هل اندلعت حرب إعلامية استباقية؟

هل اندلعت حرب إعلامية استباقية؟



نبيل شبيب

 

– نقلة نوعية شكلا وموضوعا

– خلفية الحملات الجارية

 

إنّ حظر البثّ على فضائية المنار اللبنانيّة عن طريق قرار فرنسي، وإدراجها –وهي وسيلة إعلامية- في قائمة مَن توزّع واشنطون عليهم وصمة "الإرهاب"، ليس حدثا جانبيا قائما بذاته، بل يدخل في إطار الصورة الشاملة لحرب الهيمنة الجارية، وينطوي على استهداف الإعلام الإخباري العربي، بعد أن تجاوز مرحلة النشأة الأولى وبدأ يثبت وجوده في ساحة الإعلام الدولي رغم أنها ترزح إلى الآن تحت ثقل الاحتكار الغربيّ.

 

"
مكافحة العداء للساميّة تعليل مقصود لتعزيز جهود جارية ترمي إلى إحداث نقلة جغرافية لمجال تطبيق مفهوم العداء للسامية ومكافحته إلى المنطقة العربية والإسلامية
"

نقلة نوعية شكلا وموضوعا

في مقدّمة ما يطرحه الحدث، أنّه يُطلق العنان لإجراءات غربية مضادّة للإعلام، كان الغرب يعيب مثيلها على المعسكر الشرقي الاستبدادي في حقبة الحرب الباردة، كما أنّ تعليل إجراء الحظر يفتح بابا جديدا من التعليلات يتجاوز سائر ما سبقه.

 

فالسبب المعلن هو مكافحة العداء للساميّة، وهو تعليل مقصود لتعزيز جهود جارية ترمي إلى إحداث نقلة جغرافية لمجال تطبيق مفهوم العداء للسامية ومكافحته إلى المنطقة العربية والإسلامية.

 

كما يرمي إلى إحداث نقلة نوعيّة لميدان التطبيق بتصعيد مضمون ذلك المفهوم ليشمل العداء للسياسات الإسرائيلية، بعد أن كان لا يشمل سوى استهداف اليهود واليهودية.

 

وتوجد بطبيعة الحال أسباب ودوافع مباشرة أخرى، مثل توجيه رسالة إلى سوريا عبر تطوير أسلوب التعامل مع منظمة حزب الله في لبنان، ممّا ينسجم مع التصعيد الراهن تجاه الحكومة السورية في الشأن اللبناني، وتضييق الحصار على السياسات السورية المتميّزة عربيا –حتّى الآن- في قضيتي فلسطين والعراق.

 

ومن الأسباب أيضا ما يتصل بتوقيت الحدث، أي في إطار انتهاز ما أسماه الغرب فرصة رحيل عرفات، وأضيف إليه بقاء بوش في السلطة وتشكيل حكومة إسرائيلية ائتلافيّة موسّعة.

 

فالتناغم الفرنسي الأميركي في هذا الإجراء مؤشر إضافي للرغبة في تقارب أمريكي أوروبي حاليا للتعامل مع قضية فلسطين بعد دخول انتفاضة الأقصى عامها الخامس.

 

وهذه الأسباب المباشرة وأمثالها جزء من اللعبة السياسية الدوليّة الجارية في المنطقة، ولكن ينبغي إلى جانب التعامل معها، عدم إغفال ما وراءها، ومن ذلك المغزى في اختيار الوسيلة، أي وسيلة اقتحام ما يسمّى الحرب على الإرهاب لميدان وسائل الإعلام الإخباري العربي بصورة مباشرة.

 

فهنا لا تصحّ رؤية الحدث قائما بذاته، وقد أتى في مجال الإعلام ضمن مسلسل خطوات عديدة، منها استهداف البعثات والمكاتب الإعلامية العربية بالقصف أثناء حربي احتلال أفغانستان والعراق، ومنها التركيز على أشخاص بعينهم، مثل تيسير علّوني وأحمد منصور، كما أن منها الحملة السياسية المتواصلة والمتصاعدة على الفضائيات الإخبارية العربية إجمالا.

 

في هذا المسلسل يظهر في قضية المنار البُعد الإضافي الذي يعنيه تصنيفها في خانة "الإرهاب"، وهو ما يجعل محرّرا إعلاميّا ألمانياً (فلوريان روتسر) يعلّق على الإجراءات الأميركية والفرنسية الأخيرة بالتساؤل "هل بدأت حرب إعلاميّة جديدة؟" (21/12/2004م).

 

وهذا أيضا ما يثير قلق المنظمات الدولية مثل منظمة "مراسلون بلا حدود" إلى درجة تضامنها علنا مع فضائية المنار رغم الحرج الذي تجده في الساحة الأوروبية بسبب ربط الحظر بمسألة مكافحة عداء السامية، أو مثل اتحاد الصحفيين الدولي الذي أبدى مخاوفه من أن توصل الخطوة الأميركية إلى تسويغ أسلوب محاربة الإعلام بتهمة "الإرهاب" بما يجعل هيئات تحريره "أهدافا عسكرية".

 

دائرة استهداف الإعلام الإخباري العربي في المسلسل المذكور هي بدورها جزء من دائرة أوسع نطاقا، تظهر عبر تصنيف خطوات أخرى يزداد تواترها بصورة ملحوظة، ومنها مثلا الاحتجاجات الصهيونية الأميركية المنسّقة على مسلسل "فارس بلا جواد" المصري، كما أن منها الضغوط المتوالية بعد أقلّ من عام بصدد مسلسلات سورية معيّنة مثل مسلسل "الشتات".

 

"
ما يجري اليوم من الحملات ذات الصلة بالإعلام والفكر والفنّ إنما يجري لاغتصاب مرجعيّة تحديد ما يصلح أو لا يصلح في الإعلام والفكر والفن وسواها من المجالات الثقافية
"

تضاف إلى ذلك الضجة المفتعلة للتنديد ببعض الكتب ودور النشر أثناء المشاركة العربية في معرض الكتاب في فرانكفورت، كما يضاف إليه مسلسل شبه دائم من الحملات العلنيّة على بعض وسائل الإعلام العربية المطبوعة، وفي مقدّمتها الصحافة المصرية، بدعوى نشر ما يندرج أيضا تحت عنوان العداء للسامية.

 

الحملة ذات أبعاد إعلامية وفكرية وفنية كما هو واضح، ولها محاور عديدة لا مجال للتفصيل فيها، فيكفي هنا التنويه ببعض معالمها الرئيسية.

 

أولا: تبرير هذه الحملات.. كان الغالب على التبرير هو "تحريض الشعوب"، وليس التحريض تهمة ما دام لسبب واقعي مشهود وبأسلوب موضوعي مقبول ولهدف قويم مشروع، وتراجع كثير من الفضائيات عن بعض إنجازاته السابقة.

 

ويأتي الآن لتبرير مزيد من حلقات الحملة الجارية، اختيار مقصود لمسألة العداء للسامية، فتُطرح بصورة "اتّهام" يستثير تلقائيا الدفاع كردّ فعل، والدفاع هنا يعني تسويغ مضمون الاتهام رغم إنكاره، فيتحوّل في حالات تالية إلى أمر بدهي.

 

وهذا ما تتمّ به النقلة الجغرافية المطلوبة، أي إقحام تلك المسألة الغربية نشأة وتاريخا ومضمونا، في الساحة الفكرية والإعلامية والسياسية العربية، ثمّ إنّ ما يجري الآن يتحوّل إلى "سوابق" لمراحل مقبلة، قد تشهد إضافة أيّ بند جديد.

 

ثانيا: ميدان هذه الحملات.. غلب على الاهتمام بردّ هذه الحملات إبراز استهدافها للمادة الخبرية والمصوّرة في ساحة الحدث، فشاع تفسيرها عربيّا بالحرص الأميركي عسكريا وسياسيا على التعتيم الإعلامي على مجرى حرب عدوانية، وهذا صحيح، ولكنّ ميدان هذه الحملات يشمل هجمة ضارية على المادة الثقافية الفنية أيضا.

 

وتمرير هذه التهمة استجابةً للمقصود منها أو بأسلوب الإنكار، ينطوي أيضا على تصوير "تهمة العداء للسامية" وكأنّها عنصر بدهي من عناصر التعامل مع الإنجازات الأدبية والفنية العربية، فتتحوّل التهمة إلى سيف مصلت على الأقلام العربية، ويمكن أن يمتدّ إلى ميادين أخرى كالحوارات وبرامج تاريخية وفكرية وغيرها.

 

ثالثا: أسلوب هذه الحملات.. وكان يتّبع ما يوصف بالدبلوماسية الفجّة، أي التبليغ بصيغة الإملاء ولكن وراء الكواليس وعبر السلطات لتتابع هي الطريق تجاه وسائل الإعلام، وفي الآونة الأخيرة وصل مستوى الفجاجة إلى التصريحات العلنية بصيغة الإملاء على الملأ.. بل وصل أيضا إلى درجة تبليغ ما تريده دولة أجنبية بصورة مباشرة من جانب دبلوماسييها إلى المسؤولين في بعض المحطات الفضائية العربية.

 

خلفيّة الحملات الجارية

إلى وقت قريب كان التركيز منصبا على ما أُطلق عليه في الغرب وصف "تجفيف منابع الإرهاب" واتخذ شكل هجمة غير مسبوقة على شبكات التعامل المصرفي وشبكات منظمات الإغاثة الإسلامية وغيرها.

 

وواضح أنّ ما يجري اليوم بصورة موازية في الميادين الفكرية والإعلاميّة، أبعد خطرا ومفعولا، وهو يتجاوز بوضوح سائر ما يمكن ربطه بخانة الإرهاب الحقيقي أو المزعوم، فيصل إلى أكثر من ميدان بالغ الأهمية، مثل عرقلة الخروج عربيّا على دائرة الاحتكارات الإعلاميّة الغربية وعرقلة ترسيخ الممارسات الذاتية لحرية الرأي والتعبير ونشر المعلومات، بالإضافة إلى اغتصاب مرجعيّة تحديد ما يصلح أو لا يصلح في الإعلام والفكر والفن وسواها من المجالات الثقافية.

 

ويتصادم جميع ذلك مع الادّعاءات المتكرّرة بـ"تقديس" قيمة حريّة الكلمة في الغرب إلى درجة الزعم أنّ نشرها هو من أهداف المشاريع والمخططات والسياسات الغربية، بل وحروبِ احتلال عدوانيّة حافلة بما لا يحصى من المآسي البشرية وتدمير العمران وتقويض مقوّمات النهوض والتقدّم.

 

"
النظرة الشاملة إلى كافة الوقائع المذكورة  بدءا بالإعلام وانتهاء بالدين تكشف ارتباط تنفيذها بمخطط شمولي إستراتيجي يتجاوز بمضمونه وأبعاده وغاياته عناصر الإخراج التقليدية في ميادين السياسة والعسكر والاقتصاد
"

ويضاف الآن إقحام قضية العداء للسامية حديثا، والجدير بالانتباه أنّ هذا المفهوم الغربي يرتبط بتقنين عملية الحظر تحت طائلة العقوبة في أكثر من بلد غربي، أي اعتبار كل عمل "يشكّك" فيما دخل كتب التاريخ تحت عنوان المحرقة النازية لليهود جريمة يعاقب القانون عليها، سيان أكان التشكيك عبر بحث علمي أم كتاب فكري أم مقال إعلامي أم إنتاج فني.

 

وهنا يمكن تصوّر مدى ما يمكن أن تصل إليه خطوات التصعيد الراهنة، وهو ما يفرض تصنيفها كممارسات قهر إعلاميّ وفكري وفنّي، إلى جانب ممارسات القهر العسكري والسياسي.

 

إنّ مجموع الحملات ذات الصلة بالإعلام والفكر والفنّ وفق الأمثلة السابقة، يأخذ مكانه من حيث التصعيد النوعيّ مضمونا وأسلوبا وانتشارا جغرافيا، إلى جانب حملات أخرى، قد خطا التصعيد فيها خطوات نوعيّة مشابهة، ولكلّ من هذه الحملات ميادينه وفروعه المتعدّدة، فلا يمكن التفصيل فيها.

 

ولكن يمكن تحديد بعض المحاور الجامعة حيث كان توجيه رأس الحربة يشهد على المقصود بها، ومن ذلك في الآونة الأخيرة:

– استهداف ما يعتبر من الحقوق الثابتة بمفهوم الشرعية الدولية الأصلي، مثل حق المقاومة المسلّحة للاحتلال، أو امتلالك القوّة الرادعة لعدوان خارجي، أو التعاون المشروع في مثل هذه الميادين المشروعة، وجميع ذلك ممّا تقرّره نصوص مبادئ ثابتة في المواثيق الدولية، وهذه المبادئ هي الشرعية الدولية دون تزييف.

 

وليست الشرعية الدولية هي جهاز مجلس الأمن المكلّف بتنفيذها وعدم مخالفتها بقراراته، ولا يكاد أحد يسمّي هذه القرارات "قرارات الشرعية الدولية" إلاّ داخل الحدود الجغرافية واللغوية العربية، فهي في مختلف الأمكنة وعلى مختلف الألسنة "قرارات مجلس الأمن" فحسب!

 

– استهداف مختلف أشكال التعبير عن الإسلام وليس العمل الإسلامي وأطيافه المتعدّدة فحسب، ناهيك عمّن يُلحق نفسه انتسابا إليه رغم الانحراف عن معاييره أهدافا أو أسلوبا، وهنا انتشر الخلط بين المصطلحات والتسميات الشائعة، لإباحة كلّ اتّهام تحت عناوين متداخلة: إسلامي، إرهابي، إسلام سياسي، إسلام جهادي.

 

وهكذا أصبح يُستخدم في الغرب –وعبر قنوات التغريب– كثير من الكلمات المترادفة، مع أنّ الحملات الجارية ضدّ البلدان الإسلامية، شاملة واقعيّا للمسلمين وغيرهم، ولسائر التيّارات، ما دام العنصر المشترك هو الانتماء إلى دائرة حضارية تاريخية واحدة هي المنطقة الإسلاميّة جغرافيا.

 

– استهداف ما يعتبر في صميم الدين، عبر تسييس فرض الحجاب الديني تعليلا لحظره على فتيات المدارس الفرنسيّة.

 

إنّ النظرة الشاملة إلى كافة الوقائع المذكورة وأمثالها معا، بدءا بالإعلام وانتهاء بالدين، تكشف ارتباط تنفيذها بمخطط شمولي "إستراتيجي" يتجاوز بمضمونه وأبعاده وغاياته عناصر الإخراج التقليدية في ميادين سياسية وعسكرية واقتصادية وغيرها،  فلا يمكن إسقاط البعد الحضاري -أو بتعبير أصحّ: بُعْد الصراع الحضاري- من الخلفيّة التي تتحرّك عليها تلك العناصر بصورة متصاعدة متسارعة.

 

"
قضية المنار مثال ونموذج مثلما كان سحب حقوق عمل الجزيرة في العراق مثالا ونموذجا ومثلما كان التنديد بمسرحية فارس بلا جواد مثالا ونموذجا
"

وهذا يؤدي إلى طرح السؤال عمّا تعنيه أساليب تعامل الطرف المستهدف مع هذه الوقائع حتى الآن، ومثالها الجانب الإعلامي:

– الإنكار في غير موضعه وبما يحقق نقيض مقصوده كما ورد آنفا. 

– النظر في كل حدث كما لو كان منفردا قائما بذاته وأقصى ما يُطلب من الأطراف الأخرى هو الدعم والتضامن، وهو ما لا يتفق مع استهداف الجميع برأس الحربة الموجّه هنا حينا وهناك حينا آخر.

– التخوّف والتراجع إلى درجة سقوط الحاجة إلى محاولة فرض رقابة أجنبية على أي إنتاج عربي، فكري أو إعلامي أو فني.

 

فبعض المحطات يمتنع ذاتيا –على سبيل المثال- عن استخدام مفردات ثابتة في الرؤية الذاتية القويمة لقضية فلسطين أو المقاومة في العراق أو ما شابه ذلك (ولا نتحدّث هنا عن خطاب حماسيّ عتيق) وبعضها يمتنع ذاتيا ومسبقا عن بثّ مسلسلات قد تزعج الذين تطغى على معظم إنتاجهم ممارساتُ الافتراء على العرب والمسلمين وقضاياهم.

 

إنّ قضية المنار مثال ونموذج، مثلما كان سحب حقوق عمل الجزيرة في العراق مثالا ونموذجا، ومثلما كان التنديد بمسرحية فارس بلا جواد مثالا ونموذجا، وعلى حسب التعامل الانفرادي أو الجماعي، وتعامل الانكفاء والتراجع أو الرفض والردّ المناسب.

 

يمكن أن نتحدّث في المستقبل عن انحسار عدد الأمثلة والنماذج، أو عن ازديادها واتساع نطاق مجالاتها، لتطال من لم تصل إليهم ولتقتحم ما يحسبه القائمون عليه في مأمن من الاقتحام حتى الآن.
________________

كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.