الإسلام الروسي بين الصدام والتفاهم

undefined

بقلم/ عاطف معتمد عبد الحميد

– مكان وسط الزحام
– هوية الإسلام الروسي
– مبررات التفاهم

في ليلة انتخاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا لفترة ثانية منتصف مارس/آذار الماضي، وضع موقع شهير لمن يسمون بانفصاليي القوقاز رسما لبوتين كمصاص دماء، في وقت كان المتحدث باسم مجلس الإفتاء الروسي يصرح بأن "السيد الرئيس هو أفضل مرشح لمسلمي روسيا، فقد راعى مشاعر المسلمين الروس في كل المناسبات الإسلامية وسعى إلى ربطهم بالعالم الإسلامي".

ورغم ما في المقارنة من تعميم خطر فإنه لا مفر من الإقرار بأن جغرافية الإسلام في روسيا تكاد تمثل اليوم ثنائية من الصدام والتفاهم. يتجسد الصدام في القوقاز وفي صدره المشروع الشيشاني، في حين يتمثل التفاهم في منطقة الفولغا وفي صدرها المشروع التتري.

مكان وسط الزحام


ليس دقيقا نعت مسلمي روسيا بسكان الأقلية فهم أصحاب أرض أصليون وكانت لهم ممالكهم وسيادتهم قبل أن تسقط قلاعهم في النصف الأول من القرن الـ16 لتكتب خضوع مسلمي الفولغا والقوقاز للسيطرة الروسية

يمثل المسلمون في روسيا قوة سكانية لا يستهان بها، تزيد عددا عن 22 مليون نسمة وهو رقم أغرى بوتين بالمباهاة به مقارنا إياه بحجم عدة دول إسلامية قزمية الوزن السكاني، وذلك حينما كان يبرر مطلبه بمقعد دائم لروسيا في منظمة المؤتمر الإسلامي داعيا للنظر إلى مسلمي روسيا بالأعداد المطلقة وليس بالنسبة المئوية التي تقف بهم عند حدود 15% من إجمالي سكان الدولة.

وليس من الحكمة أن نترك تفاصيل الاحتكاك الروسي الإسلامي في القرون الثلاثة الأخيرة تشوش رؤيتنا فتشغلنا عن تلمس مشهد جلي دخل فيه الإسلام منذ 1100 عام إلى ما يعرف اليوم بقلب الأراضي الروسية، وفي فترة كانت القبائل الروسية وثنية دينا وبدائية حياة.

ولم يبالغ بعض الباحثين الروس حينما رأى إعلان الأمير فلاديمير المسيحية ديانة لإمارته الروسية عام 988م، رد فعل لاعتناق شعب البلغار (حيث تترستان وبشكيريا الآن) الإسلام.

كما أنه ليس من الدقيق نعت مسلمي روسيا بسكان الأقلية (إذا قصد بذلك جماعة دخيلة على اللحمة الأصلية لأرض الدولة) فهم أصحاب أرض أصليون، وكانت لهم ممالكهم وسيادتهم قبل أن تسقط قلاعهم في النصف الأول من القرن السادس عشر لتكتب خضوع مسلمي الفولغا والقوقاز للسيطرة الروسية (لكل قصة منفصلة وإن تشابهت في النتيجة).

تتكون روسيا اليوم مما يزيد عن 90 وحدة إدارية (جمهوريات، أقاليم، مناطق، مقاطعات حكم ذاتي..إلخ)، ويتوزع المسلمون فيها في منطقتين رئيسيتين: منطقة الفولغا في قلب روسيا وذلك في ست جمهوريات (تترستان وبشكيريا وتشوفاش وموردوفيا وماري يل وأودمورت) إضافة إلى إقليم أورنبرغ.

والمنطقة الثانية منطقة القوقاز الشمالي وتشمل سبع جمهوريات (داغستان والشيشان وإنغوشيا وقبردين بلقاريا وأوسيتيا الشمالية-ألانيا وكارتشييف شركيسيا والأديغة).

ويبلغ إجمالي عدد المسلمين في هذه الوحدات الإدارية نحو 16-17 مليون نسمة، إضافة إلى 5-6 ملايين آخرين يتوزعون بشكل مبعثر عبر الأصقاع الروسية، من حدود الصين واليابان شرقا إلى حدود فنلندا غربا.

وينتمي المسلمون في روسيا إلى عائلات عرقية-لغوية متباينة تتشعب إلى 40 مجموعة تمثل لوحة فسيفسائية لا يجمعها رابط. وقد عمد التخطيط المركزي السوفياتي إلى تحريك سكاني قسري للحيلولة دون تكوين أغلبية عرقية في جمهورية من الجمهوريات، لتفويت الفرصة على مطالب انفصالها. كما تتباين المرجعيات الدينية لدى مسلمي روسيا وجيرانهم في القوقاز ووسط آسيا بين سنية وشيعية وأصولية وصوفية.

وهي حالة يمكن أن تصور نموذجا مصغرا للعالم الإسلامي الذي وجد فيه جمال حمدان حتمية لانتصار التنوع على أمل التوحد، ومن ثم تشكك –في بحثه الرصين عن العالم الإسلامي المعاصر- في إمكانية قيام وحدة إسلامية بالمفهوم السياسي.

هوية الإسلام الروسي


أنشئت الإدارات الدينية ومجالس الإفتاء بآلية شتتت أنظار مسلمي روسيا إلى مرجعيات متباينة لا تجمعها وحدة

أي نوع من الإسلام تريد روسيا إذا كانت ترفض الصدام والانفصال؟ طرح هذا السؤال منذ قرنين من الزمان وجاءت النتيجة بضرورة الوصول إلى ما اصطلح على تسميته "بالإسلام الروسي". الإسلام الروسي نسخة فريدة –في حينها- من الإسلام المستأنس القائم على الأعمدة التالية:

1. التعامل مع الشعوب الإسلامية في روسيا عبر وسطاء لهم قدسية التأثير وعقلية التفاهم مع رأس السلطة. ويمثل هؤلاء الوسطاء رجال الدين المتعلمين في أحضان الدولة والدعاة المؤهلين بمفاهيم السلطة المركزية. وبشكل مواز يتم الاستناد إلى رؤساء أقاليم مسلمين ينفذون سياسة أقرب إلى الإقطاعية بملامحها القائمة على المحسوبية والفساد.

وبمراجعة دراسات ميدانية حديثة في هذا الصدد يتضح استمرار السلطة في جمهورية إسلامية مثل تترستان في التفنن في مواجهة التيارات الدينية والقومية المعارضة خلال السنوات العشر الماضية باتباع وسيلتين أثبتتا نجاحا بالغا: أولاهما استمالة العناصر البارزة في المعارضة وفتح منابر لها للوصول إلى الناس ثم تشويه صورتها بإشاعة تبعيتها للسلطة، والثانية المزايدة على نفس المطالب التي تنادي بها المعارضة من خلال سرقة شعاراتها ورموزها وإعادة إنتاجها.

أخطر نتائج هذه الحيل زرع العداء والتشكيك وشغل حركات التجديد الفكري بمقاومة تيار ديني اصطلح على تسميته بالتقليدي وسلطة محلية نُعتت عبر العصور بالمتواطئة مع رأس النظام.

2. السماح بقيام حركات وأحزاب دينية تحت أعين السلطة تخلق حالة من التصالح الوطني مع الدولة في مقابل سماح السلطة لهذه الحركات بتحقيق امتيازات غير دينية كالحفاظ على الهوية القومية.

وبهذا الشكل يتم خفض سقف الطموحات إلى ممارسات إسلامية "احتفالية" وليس "عقائدية" وإحلال إسلام المناسبات (مراسم الزواج والدفن وصلوات الأعياد) محل إسلام المشروعات السياسية.

3. الانكفاء على مفاهيم قومية، فيصبح الخطاب التتري أو البشكيري أو الشيشاني أو الداغستاني بعيدا عن مفهوم الوحدة الإسلامية التي تربط هوية ومصير المسلمين في روسيا. وكم من مشروعات إسلامية روسية تعثرت بسبب علو الصوت القومي، فتعطلت قدرات وتعثرت جهود كان أمامها طريق طويل وشاق لجمع أطياف قومية وخصوصيات ثقافية متباينة لمسلمي روسيا.

وقد حدا هذا بباحثة مثل جالينا يميليانوفا في كتابها الجاد عن الإسلام في روسيا ما بعد السوفياتية، إلى التقرير بأن المرء في تترستان يعرّف نفسه بأنه تتري أولا ثم مسلم ثانيا.

ومن ثم فإن ما تحتاجه روسيا في تترستان وبشكيريا وأورنبرغ وفي الشيشان وداغستان هو ذاته ما كانت تحتاجه إبان حكم القيصرة يكاترينا العظمى في القرن الثامن عشر والتي أصدرت أمرا بإنشاء "الهيئة المحمدية الروحية" وهي مؤسسة دينية تحاكي بصورة باهتة الكنيسة الأرثوذكسية الخاضعة للسلطة، على حد استشهاد هيثم الجنابي في بحثه عن الإسلام في أوراسيا.


مع الإمعان في تبهيت وإرباك المؤسسات الإسلامية في روسيا تخرج أفكار نهضوية تدعو إلى العودة إلى الدين الخالص ونبذ علماء السلطة

وبالفعل فقد تم خلق الإدارات الدينية ومجالس الإفتاء بآلية شتت أنظار مسلمي روسيا إلى مرجعيات متباينة لا تجمعها وحدة. وفي ذلك يرصد أستاذ العلوم السياسية الروسي غادغييف في مؤلفه شبه المحايد عن جيوبوليتيكا القوقاز، مأزق تعدد المرجعيات الإسلامية في روسيا بالقول "يدهشنا كيف يغيب عن الإسلام وجود مؤسسة رسمية عامة تلعب ذلك الدور الذي تقوم به الكنيسة في المفهوم المسيحي، إذ ليس في الإسلام ذلك الحكر الذي تختص به مؤسسة دينية بعينها، فأي فرد تلقى تعليما ودراسة دينية لا يجد غضاضة في تفسير القرآن والحديث والتعليق عليهما بل ومراجعة ما أصدرته أية مؤسسة دينية متفق عليها".

ما يلاحظه غادغييف يذكرنا بوجود نحو 60 مفتيا في مناطق الجمهوريات والمناطق الإسلامية في روسيا يشكلون محور خلاف في عديد من المسائل الدينية الحرجة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ولقد انقسم بالفعل هؤلاء إلى فريقين بشأن الغزو الأميركي للعراق! وتزعم المفتي طلعت تاج الدين نحو 40 مفتيا أعلنوا الجهاد ضد الولايات المتحدة بينما هاجم المفتي رافيل عين الدين مع فريق آخر من المفتين ذلك التصرف واعتبروه زجا بالبلاد في حرب عالمية جديدة. وفي مشهد آخر تفاخر مفتي القسم الآسيوي من روسيا نفيع الله عشيروف بديمقراطية العلمانية الروسية تجاه الدين الإسلامي التي لم تمنع ارتداء الحجاب في المدارس كما فعلت فرنسا!

وهكذا، فمع الإمعان في تبهيت وإرباك المؤسسات الإسلامية في روسيا تخرج أفكار نهضوية تدعو إلى العودة إلى الدين الخالص ونبذ علماء السلطة، وإن كانت مفاهيم النهضة هنا تختلف باختلاف الأمزجة الثقافية للشعوب الإسلامية. ففي القوقاز يتم الرجوع إلى أفكار أصولية يجدونها في أعمال أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وحسن البنا، بينما لدى المسلمين في الفولغا يتم الرجوع إلى أفكار دينية-قومية يجدونها في أعمال الكورسوي والمرجاني وكسبرالي.

مبررات التفاهم


بقيت الشيشان والجمهوريات الإسلامية المجاورة في القوقاز تعامل معاملة مناطق الأطراف بكل ما تعنيه الكلمة من الإهمال والإدارة بأشكال عسكرية وحملات تأديبية

في مارس/آذار 2003 نقلت كريستيان ساينس مونيتور لقرائها تقريرا عن الإسلام في تترستان عنوانه "واحة الإسلام الهادئة في روسيا". وقد نقل التقرير نموذجا مغايرا غير المعتاد رؤيته في الشيشان، وأثار في أدمغة قرائه سؤالا منطقيا: ما الذي يجعل مسلمي الفولغا الذين يفوقون الشيشان سكانا ومساحة بعشرة أمثال، يفضلون التفاهم على الصدام؟

بداية لا يعني طرح السؤال انعدام سجل سابق للمواجهة، فلا ينسى التاريخ تلك الثورة الشعبية الدامية التي قام بها المسلمون التتار والبشكير بقيادة بوغاتشوف (1773-1775م) والتي أجبرت القيصرة يكاترينا العظمى (1762-1792م) على اتباع سياسة دينية جديدة أكثر تفهما لحقوق المسلمين وضرورة استيعابهم.

لكن تلك الثورة تمثل صفحة مختلفة اللون في كتاب التفاهم بين مسلمي الفولغا والسلطة المركزية، وربما جاء التفاهم للأسباب التالية:

– انصهار حضاري أملته خصوصية الموقع الجغرافي لإقليم الفولغا الذي تحول عبر القرون من إقليم هامشي حدودي إلى إقليم عبور للتوسع نحو سيبيريا وسواحل اليابان، وهو ما مثل عملية ابتلاع كبرى للهوية الدينية قامت بها الروسنة ومن بعدها السفيتة لمسلمي هذا الإقليم (لم يخل الأمر من تصفية جسدية لرجال الدين المعارضين، وتحويل المساجد إلى حظائر للماشية وإغلاق آلاف المساجد..إلخ).

وللمقارنة فإن علاقة السلطة بالأراضي الإسلامية هنا صارت علاقة مركز تجاه قلب بينما بقيت الشيشان والجمهوريات الإسلامية المجاورة في القوقاز تعامل معاملة مناطق الأطراف بكل ما يتضمنه مفهوم مناطق الأطراف من الإهمال والإدارة بأشكال عسكرية وحملات تأديبية.

– القدرات الاقتصادية المتنوعة التي ساهمت في استقرار اقتصادي دون معاناة وعوز، ذلك العوز الذي يعده فريق معتبر من الباحثين أحد أنواع الوقود الأولى لتهييج المطالب الانفصالية. ولا يمكن نسيان أن منطقة الفولغا الإسلامية مثلت قلعة روسيا الصناعية التي احتمت بها العقول والدروع إبان الغزو النازي على غرب روسيا.


الشيشان تمثل حالة نادرة من سيادة عرق واحد يدين بديانة واحدة داخل
حدوده الإدارية

وللمقارنة تعد الجمهوريات الإسلامية في القوقاز من أكثر مناطق روسيا تخلفا وتأخرا، وتقر الأبحاث العلمية الصادرة عن مؤسسات أكاديمية روسية بتدهور صحي وتعليمي لا يقارن.

– التمييع الديمغرافي بإغراق سكاني من عناصر سلافية وسط القوميات التترية والبشكيرية المسلمة بحيث لا تزيد نسبة المسلمين عن 50% من إجمالي سكان الوحدة الإدارية التي يعيشون بها. وقد نقل هذا اهتمام الأنتليجنتسيا التترية والبشكيرية إلى حمل هموم الحفاظ على النفس (العرق قبل الدين) من الذوبان. وللمقارنة فإن الشيشان تمثل حالة نادرة من سيادة عرق واحد يدين بديانة واحدة داخل حدوده الإدارية.

وفي النهاية، فقد لا تكون المساحة المتاحة قد سمحت بالولوج إلى كل أبواب القضية، فقضايا الإسلام الروسي لا تقف عند ثنائية الصدام والتفاهم، كما لا تقف تخوم هذه القضية عند علاقاتها الإقليمية، فما يدور في العالم الإسلامي ككل تحاكيه عبر القرون تطورات في مناطق روسيا الإسلامية لها نفس الجوهر وإن اختلفت مسمياتها، وعلينا أن نقترب بهدوء لاستكشاف العام منها والخاص، علنا نفهم في أي طريق يسير مسلمو روسيا، وهل من سبيل للقائهم؟
___________________
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.