محمد علي كلاي وأثره في الحياة الأميركية

كامبردج بوك ريفيوز
محمد علي كلاي يكتسح الحلبة من جديد, ولكن هذه المرة ليس حلبة الملاكمة بل حلبة الإعلام والسينما والكتب. فهذه الأيام تشهد بعثاً إعلامياً مثيراً حول حياة الملاكم الذي شغل العالم, والذي دخل التاريخ كأعظم رياضي في الألفية الماضية. كتب كثيرة صدرت عنه, لكن ليس بكثافة ما يصدر عنه هذه الأيام.


undefined-اسم الكتاب: محمد علي
–المؤلف: وليم ستراثمور
-عدد الصفحات:384
-الطبعة:
الأولى 2001
الناشر: London, Daily Mail, 2001

يوازي ذلك بداية عرض الفيلم الكبير الذي طال انتظاره عن علي, أو "الأعظم" (The Greatest) كما درجت تسميته في وسائل الإعلام الغربية. وفي خضم هذا الاهتمام اللافت نطالع اليوم أحد الكتب الممتعة والغنية، الذي تناول في تسعة أجزاء حياة الرجل المليئة بالأحداث المثيرة.

يؤرّخ الكتاب لمراحل البطل المختلفة في رياضة الملاكمة، كما يدوّن مقولاته الشهيرة التي تحولت إلى أفكار وأطروحات حملت معها أفكاراً تبنتها العديد من الحركات العالمية لحقوق السود في حقب مختلفة. فمحمد علي كلاي لم يكن ملاكماً وحسب, بل إنسانا متمردا ضد النظام المحيط به المشبع بالعنصرية, فكان أن حمل لواء ملاكمتها كما يلاكم خصومه.


هذه الأيام تشهد بعثاً إعلامياً مثيراً حول حياة الملاكم الذي شغل العالم, والذي دخل التاريخ كأعظم رياضي في الألفية الماضية. كتب كثيرة صدرت عنه, لكن ليس بكثافة ما يصدر عنه هذه الأيام

تاريخ في الملاكمة وصور
يحفل الكتاب بالصور التي تؤرخ لمباريات محمد علي مع كبار ورموز لعبة الملاكمة العالمية من بداية منازلته مع هنري كوبر، إلى جون فريزر. ويقول الكتاب إن اسم محمد علي كلاي بزغ لأول مرة عندما فاز بالميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية في روما عام 1960م، متفوقاً على أشهر ملاكمي تلك المرحلة الزمنية، مما جعل منه الفتى الذهبي في الرياضة الأميركية. إذ عندما عاد من روما إلى الولايات المتحدة أصبح بسرعة البرق نجماً لامعاً تصدر الصحف ووسائل الإعلام.

تميز كلاي ومنذ مرحلة شبابه بمفاجآته الكثيرة، ففي عام 1964 فاجأ متابعي رياضة الملاكمة العالمية بتغلبه على البطل العالمي في الوزن الثقيل سوني ليستون، وبانتزاع اللقب العالمي منه. ثم فاجأهم ثانية وفاجأ العالم بإعلانه اعتناقه الإسلام مباشرة بعد انتصاره على ليستون، وليحول اسمه القديم كاشيوس إلى محمد علي. أما قراره الجريء في عدم المشاركة في القتال في حرب فيتنام فقد حوله من بطل قومي للولايات المتحدة وفي عيون عشاقه إلى عدو لها ولو إلى بعض الوقت, وخاصة للمؤسسة الحاكمة.

يتناول الكتاب المدعم بالصور واللقطات ملامح عن حياة محمد علي كلاي المهنية والشخصية، وعلاقاته مع أصدقائه، وإعادة اكتشافه لأصله وهويته الأفريقية. كما يتناول في فصل كامل الإسلام في حياة الملاكم الكبير. ومما يلفت إليه الانتباه في أحد الفصول تركيزه على بعض السمات المميزة في شخصية علي كلاي كعدم رغبته في أن يشير عليه أحد بما يجب عليه فعله أو تصرفه، سواء كان ذلك الشخص مدربه الخاص أو حتى إمام المسجد. ويعلق البعض عليه هنا بقوله إن هذا الرجل "يعرف ما يود عمله وكيفية عمله". كما لم يكن يأبه بالتكاليف العالية التي سيدفعها جراء تمسكه بما يؤمن ولو كانت التكلفة الوقوف في وجه مجتمع كامل من المحبطين.

فعندما طُُلب منه أن يعلن دعمه "لأمة الإسلام" كشرط مسبق قبل دخوله حلبة الملاكمة في مباراته التاريخية مع الملاكم ليستون، رفض ذلك بشدة وانتظر حتى تغلب على منافسه, ومن ثم أعلن عن إسلامه بعد حصوله على اللقب العالمي وتجريد منافسه منه. كما كان قراره رفض الخدمة العسكرية في فيتنام بالغ الخطورة في تعريض مهنته كملاكم لخطر الانتهاء، ولكنه عاد وبعد سنوات من الحبس إلى صدارة الخارطة الرياضية العالمية.

أعظم رياضيي القرن العشرين
وفي سنين عمره الأخيرة، نال محمد علي كلاي لقبه الكبير كـ" أعظم رياضيي القرن العشرين على الإطلاق"، واستفاد كلاي من هذا التكريم في الاستمرار في نشر آرائه القوية عن المساواة. كما أنفق أمواله التي كسبها في مبارياته العالمية في مساعدة الفقراء والناس الأقل حظا في مختلف بلدان العالم مما وسّع من جماهيره العريضة لتمتد خارج نطاق عشاق لعبة الملاكمة. فهو بذلك يثبت أن جسد المرء إذا ضعف مع توالي الأيام والسنون فإن روحه النبيلة تبقى تؤثر في تصرفات الناس وأعمالهم.


تأثر سكان الجنوب الأميركي بأفكار كلاي السياسية والدينية, فقد كتب عنه الكاتب والمعلق الرياضي جورج بليمبتون قائلاً: "إذا نشأت وترعرعت في الجنوب فإنك لابد أن تلحظ شيئاً هاماً، وهو أن الإسلام عند محمد علي ظل العنصر الأهم في حياته الحافلة بالأحداث"

تبعات إسلام محمد علي
تأثر سكان الجنوب في الولايات المتحدة, حيث ترعرع, بأفكاره السياسية والدينية. فقد كتب عنه الكاتب والمعلق الرياضي جورج بليمبتون قائلاً: "إذا نشأت وترعرعت في الجنوب فإنك لا بد أن تلحظ شيئاً هاماً، وهو أن الإسلام عند محمد علي ظل العنصر الأهم في حياته الحافلة بالأحداث". والواقع أنه كان هناك الكثير من التبعات الكبيرة لإسلام محمد علي، ومحاولات ثنيه عن ذلك, لكن رفض الملاكم العالمي في الرجوع عن اعتناقه الدين الإسلامي كان معلماً بارزاً في حياته التي امتازت بالتحدي الدائم. إضافة إلى ذلك فقد فشل الكثير من أصحاب المصالح الخاصة في محاولة منع أفكاره من الانتشار في الأوساط العامة في مرحلة كان نجمه يزداد لمعاناً، ومحافظته على لقبه في الوزن العالمي الثقيل أصبحت شبه أسطورة.

كانت تكاليف الثبات على المبدأ كبيرة، إلا أن كلاي ظل غير منحن لها، بل وحثّ لاعبي كرة السلة الأميركية على اعتناق أفكاره، وهذا ما لاحظه الكثيرون في تعليقات المشاهير من اللاعبين عنه. فقد علق نجم السلة الأميركي بيل راسل عليه قائلاً: "علي كلاي رجل حر في أفكاره العظيمة، إضافة إلى كونه أعظم لاعبي الملاكمة العالمية على مر التاريخ. لقد كان حراً في وقت كان من الصعب فيه أن تكون كذلك، أياً كنت أو ستكون. علي كلاي هو أحد أول الأحرار الحقيقيين في الولايات المتحدة الأميركية".

عصري متحضر
ويمثل ما قاله راسل ما توقف عنده الكثير من المحللين لشخصية كلاي، فقد اعتبر في تاريخ الثقافة الأميركية أن مكانة هذا الملاكم العملاق لم تنبع من كونه بطلا رياضيا أو ثقافيا فقط، بل كان بطلا عصريا متحضرا أيضاً. فقد كان لاحتفاظه بمبادئ الحرية والعدل من خلال رفضه الخدمة العسكرية في حرب فيتنام مصدر إعجاب واحترام كبيرين لدى الشعوب العالمية، متجاوزا في ذلك إعجاب جماهير الملاكمة العالمية. ورغم ما تعرض له من اضطهاد وظلم بإبعاده عن اللعبة وسجنه لعدم مشاركته في الحرب، ظل محمد وفيا لأفكاره النبيلة مضحياً في سبيلها بلعبة الملاكمة التي جعلت منه الأشهر في العالم في ذلك الوقت. لقد كان لأفكاره الحرة والجريئة أعظم الأثر في ازدياد المتعاطفين معه وتلاشي منتقديه وحساده إلى أن وصل في نهاية المطاف إلى الموقع الذي جسّد فيه الحلم الأميركي في القدرة على إدراك الذات الحقيقية بانتقاد ما كان يوصف في أحيان كثيرة خيانة لبلده أمريكا. فقد علق الباحث الثقافي جيرالد إيرلي في حديثه عنه بأنه "أظهر لنا نحن الأميركيين القدرة الكبيرة في أن نكون أناسا حقيقيين في أفكارنا ومعتقداتنا الذاتية".

أما صانع الأفلام إسحق جولاني فقد أشار إلى "أن الأسطورة الأزلية المتمثلة في صورة محمد علي كلاي تكمن في أنه أسس لاتجاه جديد راديكالي في الحركة السياسية الزنجية تماماً كعنف رياضة الملاكمة نفسها. بيد أن هذه الحركة لم تكن قديمة في أساليب تعاملها وعرضها على الناس، بل فخورة وعصرية. فقد اعتنقها وناصرها من خلال مقولاته الرائعة التي كانت كدقات النذير الواعي بمتطلبات الحياة العصرية مما جعل منه رمزا تاريخيا في مرحلة ساد فيها الظلم والاضطهاد، وكنا فيها بحاجة ماسة الى قادة ناجحين يرفعون من معنوياتنا المحبطة، فكان محمد علي كلاي عنوانا لذلك النجاح". وعلى الرغم من تهجم جولاني (وهو صانع أفلام يهودي) على علي كلاي ولو بشكل مبطن، إلا أنه لم يكن أمامه إلا أن يعترف بتأثيره الكبير على عامة الناس في حمله لمبادئ يصعب الوقوف في طرف النقيض لها من الناحية الأخلاقية.


تشكل قصة الملاكم الأسطورة محمد علي واحدة من قصص العديد من السود البارزين في الولايات المتحدة مثل ماريو فان بيبلز، ومالكوم إكس

كلاي التجسيد الأبرز لصراع السود
تشكل قصة الملاكم الأسطورة محمد علي واحدة من قصص العديد من السود البارزين في الولايات المتحدة مثل ماريو فان بيبلز ومالكوم إكس. ولعل ما ينقله هذا الكتاب من رومانسية غنية يحقق في الواقع جزءا من الأسطورة السوداء. ورغم أن الكتاب يركز على الجزء "الرياضي" في حياة كلاي إلا أن ما يبرزه من جوانب حياته الأخرى لا تقل درامية, حيث تحول الشاب المتهور إلى مناضل في سبيل مبادئ عظيمة استمرت وتعاظمت عندما اعتنق الإسلام وأصبح اسمه محمد علي العظيم, وأن كل ذلك -مضافاً إليه المهارة العالية في الملاكمة والتي جعلته بطلاً عالميا- يصعب نسيانه. وقد اختار طريقاً مليئا بالأشواك والمعوقات, وكان من الممكن أن يعاق حلمه العالمي من خلال ضربة قوية غير متوقعة أو لكمة قاتلة أو جروح بالغة تؤدي إلى خلل في الدماغ. بيد أن الأيام قد بددت أي شكوك في الرجل الذي أثبت في كل مراحل حياته أنه خلق ليكون عظيماً، إلى أن وصل الذروة التي ما كان لأحد من قبله أن يصلها بحيث أصبح أيقونة لعشاق الملاكمة العالمية ورمزاً لهذه الرياضة التي جسّد فيها حب التحدي لجميع المفاهيم القديمة بحيث أصبح من الصعب ذكر رياضة الملاكمة دون ذكر اسمه.

معتز بنفسه
ظل محمد علي كلاي معتزا بنفسه حتى الوقت الحاضر. فهو ما فتئ يردد مقولات مثل "أنا الأعظم"، "أنا الأجمل"، "أنا أحلّق كالفراشة وألسع كالنحلة". لم يتغير الحال على كلاي حتى في أواخر أيامه، فعندما سئل عن سبب تأخر إنتاج فيلم سينمائي عن حياته حتى وقتنا الحاضر بينما أنتج فيلمان عن ملاكمين هم أقل منه شهرة وعظمة، أجاب قائلاً: "إن أولئك الملاكمين يتمتعون بالعلاقات المناسبة وباللون المناسب (right connection and right complexion). إن منتجي الفيلم عني قد تناولوا الآن الجانب الأكثر تعقيداً في إنتاج الأفلام متمثلا في التواصل مع الناس والمحافظة على حق الملكية". وحديثا فإن محمد علي كلاي يثبت أن كلاي العجوز لا يقل تحديا عن كلاي الشاب حينما يقول: "يقول الناس إنني ماعدت مليئا بالحياة، لكنني لم أمت بعد!، أنا ما زلت في البداية أحارب الظلم والعنصرية والجريمة والأمية والفقر".

المصدر : غير معروف