اللغة كوسيلة للسلطة: استراتيجيات البلاغة العربية السياسية في القرن العشرين
خدمة كمبردج بوك ريفيو
استغرقت كرستينا شتوك -باحثة الدراسات الإسلامية في جامعة لايبزيغ- في دراسة وتحليل عشرات من خطب الرئيس العراقي صدام حسين وخطب الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر ومقارنتها بعضها ببعض، راصدة آليات توظيف الرطانة اللغوية في فرض توجهات السلطة وسياستها. وأصدرت نتائج البحث في هذا الكتاب الممتع الذي ينتمي إلى دراسات تحليل الخطاب السياسي.
تعود فكرة إجراء هذا البحث إلى أيام حرب الخليج الثانية عندما تناول صحافيون وخبراء غربيون خطب الرئيس العراقي كمثال لإسناد فرضيتهم بأن اللغة العربية تملك تأثيرا عاطفيا خاصا، والبرهان على صحة ذلك هي المظاهرات الضخمة التي شهدها الشارع العربي إبان الحرب، وهذا دفع الباحثة الشابة إلى تعميق ذلك علميا.
|
في المقدمة توجه الأنظار إلى تأثير اللغة بشكل عام، فهناك العديد من الأبحاث التي تتناول ذلك الموضوع في سياق حقبات وحضارات مختلفة، ولعل أبرز مثال على ذلك هي القدرة الخطابية لهتلر وتأثير الفوهرر على الجماهير.
ثم تنتقل كرستينا شتوك بعد ذلك إلى أهمية البلاغة بالنسبة إلى الثقافة العربية منذ بداياتها، وتقول إن البلاغة بالنسبة إلى العرب تعتبر الفن الذي يحظى بأكبر قدر من الإعجاب والتقدير. فلم ينشأ لدى العرب فن رسم رفيع على سبيل المثال وذلك بسبب محظورات دينية, ولا فن نحت راقي متميز للمحظورات نفسها, لهذا تركز الإبداع الفني في رسم ونحت جماليات لغوية بديعة وذات تأثير فعال. يضاف إلى ذلك أهمية وقدسية اللغة العربية, فاللغة العربية هي لغة القرآن الكريم الذي لم ينزل بأي لغة أخرى. وليس ثمة سلطة موازية في الثقافة العربية لسلطة الكلمات الإلهية كما تشير المؤلفة.
” معظم الخطب التي ألقيت في الجاهلية وصدر الإسلام قصيرة, حتى خطب الرسـول محمد كـانت موجـزة وواضحة. أما خطب السياسيين العـرب اليوم فتتميز بالطول والتكرار وإدخال جمل معقدة ” |
بلاغة عربية
وتؤسس شتوك في بداية بحثها الأطر النظرية وخاصة حول العلاقات العضوية بين اللغة العربية والتاريخ الإسلامي والقيم الأخلاقية وأهمية هذا المزيج المشترك كعامل يمكن رصده بين كل العرب. وهذا ما دفع بالخطباء العرب على مر القرون وعلى اختلاف اتجاهاتهم إلى الاستعانة بالحجج اللغوية والقيمية والتاريخية دوما لكسب الجماهير. ثم تنتقل الكاتبة إلى التعريف بأساليب البلاغة العربية، فتشير إلى الاختلافات مع مفهوم البلاغة اليونانية والأوروبية فيما بعد، وتقول إن علم البلاغة العربية تطور بشكل مستقل وأوجد نظاما خاصا به. فنقرأ مثلا عن الدور الذي يلعبه الصوت في تكوين الكلمات وهناك العديد من اللغويين العرب الذين درسوا ذلك. وكما هو معروف اليوم فقد قسم السكاكي في كتابه الرئيسي "مفتاح العلوم" البلاغة إلى ثلاثة فروع: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع. وما زال العرب حتى اليوم محافظين على هذا التقسيم وعلى أسس البلاغة كما صيغت في القرون الوسطى.
وتقول كرستينا شتوك إن الإيجاز والإطناب والخبر والإنشاء من أكثر الأساليب اتباعا في البلاغة السياسية الحديثة. ومما يميز الخطاب السياسي العربي أيضا هو استعمال المجاز والتشبيه والطباق، وقليلاً ما يستعمل التلميح والجناس رغم تأثيرهما الكبير على المستمعين. وتلاحظ الباحثة أن معظم الخطب التي ألقيت في الجاهلية وفي صدر الإسلام كانت قصيرة, حتى خطب الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) كانت موجزة وواضحة, وتركيبة الجمل بسيطة وخالية من الزخرفة, فيها بعض التكرار الذي يساعد على التركيز على فكرة معينة. أما خطب السياسيين العرب اليوم فتتميز بالطول وبتكرار الكلمات وبتكرار جمل كاملة وبإدخال الجمل المعقدة.
وتتوقف شتوك عند هذا الفرق طويلاً (ص 57) حيث تقول إن البلاغة السياسية العربية "لا تفضل التعبير المباشر بل الرموز والأمثلة والحكم ومقارنات بالتاريخ الإسلامي أو مقارنات بدول أخرى، فلا عجب أن يكون التشبية والتمثيل والحكم أهم الوسائل اللغوية المستعملة لدى الدعوة الدينية. فعلم البيان مناسب لتفسير بعض الظواهر, ولكن ليس بشكل مباشر بل بالاستعانة بمقارنات وتشابيه. ويتميز مجاز المشابهة والاستعارة بتأثير عاطفي خاص، وذلك بسبب غموضهما ومعناهما غير المحدد، وهذا ما يفسر كثرة استعمالهما كوسيلة في الدعاية الأيدولوجية وهذا لا ينطبق فقط على العالم العربي".
خطب عبد الناصر
وتطبيقاً للتأسيس النظري تتعمق شتوك في تحليل خطب جمال عبد الناصر، وتصف الانطباع الأول لوقع كلمات الرئيس المصري عليها فتقول (ص 109) "غالبية الجمل قصيرة وإن لم تكن قصيرة فهي واضحة.. فقط في لحظات حرجة كخروج سوريا من الاتحاد مع مصر أو بعد خسارة 1967, نجد جملا معقدة أو جملا متداخلة. والتعبير الذي يغلب عليه عادة ألفاظ تتسم بالثقة بالنفس يختفي شيئا فشيئا ويحل محله أسلوب يسعى إلى أخذ كل الأمور في عين الاعتبار وعدم ارتكاب أي خطأ، وهو أسلوب يسعى لأن يكون تلقائيا بحيث لا ينتبه إلى كيفية تركيب الجمل (…).
ولتوضيح أفكار مجردة يعطي عبد الناصر أمثلة من الحياة اليومية، فإذا أراد أن يقول مثلا بأنه من الممكن حل الخلافات بطريقة سلمية, يعطي مثال أب يختلف مع أطفاله لأنهم يبالغون في الذهاب إلى السينما. وهذا المثال مقنع, لأن عبد الناصر كان لديه أطفال. في النهاية يتوصل الأب والأطفال إلى حل وسط، إذ لا يجب أن تقود الخلافات في الشعب إلى عداوات".
وتسجل شتوك الأساليب البلاغية المختلفة التي يستعملها الرئيس المصري السابق كالإطناب والتجنيس والتقديم والتأخير والإنشاء والحشو والحذف، وتعطي الباحثة لكل أسلوب عدة أمثلة من خطب مختلفة. كما تشير إلى الكلمات المفضلة لدى عبد الناصر كالحرية ومصطلحات عسكرية في سياق غير عسكري (معركة, الدرع الواقي, أسلحة, ذخيرة غنية)، ثم الإشارات إلى التاريخ المصري القديم والحديث (أثناء الحكم العثماني والأوروبي).
” خلال السبعينات كان صدام حسين يدير أوساطا تحرض ضد الثورة تحت غطـاء ديني، وصار في التسعينات يستعمل هو هذا الغطاء، إذ يستعمل آيات وألفاظـا قرآنية ومصطلحات دينية بوفرة ملحـوظة. وفي حين كان قبل عشرين سنة يبدأ خطبه بالتحية "أيها الرفاق"، فهو اليوم يستعمل "أيها الإخوة" ” |
” استخدام الخطاب الديني من قبل الزعماء العرب أمر مكشوف للمخاطبين، ولكن لا يبدو تأثيره جوهريا. وما قد يشكـل على الباحثين الغربيين هو خلـط الأسباب الحقيقية لاندفـاع الجماهير العـربية باتجـاه قضية ما مع تبني القيادة السياسية المعنية خطابا دينيا فجـائيا ” |
وعلى العموم يظل ما تخلص شتوك إليه صحيحاً وهو أن التأثير العاطفي للبلاغة العربية يعود إلى أهميتها الثقافية على مر التاريخ العربي الإسلامي, الأمر الذي يبرر استعمالها من قبل السياسيين العرب بشكل يدعو إلى البحث والتأمل.