-العنوان:النفوذ الإستراتيجي الإيراني في العراق |
قبل الإبحار مع الحقب الزمنية السابقة وحروب الإيرانيين على العراق التي تمتد إلى الزمن البابلي، حيث هاجم الفرس للمرة الأولى بلاد وادي الرافدين واحتلوا مدينة بابل عام 539 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور الفارسي كورش، لا بد من الإشارة إلى أن محاولات الإيرانيين للسيطرة على العراق وابتلاعه لم تتوقف.
وإذا اتسمت هذه الطموحات بطابعها الإمبراطوري في العصور القديمة، فإنها أخذت منهجية عقائدية لا تخفيها الزعامات الإيرانية بعد دخول الإيرانيين في الإسلام عام 637 للميلاد، وتبلور هذا الاتجاه بصورة أكثر وضوحا، بعد تسلم الحكم في إيران إسماعيل الصفوي عام 1510، واتخاذه قرار تشييع الشعب الإيراني، وحرصه ومن جاء من بعده على تكريس هذا التوجه في الحكم بين الإيرانيين أولا، ومن ثم الانتقال به إلى العراق بحكم الجوار الجغرافي، وتداخل القبائل والعشائر القريبة من الحدود بين العراق وإيران التي تمتد لمسافة 1350 كلم.
فرصة ثمينة جدا
لم تتوفر فرصة للإيرانيين لبسط هيمنتهم على العراق كما حصل بعد عام 2003، فقد دفعت إيران بكل قوتها لتثبيت أركان العملية السياسية في العراق، ولم تتردد الحكومة في طهران في مباركتها لأول شكل حكومي بعد الغزو الأميركي، والمتمثل بمجلس الحكم الانتقالي الذي شكله الأميركي بول بريمر منتصف يوليو/تموز 2003، رغم الانتقادات الكثيرة وعلامات الاستفهام العديدة التي أثارها ذلك الدعم، بسبب عداء إيران المعلن بالمطلق للولايات المتحدة، والتي تسميها إيران منذ تولي آية الله الإمام الخميني الحكم في إيران في فبراير/شباط 1979، بـ"الشيطان الأكبر" في تأكيد على معاداتها لها.
كما حرصت الحكومة الإيرانية على دعم الحكومات المتلاحقة في العراق بعد 2003، والدستور الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2005، ولم يتردد الرئيس الإيراني في زيارة بغداد المحتلة من قبل القوات الأميركية في الثالث من مارس/آذار 2008، ولقاء المسؤولين الحكوميين في بغداد تحت حماية القوات الأميركية، بهدف دعم الأحزاب الحاكمة والمدعومة من إيران.
كان الحديث عن تدخل إيران في العراق خلال سنوات الاحتلال الأميركي خجولا، لكنه سرعان ما أصبح واقع حال |
كان الحديث عن تدخل إيران في العراق خلال سنوات الاحتلال الأميركي خجولا، لكنه سرعان ما أصبح واقع حال، لدرجة أن الوصف المتداول حاليا، يذهب إلى أنها هيمنة إيرانية على مفاصل الأمن والاقتصاد والسياسة.
جذور الأطماع الإيرانية
يلفت الدكتور عبد الستار الراوي -وهو أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد وسفير العراق لدى إيران قبل الغزو الأميركي للعراق- في تقديمه للكتاب، إلى أن التمثيل الدبلوماسي الرسمي بين العراق وإيران قد بدأ منذ عام 1848، في أعقاب معاهدة أرض روم الثانية، لكن عندما تأسست الدولة العراقية الحديثة عام 1921، كانت إيران الدولة الوحيدة التي امتنعت عن اعترافها بالمملكة العراقية، ولم تغير إيران موقفها إلا عام 1929، وعلى إثر ذلك تأسست أول قنصلية إيرانية في بغداد.
وبعد هذا التاريخ نشط الإيرانيون لبسط نفوذهم في العراق، فبلغ عدد القنصليات الإيرانية حتى عام 1934، ثماني قنصليات، موزعة على محافظات بغداد، والبصرة، والعمارة، وكربلاء، وديالى (خانقين) وأربيل والسليمانية والموصل.

عندما تأسست الدولة العراقية الحديثة عام 1921، كانت إيران الدولة الوحيدة التي امتنعت عن الاعتراف بالمملكة العراقية، ولم تغير موقفها إلا عام 1929 |
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المقصود بالمناطق المقدسة من الناحية الجغرافية، شمولها منطقة سامراء (100 كلم شمال بغداد) نزولا إلى محافظتي كربلاء والنجف مرورا بمدينة الكاظمية المحاذية لبغداد، مما يعني قضم قلب العراق وضمّه لإيران.
لم تتوقف إيران عند تلك المطالب، إذ يقول الدكتور العزاوي، إنها قد زادت من مطالبها في ورقتها المقدمة إلى مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 بعد انتهاء الحرب الأولى، لتشمل هذه المرة الموصل في شمالي العراق ومناطق تمتد لحدود الفرات.
حرب الثماني سنوات
تعد الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) من أبرز العلامات الفارقة في العلاقات بين البلدين، فقد اندلعت هذه الحرب بعد عام ونيف من تولى الحكم في إيران نظام آية الله الإمام الخميني في فبراير/شباط 1979، وكان الخميني قد عاش في العراق منفيا من نظام الشاه قبل أن يقرر العراق إبعاده على خلفية اتفاق الجزائر عام 1975 بين العراق وشاه إيران.
ويتحدث المؤلف عن دور إيران في تسهيل الغزو الأميركي للعراق، كما يقول إن أجهزتها الأمنية وقفت وراء تصفية واغتيال الطيارين والضباط العراقيين المشاركين في الحرب بسبب هزيمة إيران أمام الجيش العراقي فيها، كما تمت تصفية الكثير من الكفاءات والعلماء العراقيين بعد الغزو.
بنيت الدولة الإيرانية المؤلفة من ثلاثين محافظة إدارية بعد ثورة الخميني عام 1979 على نظرية ولاية الفقيه في الحكم، وتم إعداد دستور وفق تلك النظرية |
وقبل أن يتناول المؤلف أثر النفوذ الإيراني في العراق على المحيط العربي والإقليمي، يرسم صورة مكثفة للدولة الإيرانية المعاصرة، يقول بهذا الصدد، لقد بنيت الدولة الإيرانية المؤلفة من ثلاثين محافظة إدارية بعد ثورة الخميني عام 1979 على نظرية ولاية الفقيه في الحكم، وتم إعداد دستور وفق تلك النظرية، والذي ينص على أن المرشد الأعلى للثورة هو أعلى سلطة قانونية في إيران وله السيادة الدينية والسياسية في البلاد.
ثم يخصص المؤلف عدة مباحث يسلط الضوء فيها على صناعة القرار في إيران. ففي الجانب السياسي يحلل هيكلية منظومة القيادة الإيرانية المعاصرة، وقيادة الدولة والسلطات والأمور الأخرى، كما يخصص مساحة واسعة للمؤسسة الدينية الإيرانية وتطورها، ثم يعالج الجانب الاقتصادي، قبل أن يبحث موسعا في الجانب العسكري.
ويتوزع الجانب الأخير على عدة عناوين، منها الجيش والأجهزة الأمنية، وفيلق الحرس الثوري الإيراني، الذي يقول عنه إنه الذراع الرئيسي للقيادة الإيرانية في تحمل مسؤوليات الدفاع عن البلاد وحفظ نظام ولاية الفقيه، ويمثل جيشا ثانيا، ربما يوازي القوات المسلحة التقليدية أو يتفوق عليها في بعض الصنوف.
ومن أبرز مسؤوليات هذا الفيلق، تصدير الثورة الإيرانية إقليميا ودوليا، ودعم وإسناد كافة الحركات والتيارات الإسلامية التي تؤمن بولاية الفقيه بشكل مباشر، والمنظمات والحركات المتطرفة والثورية من التيارات الإسلامية الأخرى بشكل غير مباشر.
أما قوة القدس، التي تمثل جوهرة العقلية الاستخبارية الإيرانية -كما يصفها المؤلف- فإن مهامها تنحصر في تنفيذ العمليات الخاصة داخل وخارج إيران، معتبرا أنها شغلت القيادات السياسية والاستخبارية الإقليمية والعالمية.
ازداد التحرك الإيراني بعد الثورة الإيرانية عام 1979 ليشمل الدول العربية في أفريقيا، كما استهدف هذا التحرك العالم الإسلامي في مختلف بقاع العالم |
وازداد التحرك الإيراني بعد الثورة الإيرانية عام 1979 ليشمل الدول العربية في أفريقيا، كما استهدف هذا التحرك العالم الإسلامي في مختلف بقاع العالم، وفي مقدمة ذلك أفغانستان وباكستان والدول الإسلامية الخمسة التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق.
ويؤكد الكاتب أن كل ذلك يمثل قاعدة انطلاق لقوة القدس في أوروبا، مما يزيد من نفوذ إيران في عموم القارة، مشيرا إلى أن لإيران علاقات مع الكثير من دول العالم في أميركا الوسطى والجنوبية وآسيا وأفريقيا، ولها جاليات في الكثير من دول العالم، مستنتجا تأثير ذلك في مناقشة وإدارة ملفها النووي مثار الاهتمام الإقليمي والدولي في الوقت الحاضر.
يُسهم كتاب الدكتور حافظ العزاوي في تتبع مسارات وتحرك المشروع الإيراني في العراق والمنطقة والعالم، وفي الوقت نفسه يحذر من ضرورة نهوض مشروع عربي يستكشف أبعاد النفوذ الإيراني ويشرع في معالجات جوهرية لهذا الأمر.