الحرب الإعلامية في غزو العراق

بقلم/د. نجيب الغضبان*

مع انتهاء المهلة التي حددها الرئيس الأميركي جورج بوش للرئيس العراقي لمغادرة بغداد، تكثفت الحرب النفسية والإعلامية بين القوى الدافعة والمعارضة للحرب الأنغلوأميركية على العراق.. فقبل بداية القصف الصاروخي الأول على مقر القيادة العراقية، كانت الكاميرات كلها مصوبة على بغداد لتنقل للعالم من الصور والتقارير ما يدعم موقفها من هذه القضية. الجديد في هذه الحرب الإعلامية عدة أمور منها:



  • تنقل القنوات الأميركية للمشاهد الأميركي ما تدعيه بأنه عملية تحرير العراق، في حين تستخدم بعض القنوات العربية تعبير القوات الغازية، وتقترب من الموقف الذي تجتمع عليه أغلبية دول العالم

    أولاً- تعدد القنوات والمحطات وجهات عمل الصحفيين والمصورين الذين يغطون هذه الحرب.

  • ثانياً- قد تكون هذه الحرب هي الأولى من نوعها التي يتم نقلها نقلاً حياً مباشراً، من كافة الجهات ومن كل النقاط الحساسة.
  • ثالثاً- أن بعض المحطات الرئيسية التي تغطي الحرب –خاصة قناة الجزيرة- لا تخفي تعاطفها مع العراق كبلد وشعب، وليس بالضرورة مع النظام العراقي. ولا يمكن التقليل من أهمية النقطة الثالثة، فلولاها لما تمكن العالم من إدراك معنى الحرب بما تحمله من قتل ودمار ومعاناة إنسانية، كما أنها تنقل للعالم روح التحدي والمقاومة التي يبديها الطرف الضعيف (العراق) في منازلة غير متكافئة.

إن مقارنة سريعة بين التغطية لقناتين أساسيتين هما محطة السي أن أن (CNN) وقناة الجزيرة، لا تظهر مجرد التباين الكبير في كيفية تغطية الحرب ومواضيعها، وإنما توضح أيضا كيفية استخدام وسائل الإعلام في هذه الحرب. ويمكن تلخيص الفوارق الرئيسية بين تغطية القناتين بما يلي:

  • أولاً- تتبنى قناة السي إن إن -شأنها شأن كل المحطات الأميركية- مقولة الإدارة الأميركية بالتأكيد على أن الهدف من الحملة العسكرية هو تحرير الشعب العراقي من نير نظامه. وبعد بدء الأعمال العسكرية ضد العراق، وضعت القنوات الأميركية حداً للتساؤلات أو النقاش الذي يُمكن أن يثار حول الأهداف الحقيقية للحملة الأميركية، وتركز جل وقتها وطاقتها لتنقل للمشاهد الأميركي ما تدعيه بأنه عملية تحرير العراق.
    في المقابل تستخدم قناة الجزيرة -ولحد أقل قنوات العربية وأبوظبي وإل بي سي اللبنانية- تعبير القوات الغازية، وتقترب من الموقف الذي تجتمع عليه أغلبية دول العالم وشعوبها بكون هذه الأعمال العسكرية غير شرعية وغير مبررة.


  • عرض قناة الجزيرة صور الأسرى الأميركيين أثار استياء في الولايات المتحدة، إذ انتقد مسؤولون أميركيون الجزيرة في حين منعت سوق الأوراق المالية مراسلها من الاستمرار في عمله

    ثانياً- يوجد أغلب مراسلي السي أن أن مع القوات الأميركية الغازية المنتشرة في كل مكان داخل العراق وعلى حاملات الطائرات، وبهذا فهم ينقلون وجهة نظر البنتاغون، الأمر الذي يجعل الكثير من تقاريرهم محكومة ومقيدة بوجهة نظر القادة العسكريين الأميركيين. أما أغلب مراسلي الجزيرة فيوجدون على الأرض في بغداد وبقية المدن العراقية، كما أن هناك مراسلا يرافق القوات الأميركية في الجنوب. وبالرغم من أن الجزيرة لا تمثل طرفاً في هذا النزاع، فإن التعاطف الواضح الذي يبديه مراسلوها مع الطرف "المعتدى عليه" لا يمكن إخفاؤه. وبعد مغادرة مراسل السي أن أن لبغداد بطلب من السلطات العراقية، تجد "أم القنوات" (السي أن أن) نفسها في حاجة للاستعانة بالمشاهد والتقارير التي تبثها القنوات العربية والعالمية الأخرى الموجودة تحت سيطرة الحكومة العراقية لنقل ما يجري.

  • ثالثاً- تركز قناة الجزيرة تغطيتها على آثار القصف والدمار الذي تحدثه الآلة العسكرية الأميركية، وخاصة على مشاهد المصابين من المدنيين الأبرياء. ولا شك أن تكرار عرض صور ضحايا القصف الأميركي -خاصة من الأطفال والنساء- يسهم في تحريك الشارع العربي ويزيد من حالة الحنق والمعاداة تجاه الولايات المتحدة. أما قناة السي أن أن فقلما تعرض صوراً للضحايا الأبرياء، رغم إذاعتها لنبأ مقتلهم أو إصابتهم. كما أن المحطة الأميركية غالباً ما تشكك في أن الإصابات هي بسبب الصواريخ أو القنابل الأميركية، وأنها قد تكون نتيجة المضادات العراقية، أو أن قوات صدام هي التي تقوم بها لتقليب الرأي العام المحلي والعربي على القوات المعتدية!
  • رابعاً- تفردت قناة الجزيرة في نقل الصور الأولى للأسرى والقتلى الأميركيين، واستمرت في نقل خسائر القوات الأميركية، وهو ما لا تستطيع قناة كالسي أن أن تجاهله، فقد قامت المحطة الأميركية بنقل الخبر لكنها لم تقم بعرض المقابلات التي تمت معهم، واكتفت بالإشارة إلى تقرير قناة الجزيرة عن الحدث، وعرضت صوراً للأسرى بعدما تم التأكد من الأمر من قبل البنتاغون. الأثر الواضح لعرض خسائر القوات الأميركية يتمثل في رفع معنويات العراقيين في مواجهة القوات الغازية. والسي أن أن تدرك الأثر النفسي السلبي على القوات الأميركية، فتكتفي بنقل النبأ وتركز في حال نشر الأسماء من قبل القيادة العسكرية في التركيز على الجانب الإنساني للقتلى وإبراز التضحية من أجل حماية الأهداف "السامية" مثل الدفاع عن حرية الولايات المتحدة.

قيام قناة الجزيرة بعرض صور الأسرى الأميركيين أثار استياء رسمياً وشعبياً هنا في الولايات المتحدة، فقد قام مسؤولون أميركيون بانتقاد الجزيرة في حين منعت سوق الأوراق المالية مراسلها من الاستمرار في عمله تعبيراً عن حنقها حول تقرير الأسرى. النقطة الجوهرية هنا أن بعض الجهات في الولايات المتحدة -رغم ما يعرف عنها من التسامح وحرية التعبير والإعلام- تتقمص عقلية حكومات العالم الثالث في تعاملها مع الرأي الآخر أثناء الأزمات والحروب. ومع ذلك، لا يخفي كثير من الأميركيين -خاصة في أوساط المثقفين- إعجابهم بقناة الجزيرة وإن اختلفوا مع تغطيتها.


أثبتت القنوات الفضائية العربية -وعلى رأسها الجزيرة- أنها يمكن أن تصل إلى مركز الندية مع القنوات الغربية

قناة الجزيرة ما كان لها أن تحصل على التميز في تغطيتها للحرب لولا التعاون والتسهيلات التي تبديها الحكومة العراقية للقناة الفضائية. وطبيعي أن الحكومة العراقية التي لا يُعرف عنها أنها تمقت الرقابة على المعلومات وتعشق الشفافية في الأوضاع الطبيعية، تدرك أن الجزيرة –بعدما نجحت في إثبات جدارتها ومصداقيتها في تغطية القضية الفلسطينية والحرب على أفغانستان- تعتبر من أفضل الوسائل لنقل وجهة نظرها في هذه الحرب المفروضة عليها.

وللإنصاف، فقد برهنت الحكومة العراقية أنها تبتعد عن المبالغات واختلاق الأخبار وهو ما عُرفت به أثناء حرب الخليج عام 1991، الأمر الذي أفقدها المصداقية أمام الشعوب العربية والعالم. قناة الجزيرة من ناحيتها، مثلها مثل أي قناة إخبارية لم تزهد في العرض الذي قدم لها، أو في إهمال الفرصة التي تشكلها هذه الحرب لتنقل للعالم الوجه الثاني للحرب الذي تميل القنوات الأميركية لإخفائه.

وأخيراً، فإن من أهم النتائج للمنافسة والحرب الإعلامية الحالية ما يلي:

  • أولاً- وجود هذا العدد الكبير من الكاميرات والعدسات والمراسلين والصحفيين على جانبي الصراع، يعني أن من الصعب تمرير أخبار غير صحيحة. كما أن وجود هذا العدد الكبير من وسائل الإعلام سيعقد مهمة القوات المتحاربة في الاستهداف العمد للمدنيين، أو في ارتكاب جرائم حرب والتغطية عليها.
  • ثانياً- كسرت القنوات العربية الفضائية احتكار القنوات الأميركية والغربية للمعلومة، وغدا إلى غير رجعة العصر الذهبي للسي أن أن.

لقد أثبتت القنوات الفضائية العربية -وعلى رأسها الجزيرة- أنها يمكن أن تصل إلى مركز الندية مع القنوات الغربية، وأنها الأقرب لقلب المشاهد العربي طالما أبقت على احترامها لعقله.
ــــــــــــــ
* أستاذ العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة أركنسا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.