفرنسي الذي يرفض التعددية الثقافية وينادي بانصهار الجميع، بصرف النظر عن أصولهم واعتقاداتهم وثقافتهم، في مصهر الجمهورية العلمانية التي لا تتعامل مع أبنائها إلا من زاوية المواطنية الفردية.

تنطوي هذه التغطيات الإعلامية والتفسيرات التي تنطوي عليها على مبالغات كبيرة في الواقع, فالاضطرابات على عنفها لا تمس إلا مناطق صغيرة محصورة في بعض الضواحي التي تقطنها جماعات متعددة الأصول والثقافات، بما في ذلك بعض الفرنسيين الأصليين، ولا تضم الجسم الكبير للمجتمع الفرنسي ولا حتى الشريحة الفرنسية المنحدرة من أصول أجنبية مهاجرة.

إنها تعبر بالأحرى عن الحالة النفسية المتمردة لدى تلك الفئات التي بقيت، لسبب أو آخر، على هامش المجتمع، أو التي تركها المجتمع تغرق في الهامشية الجغرافية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بما يعنيه ذلك من الإدانة بالفقر والبطالة وانعدام الآفاق والشعور العميق بالظلم والانسحاق.

"
سبب تركز الحرمان في أوساط السكان المنحدرين من أصول عربية وأفريقية هو الميول العنصرية التي ميزت سلوك المجتمع الفرنسي تجاه هؤلاء، كتكريس للعلاقة الاستعمارية القديمة وتعبير عن استمرارها بوسائل أخرى
"

فمعظم سكان هذه المحليات التي تميل إلى أن تكون معازل أو "غيتوات" على أطراف المدن الفرنسية الكبرى لا تملك موارد خاصة ولا تنشأ فيها أعمال ولا فرص عمل.

وتبلغ نسبة البطالة لدى الشباب فيها عموما ضعف النسبة المتوسطة الفرنسية وتزيد في بعض الأحيان عن 50%، فهي لا تعيش إلا بفضل المعونات الاجتماعية.

ورغم أن القسم الأكبر من هذه الفئات ينحدر من أصول عربية وأفريقية فإن من بينها أبناء جنسيات عديدة أخرى، وفيها فرنسيون كثيرون أيضا، فهي تشكل ظاهرة اجتماعية حقيقية هي ظاهرة المحرومين الذين تركهم قطار التقدم الاقتصادي والاجتماعي النازع إلى العولمة على قارعة الطريق في العقود الثلاثة الماضية.

ولا تقتصر هذه الظاهرة على فرنسا وحدها ولكنها موجودة في كل الدول الصناعية الأوروبية والأميركية.

ورغم أننا لا نملك إحصائيات عن حجم هذه الشريحة من السكان التي لم تستطع لسبب أو آخر اللحاق بقطار التقدم فهي لا ينبغي أن تتجاوز 5% إلى 10% حسب البلد وديناميكية اقتصاده ونسبة النمو الاقتصادي.

من هنا فهي تختلف كثيرا كظاهرة اجتماعية في طابعها، عن ظاهرة الإفقار المتزايد الذي يمس أغلبية السكان في البلدان النامية.

فلا تبدو المشكلة هنا مسألة سوء توزيع للدخل الوطني أو لثمار التقدم لصالح فئة صغيرة محدودة لا تزيد عن 5% ولكن على العكس كإسقاط لفئات اجتماعية كاملة من الحساب واستبعاد لها من الجماعة الوطنية.

ولعل ما أضفى على الاضطرابات الاجتماعية في فرنسا سمة عنيفة ومستمرة مقارنة مع الاضطرابات العديدة التي انفجرت في الكثير من البلدان الصناعية في السنوات القليلة الماضية عاملان يميزان الحالة الفرنسية بالفعل عن غيرها.

العامل الأول هو التطابق المتزايد بين حدود الحرمان والفقر من جهة وحدود الانتماءات الإثنية من جهة ثانية، بحيث يتركز الحرمان في وسط الفئات المنحدرة من أصول مهاجرة جنوبية.

ولا شك في أن سبب هذا التركز للحرمان في أوساط السكان المنحدرين من أصول عربية وأفريقية هو الميول العنصرية التي ميزت سلوك المجتمع الفرنسي تجاه هؤلاء، التي جاءت كتكريس للعلاقة الاستعمارية القديمة وتعبير عن استمرارها بوسائل أخرى أيضا.

ولا تظهر العنصرية في الخطاب السياسي الرسمي الذي يؤكد بالعكس على الحقوق المتساوية للمواطنين بصرف النظر عن أصلهم ودينهم، وإنما تظهر في الممارسات اليومية للمجتمع نفسه.

ويعاني العرب والأفارقة بشكل يومي من التمييز العنصري في مسائل العمل والحصول على السكن أو حتى في كراء منزل.

"
لا تطرح هذه الاضطرابات أسئلة على الفرنسيين وحسب، ولكن على جميع الدول الصناعية التي تجتذب مهاجرين يحتلون مواقع دونية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في وقت تشيع فيه الثورة المعلوماتية روح المساواة والندية بين جميع الشعوب والأقوام
"

ومما يعزز هذه العنصرية سياسة الاستبعاد التي مارستها جميع الحكومات الفرنسية منذ عقود، اليمينية منها واليسارية التي جعلت المؤسسات والمناصب العليا الرسمية، من حكومة وبرلمان وقضاء وإدارة وشرطة وغيرها، تخلو أو تكاد تخلو تماما من الوجوه المنحدرة من أصول عربية، رغم أن هؤلاء يشكلون اليوم ما يقارب 10% من السكان.

من هذه الناحية لا تبدو فرنسا السياسية متخلفة كثيرا عن الولايات المتحدة التي عينت كولن باول ثم كوندوليزا رايس في منصب وزراء خارجية الدولة الكبرى في السنوات الماضية وإنما بالمقارنة مع العديد من الدول الأوروبية الأخرى التي سبقتها في تشجيع السكان من أصول مهاجرة على الانخراط في الحياة العمومية وتحمل مسؤولياتهم الوطنية.

أما العامل الثاني فهو يرتبط بتلك الديناميات التي جعلت فئة المحرومين تتركز عموما في مناطق جغرافية جانبية تكاد تكون معزولة تماما عن المدن، وما تتميز به من حركة ونشاط وفرص اندماج أو تفاعل مع الآخرين، لتشكل معازل أقوامية (أي تكتل كل جالية وانغلاقها على نفسها) وثقافية ونفسية أيضا.

وهكذا أصبح سكان بعض الضواحي القريبة من المدن يجمعون بشكل لا سابق له بين الحرمان الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والتمييز الثقافي أيضا، ما يضاعف الشعور بالظلم والغبن والاستبعاد من الحياة العمومية.

وتكاد ظاهرة دفع الفئات الفقيرة من المدن نحو الضواحي تقتصر على فرنسا، وربما على باريس بشكل واضح، وهو ما يعكس سوء السياسات العمرانية الفرنسية التي فضلت منذ البداية تحويل باريس إلى مدينة برجوازية وأخرجت أو سمحت بخروج ذوي الدخل المحدود شيئا فشيئا إلى الضواحي لتوطينهم بشكل رئيسي في المناطق الأرخص.

ورخص هذه المناطق مرتبط هو نفسه بانعدام الخدمات فيها وصعوبة التواصل بينها وبين باريس التي تشكل قلب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية الفرنسية.

لكن مهما كانت الحال فإن ظاهرة المهمشين لا تقتصر على فرنسا وإن كانت الأكثر بروزا فيها، إذ هي ظاهرة عامة في البلاد الصناعية التي تجذب المهاجرين من البلاد الفقيرة الأخرى.

وهي تنبع من واقع أن الفقر يتخذ أكثر فأكثر طابعا أقواميا نتيجة احتلال المهاجرين الجدد القادمين من بلدان فقيرة لأسفل السلم المهني وبالتالي التطابق المتزايد بين حدود الفقر وحدود الانتماء للأقليات الأقوامية الجديدة.

وما حدث في الضواحي الباريسية والفرنسية عموما في الأسابيع الماضية ليس في نظري سوى الحلقة الأولى من سلسلة اضطرابات قوية لن تهدأ، في فرنسا ولا في بقية الدول الصناعية قبل أن تنجح المجتمعات والدول الصناعية، والأوروبية منها بشكل خاص، في كسر هذه الديناميكية الجديدة التي تدفع بشكل مطرد إلى مطابقة حدود الحرمان مع حدود الانتماء الأقوامي ليتحول الفقر إلى تهميش وهامشية، مطابقا بذلك بين قضايا الاحتجاج الاجتماعي التقليدي الذي عرفته الطبقات الشعبية في الماضي وقضايا الثورة على التمييز العنصري الثقافي والأقوامي الذي يعيد إحياء ذكريات وذاكرة العهود الاستعمارية.

"
تحقيق السلام والأمن الدوليين يتطلب القبول بمفاوضات عالمية جدية تشارك فيها جميع الشعوب في سبيل بلورة حلول متسقة ومتفاهم عليها لجميع المشاكل الدولية
"

ومن هنا لا تطرح هذه الاضطرابات أسئلة عديدة على الفرنسيين وحسب، ولكن على جميع الدول الصناعية التي تجتذب الملايين من المهاجرين الجدد الذين سيحتلون مواقع دونية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الوقت الذي تشيع فيه الثورة المعلوماتية -كما لم يحصل في أي وقت سابق- روح المساواة والندية بين جميع الشعوب والأقوام، وتفقد أمام ذلك جميع أيديولوجيات التفوق الثقافي العنصرية بريقها الكاذب.

لكنها تطرح أيضا أسئلة كثيرة على البلدان الفقيرة التي تلفظ أبناءها بالملايين نتيجة العجز المتزايد عن تأمين شروط الحياة الإنسانية العادية على قاعدة تأمين الحد الأدنى من الانسجام مع معايير العصر المادية والأخلاقية.

وهي توجه تحديات لا سابق لها للمنظومة الدولية، أي لنظامها الجماعي، ولتوجهات مؤسساتها الكبرى المالية والاجتماعية، ولسياساتها الضعيفة التي لا تزال قاصرة وأحيانا متناقضة مع ما يتطلبه تحقيق السلام والأمن الدوليين من القبول بمفاوضات عالمية جدية تشارك فيها جميع الشعوب في سبيل بلورة حلول متسقة ومتفاهم عليها لجميع المشاكل الدولية.

وفي مقدمة هذه المشاكل وأهمها من دون شك مشكلة التنمية الإنسانية وبناء نظام عالمي متوازن يبعث الأمل ويقنع جميع الأطراف بفائدة التعاون والتضامن والعمل المشترك البناء، يخلف نظام الفوضى الراهن الذي تسعى فيه بعض الأطراف القوية إلى جر العالم أجمع إلى معارك وهمية أو مصطنعة تدفع الجميع إلى اليأس وتزيد من مخاطر التخريب والعدوان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.