مقهى حنفطة بطنجة.. بارتشي وأتاي وطرب وكيف

حركة نشطة في مقهى حنفطة الذي يشكل معلما في مدينة طنجة الساحلية بالمغرب
حركة نشطة في مقهى حنفطة الذي يشكل معلما في مدينة طنجة الساحلية بالمغرب (الجزيرة)

فاطمة سلام- طنجة

عندما يقول محمود درويش إن "القهوة لا تشرب على عجل.. القهوة أخت الوقت تُحتسى على مهل.. القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة.. القهوة تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات"، فإن ذلك يسري بشكل دقيق في المغرب على شرب الشاي بالنعناع وطقوسه في مقاهي البلد العتيقة.

مقهى "حنفطة" بمنطقة مرشان في طنجة، واحد من هذه المقاهي.. به وأمام كأس كبيرة من "أتاي" -الاسم المحلي للشاي في المغرب- يجالس الزائر الذاكرة حتى تنضح تفاصيلها الغابرات، بالذات كما ينضح لون الشاي ما بين البني والأصفر، وكما تبدو "كمشة" النعناع بالداخل طازجة جدا.

تقول رواية سمعناها من المالك الحالي للمقهى نبيل الطويل الغرباوي (41 عاما) أن محمد حنفطة -صاحب المقهى الأصلي والذي يستمر في حمل اسمه إلى اليوم- كان يعمل في حديقة قصر مندوب السلطان محمد الخامس بالمدينة، قبل أن يهبه عام 1935 قطعة أرض لإنشاء مشروع خاص، اختار حنفطة أن يكون مقهى.

رغم قدم مقهى حنفطة إلا أنه لا يزال مركز جذب للشباب لقضاء أوقات فراغهم بالتسلية وتجاذب الحديث (الجزيرة)
رغم قدم مقهى حنفطة إلا أنه لا يزال مركز جذب للشباب لقضاء أوقات فراغهم بالتسلية وتجاذب الحديث (الجزيرة)

وهي الرواية التي يتمها لمجلة "الجزيرة" أحمد شقور (84 عاما) بالقول إن المكان الذي اختير لإقامة المقهى قرب ملعب مرشان، لم يكن مناسبا لاعتبارات تتعلق بمرور موكب المندوب، فطلب إليه عام 1937 تحويله إلى موضع قريب في حي مرشان العريق، بالضبط إلى غابة صغيرة كانت تتوسطه.

رواية أخرى حول تأسيس مقهى حنفطة، يرجح كفتها المؤرخ رشيد العفاقي في تصريح لمجلة "الجزيرة"، تقول إن محمد حنفطة كان لاعب كرة قدم معروفا ضمن فريق "الموغريب" المحلي، واختار أن يؤسس مقهى يجتمع فيه الرياضيون والمشجعون قريبا من ملعب مرشان.

بين الروايتين حقيقة أن المقهى كان مجتمعا صغيرا حركيا، ولعب دورا سياسيا كما يقول العفاقي، عندما اجتمع فيه سكان طنجة -أسوة ببقية مقاهي المدينة الشعبية الشهيرة- للمطالبة بإعادة سلطان البلاد محمد الخامس إلى المغرب، بعد أن نفته سلطات الحماية الاستعمارية الفرنسية إلى جزيرة مدغشقر.

اللافت أن المكان الذي نتحدث عنه، كان ساعتئذ عبارة عن مبنى صغير بني من زنك، "كنا نشرب الأتاي ونتسامر بينما يرشح السقف القصديري بقطرات المطر" كما يقول شقور، قبل أن يُدخل عليه مالك سابق تسلمه من حنفطة ثم المالك الحالي الشاب، تغييراتٍ أعادت بناء أساساته بالإسمنت، لكن دون أن تمس روح البساطة فيه.

المقهى على بساطته يجتذب زوارا كثرا خصوصا في نهاية الأسبوع (الجزيرة)
المقهى على بساطته يجتذب زوارا كثرا خصوصا في نهاية الأسبوع (الجزيرة)

الجدران التي بنيت احتفظت بصور بالأبيض والأسود تعود لعقود، تضم فريق "الموغريب" لكرة القدم، وأعضاء من الكشفية المغربية كان المقهى مكان تجمعهم الأثير، في حين اعتني بأشجار الأوكاليبتوس والزيتون وكرمات التين، الموجود عدد كبير منها في المكان منذ 150 عاما.

كذلك لم تتغير الوجوه التي تزور المقهى، الشيخ أحمد شقور ومن بقي على قيد الحياة من مجايليه يزوره منذ سنوات شبابه، بينما ينشأ أيضا تحت ظلاله جيل آخر يرعى زمن الورد، تجمعهم ذات الرغبة في عيش المشترك ببساطة ودون تكلف. لذا إن أردت النظر إلى المقهى بعيني المرتاد اليومي، فسيتبدى لك مكانا حميميا للقاء الخاصة والخلو بالنفس، لن تحتاج فيه إن كنت دون أصدقاء أن تبحث عن الرفقة، يقدمها المقهى كسمة تبصمه.. فيه تعرفك كل الوجوه دون أن تجمعك بها قرابة أو صلة، يكفي أن لها ذات رائحة الوطن وتجاعيد التناوب بين برد الحياة وقيظها، وتنبعث من الأكف رائحة النعناع والسكر و"الكيف".

"للبارتشي" انتظارية الحظ وصبر الخبرة.. طرفان على حدي طاولة، بينهما رقعة لعبة بهذا الاسم، يتقدم فيها هذا بنرده ليتراجع ذاك.. يستمران على هذه الحال إلى أن يغنم أحدهما بالفوز، ولا فائز حقيقي في البارتشي كما في الحياة، يوم لك ويوم عليك.

صوت نرد البارتشي مميز، يمكن أن تميز نقره لطاولة اللعب من بين أصوات أخرى، وبعفوية يصبح جزءا من مخيلتك عن مقهى حنفطة، إلى جانب لذة الشاي الذي يعده فيه الرجل الستيني محمد.

تدخين الكيف في المقهى يجذب بعض الشباب المغربي (الجزيرة)
تدخين الكيف في المقهى يجذب بعض الشباب المغربي (الجزيرة)

يشتغل محمد في هذه المهنة منذ 40 عاما كما يقول لمجلة "الجزيرة"، لم يتنازل فيها يوما عن جودة المشروب الذي يقدمه، جامعا فيه بين أصالة حبوب الأتاي وصحية الأعشاب الطبية والعطرية التي تصل إلى 50 نوعا، والمرصوصة في مطبخه الصغير بالمقهى ميبسة وقريبة من متناوله. الفرق أن كأس الأتاي قبل عقود كان بستين فرنكا (أي أقل من درهم مغربي)، كما يتذكر في حنين الشيخ أحمد شقور، بينما يساوي اليوم ثمانية دراهم.

أما ليلة الجمعة فلها خصوصية في مقهى حنفطة، حيث تخصص للطرب الأندلسي أو طرب الآلة كما يسميه الطنجيون.

منذ 50 عاما والمقهى يقدم هذا التقليد في ليلتي الجمعة والسبت من كل أسبوع، قبل أن يبدأ مؤخرا بالحفاظ عليه ليلة الجمعة فقط أمام إلحاح مقهى عريق آخر بمدينة أصيلة القريبة على إحيائها فيه نقلا ومشاركة للمتعة والفائدة.

تجد مكانك بصعوبة ليلة الجمعة في حنفطة.. مريدو الطرب الأندلسي الذي انتقل إلى مناطق المغرب العربي مع أولى الهجرات بعد سقوط الأندلس، كُثر. وهنا يتخلى المقهى عن طابعه الرجالي المعتاد في ظل حضور نسائي قليل، ليلبس حللا وحالات عاشقي الطرب نساء ورجالا.

حفلات الطرب الأندلسي الأسبوعية في مقهى حنفطة جعلت منه معلما مميزا في طنجة (الجزيرة)
حفلات الطرب الأندلسي الأسبوعية في مقهى حنفطة جعلت منه معلما مميزا في طنجة (الجزيرة)

يتكون الجوق الذي يحيي الليلة من "مجموعة مولعين، تكبر وتصغر حسب الظروف.. لا التزام إجباري للحضور، بعضنا متقاعد من العمل والآخر يشتغل، والبعض شباب يصقلون هواية الإنشاد والعزف لديهم" كما يقول الخمسيني والمتقاعد مصطفى البقالي عازف الفلوت بالجوق.

يبدأ العزف دائما بنوبة "رمل الماية، المادحة لأحمد الرسول الهادي المجتبى" قبل أن ينتقل إلى نوبات أخرى، فمن بديع صنعة الأندلسيين أنهم قسموا ساعات النهار والليل إلى 24 وقتا/نوبة، معظمها للمديح الديني وبعضها للتقرب من المعشوق ووصف مشاق الحب وجماليات الحياة.. الرابط بينها تصوف الروح والمقام بين يدي الشعر العربي الشفيف والمدقق في فصاحته.

بين حضور الطرب الأندلسي، مريدون من نوع خاص، يمتدون بالروح الكلي عبر غمامات الدخان إلى مدارج لا يدركها سواهم.. إنهم مدخنو "الكيف بالسبسي". الأول منثور مستخلص من نبتة الحشيش، والثاني زوادته التي يدخن بها، وهي عبارة عن قطعة خشب تشبه الناي القصبي في نحتها وطولها، مقسمة إلى جزأين الأعلى يسمى "الأنثى" والأسفل "الذكر"، يمتدان عبر بعضهما إلى "الشقف" حيث توضع نثارة الكيف وتشتعل قبل أن يبدأ في تدخينها.

"دوخة الكيف" كما يسميها خالد (25 عاما) المتعاطي له مع موسيقى الآلة الأندلسية، تجعلان المدخن "منغما"، أي أنه سابح بين النغم والدخان.

المصدر : الجزيرة