علاقات المغرب وإسرائيل بين إملاءات تل أبيب ومرونة الرباط

undefined

* بقلم/ عبد السلام رزاق

– إملاءات إسرائيلية
– تحفظات مغربية
رسالة شارون التي لم تصل

في صيف مغربي ساخن بأحداث درامية غير مسبوقة, استهلت بتفجيرات الدار البيضاء الرهيبة التي خلفت 45 قتيلا من ضمنهم خمسة أجانب, وفيما لا تزال الاعتقالات والمحاكمات مستمرة في حق نشطاء السلفية الجهادية وذلك بشكل مواز مع دخول الأحزاب السياسية في أتون الحملة الانتخابية استعدادا لاستحقاقات اقتراع يوم 12 سبتمبر/ أيلول الجاري, جاءت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للمغرب لتعيد الشارع المغربي إلى حالة التشنج والغليان بعدما كان جميع الفرقاء السياسيين والحقوقيين قد صفقوا لموقف الحكومة السابقة بزعامة الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2000 عقب إصدار قرار إغلاق مكتبي الاتصال في كل من الرباط وتل أبيب بعد اندلاع الانتفاضة الثانية.

فالزيارة التي قال بحقها المراقبون إنها "زيارة غير مناسبة في وقت غير مناسب" غلب عليها طابع المجاملات الثنائية مع جرأة إسرائيلية متوقعة تروم الدفع بالأمور إلى مداها الأقصى, والتلويح بفتح السفارات في البلدين بعدما كان الحديث في الأوساط السياسية الإسرائيلية منها والمغربية مقتصرا في السابق على فتح مكاتب للاتصال لا غير.

والحال أن هذه الرغبة الإسرائيلية تم التحضير لها بهدف اعتماد سياسة الأمر الواقع مع المغرب أولا ثم الالتفاف على مجريات الأحداث في أراضي الحكم الذاتي كمحصلة نهائية, لكن يبدو أن السياسة الخارجية الإسرائيلية لم تنجح في تحقيق كسر المقاطعة العربية وإضافة المغرب إلى كل من مصر والأردن وموريتانيا, فالموقف المغربي بدأ متحفظا إلى أبعد الحدود حتى أن وزير الخارجية محمد بنعيسى لم يتوان في القول أمام رجالات الصحافة المحلية والدولية إن المغرب "غير متلهف لتطبيع علاقته مع إسرائيل إلا بعد تسوية ملف السلام في الشرق الأوسط وتنفيذ خارطة الطريق التي وضعتها القوى الرباعية المؤثرة في العالم وأيدتها كافة الدول العربية". لكن بنعيسى ترك الباب مفتوحا لدور مغربي مفترض في تقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين والإسرائيليين بما يخدم مسلسل السلام أولا ويزيد من حظوة المغرب أمام الولايات المتحدة الأميركية انتظارا لمهمات مستقبلية.

إملاءات إسرائيلية


استقالة أبو مازن تمثل ضربة موجعة للدور المغربي المفترض في مسيرة السلام الشرق أوسطية, دون أن يعني ذلك انتفاءه بصورة كلية

لم تكن زيارة رئيس الوزراء السابق محمود عباس أبو مازن للمغرب ولقائه بالعاهل المغربي محمد السادس في منتصف شهر مايو/ أيار الماضي ومطالبته بدور مغربي جديد في مسيرة السلام الشرق أوسطية, واللقاء السري لمحمد بنعيسى وسولفان شالوم يوم 27 يوليو/ تموز الماضي بالعاصمة البريطانية لندن، إلا محاولات لإحياء الدور المغربي في المسيرة السلمية الشرق أوسطية من موقع رئاسة المغرب للجنة القدس, لكن يبدو أن هذه الزيارة لم تستطع ولعوامل عدة تحقيق هذه الرهانات وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن إسرائيل كانت تبحث عن دور مغربي مرسوم سلفا, وحسب مقاس سياسة شارون القائمة على إعطاء الأولوية لمسألة التطبيع الثنائي مع الدول العربية ثم ربط أي وساطة عربية أو دولية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمسألة إيقاف العمليات الاستشهادية والأهم من ذلك عزل الرئيس الفلسطيني عن القرارات السياسية المستقبلية للشعب الفلسطيني.

وهذا الأمر يبدو أن تحقيقه أضحى أمرا مستحيلا, بل إن استقالة أبو مازن الأخيرة والمتوقعة بفعل الضغوطات تمثل في رأي صناع القرار السياسي المغربي ضربة موجعة للدور المغربي المفترض في مسيرة السلام الشرق أوسطية, دون أن يعني ذلك انتفاءه بصورة كلية ذلك أن رئاسة العاهل المغربي محمد السادس الدائمة للجنة القدس تمثل خلفية سياسية وروحية يتم اللجوء إليها من قبل الفلسطينيين والمغاربة أنفسهم عند الاقتضاء, كما أن الجالية اليهودية المغربية في إسرائيل والتي وصل تعدادها حسب آخر الإحصائيات الرسمية إلى 800 ألف إسرائيلي من أصل مغربي وهو رقم تتم العودة إليه كلما أريد للمغرب أن يقوم بدور ما في القضية الفلسطينية, برغم أن كثيرا من النتائج جاءت عكسية بسبب التوجه السياسي لهؤلاء حيث ينتمي أغلبهم إلى حزب شاس الديني المتطرف أو إلى حزب الليكود.

إن العلاقات المغربية الإسرائيلية وبالرغم من كل شيء ظلت محافظة على شرط استمراريتها وامتلاكها عناصر مقاومة السياسات العربية الرافضة لكل أشكال التطبيع منذ الثمانينيات, وذلك يعود إلى أن الموقف المغربي الرسمي من إسرائيل كان وما زال محكوما بالمنظور السياسي للملك الراحل الحسن الثاني في دعوته الشهيرة لملوك وقادة ورؤساء الدول العربية بعد حرب 1967 إلى الاعتراف بإسرائيل وتذويبها داخل الفضاء العربي. وهي التي لم يتجاوز تعدادها حينذاك مليوني نسمة, ويبدو أن الملك الراحل الذي عركته السياسة وعركها قد اقتنع بإمساك عصا التطبيع من النصف إلى حين ربما طال انتظاره.

إن الدور الإسرائيلي الجديد في الشرق الأوسط والعلاقات الإسرائيلية الأميركية أملت على الدولة المغربية منذ أكثر من عقد أن تأخذ موقفا يكاد يكون وسطا بين المهادنة وإبداء الصلابة وذلك تبعا لتحولات السياسة الدولية في المنطقة الشرق أوسطية والاقتراب أكثر من تخوم السياسة الأميركية ومساعداتها السخية.

تحفظات مغربية
و
رغم التحفظات الرسمية المعلنة من قبل الحكومة المغربية وإصرارها الدائم على القول بأن الزيارة تمت بدعوة من رئيس الوزراء الفلسطيني السابق أبو مازن وأن التطبيع أمر غير مطروح في الظرف الراهن, فإن ذلك لم يمنع الفرقاء السياسيين والحقوقيين من شن حملات قوية ضد الموقف الحكومي, كان أولها حزب العدالة والتنمية (حزب إسلامي معتدل) الذي أكد أحد قيادته "للجزيرة نت" أن زيارة المسؤول الإسرائيلي للمغرب في هذا الظرف بالذات "أمر غير مقبول لأنه لا يساير الموقع الافتراضي للمغرب كبلد متبن للقضية الفلسطينية من دون قيد أو شرط, وأن الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية تعيش أحلك لحظاتها في ظل الحصار المفروض على الرئيس عرفات وإصرار السلطات الإسرائيلية على بناء الجدار الأمني".


حالة الرفض التي جوبهت بها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للمغرب تعود إلى أن مسألة التطبيع ظلت محض رفض جماعي داخل أوساط المغرب الشعبية

وحزب العدالة والتنمية هذا الذي كان من أشد المعارضين في السابق لأي اتصال مع إسرائيل وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه, وما كان له أن يقدم على أمر أكثر من التنديد المحتشم, خاصة وهو الذي مازال يضمد جراحه عقب الحملات السياسية والإعلامية التي أصابته من قبل فصائل اليسار المغربي التي اتهمته "بالمسؤولية المعنوية عن تفجيرات الدار البيضاء", ومنعت أعضاءه من المشاركة في مسيرة الدار البيضاء ضد الإرهاب التي نظمت عقب يوم تفجيرات 16 مايو/ أيار 2003, بل إن الأمر وصل إلى أن طالب الرجل الثاني في حزب الاتحاد الاشتراكي بحل الحزب وطرد أعضائه الأربعة والثلاثين من البرلمان المغربي, لكن قيادة حزب العدالة والتنمية تمكنوا بل ونجحوا في امتصاص ضربات اليسار.. لكنهم وجدوا أنفسهم خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي في مرحلة التقاط الأنفاس ولم يقووا حينها على فعل شيء أكثر من "الإدانة الصامتة" وهي أضعف الإيمان, فبالرغم من أن الزيارة بالنسبة لهم شكلت استفزازا صريحا, فإنهم إعمالا لسياسة التقية اكتفوا باستعمال صحفهم لشن سياسة الهمز واللمز تجاه قادة وأطر أحزاب اليسار المشاركة في الحكومة التي يتزعم بعض أطرها إدارة "الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني".

حالة الشجب الحقيقية يبدو أنها انتقلت هذه المرة إلى النشطاء الحقوقيين. وبلغة تكاد تذكر بخطابات السبعينات الرافضة لكافة أشكال التعامل مع إسرائيل، فقد استنكرت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان الزيارة واعتبرت في بيان رسمي لها "أن أي تطبيع مع الكيان الصهيوني لن يخدم السلم وحقوق الإنسان والشعوب باعتبار إسرائيل كيانا عنصريا استعماريا إرهابيا وخارجا عن القانون الدولي".

إن حالة الرفض التي جوبهت بها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للمغرب أصعب من أن تحصر، فقد شملت معظم ألوان المشهد السياسي والحقوقي والمدني والسبب يعود إلى أن مسألة التطبيع في المغرب ظلت محض رفض جماعي داخل أوساط "المغرب الشعبي" لأن المغربية اليهودية ارتبطت بمشاركة الجنود المغاربة في حرب الجولان وسقوط بعضهم في الجبهتين السورية والمصرية, ولذا فإنه حتى أثناء لحظات فتح المكتب الإسرائيلي في الرباط فإن حالة التواصل مع المسؤولين الإسرائيليين كانت تقف عند حدود الأمور الرسمية جدا.


الدور المغربي في مسيرة السلام قائم على الدوام لكنه يحتاج السياق المناسب ودعم القوى الخارجية ورغبة الأطراف في تحقيق سلام عادل وشامل

وقد تكون تبريرات الحكومة المغربية في هذا الأمر معقولة من منظور المشرفين على القرار السياسي والاقتصادي الداخلي ما دام هؤلاء قد اقتنعوا بأن خطب ود أميركا يتم فقط عبر الطريق السيار لتل أبيب, وأن الوضعية الاقتصادية المغربية تستدعي الانخراط في النادي الأميركي لمحاربة الإرهاب والتطبيع مع إسرائيل بهدف أن تصل المساعدات السنوية الأميركية للمغرب إلى أكثر من 500 مليون دولار, وهو الرقم الذي يبدو بعيدا عن حجم المساعدات السنوية الممنوحة لمصر. والتي تصل أحيانا إلى مليار دولار, والسعر مرشح للزيادة حسب الحضور المصري في حل ملفات الشرق الأوسط.

ولا يزال معدل البطالة الذي بلغ 22% من السكان النشطين ووجود خمسة ملايين مغربي يعيشون تحت عتبة الفقر إضافة إلى تنامي معدلات الأمية التي بلغت 65%، تشكل قنابل موقوتة قد ترغم المغرب في المستقبل القريب على لعب دور جديد مقابل تلقي مساعدات مالية أو ربما تكون الخدمة المغربية الجديدة لأميركا أو لإسرائيل مقابل لعب دور جديد في الضغط على اللوبي الأميركي لإحياء الحل الثالث في تسوية ملف الصحراء المغربية والذي يخدم المنظور المغربي في تسوية النزاع الذي عمر أكثر من 28 سنة، حتى وإن كان الثمن هو عقد مؤتمر عالمي لليهود المغاربة في المغرب للضغط على شارون.

رسالة شارون التي لم تصل
لم يتوان سولفان شالوم وهو يطأ أرض المغرب للمرة الأولى في القول والتكرار بأنه يحمل رسالة خاصة من رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الملك محمد السادس, وبالرغم من أنه لم يتم الكشف عن فحوى هذه الرسالة, فالمؤكد أنها لم تصل إلى هدفها, وحتى إن وصلت فإن نتائجها أضحت بدون فائدة ما دامت الأحداث الأخيرة من قبيل الشروع في تصفية قادة حماس والتلويح بطرد عرفات والاستمرار في بناء الجدار الأمني كلها أمور أغلقت الباب أمام المبادرة المغربية دون أن تعني بالضرورة نهايتها, فالدور المغربي في المسيرة السلمية الشرق أوسطية قائم على الدوام لكنه يحتاج السياق المناسب ودعم القوى الخارجية ورغبة الأطراف في تحقيق سلام عادل وشامل.
ــــــــــــــــــ
مراسل الجزيرة في المغرب

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.