اللغة كوسيلة للسلطة: استراتيجيات البلاغة العربية السياسية في القرن العشرين

خدمة كمبردج بوك ريفيو
استغرقت كرستينا شتوك -باحثة الدراسات الإسلامية في جامعة لايبزيغ- في دراسة وتحليل عشرات من خطب الرئيس العراقي صدام حسين وخطب الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر ومقارنتها بعضها ببعض، راصدة آليات توظيف الرطانة اللغوية في فرض توجهات السلطة وسياستها. وأصدرت نتائج البحث في هذا الكتاب الممتع الذي ينتمي إلى دراسات تحليل الخطاب السياسي.

تعود فكرة إجراء هذا البحث إلى أيام حرب الخليج الثانية عندما تناول صحافيون وخبراء غربيون خطب الرئيس العراقي كمثال لإسناد فرضيتهم بأن اللغة العربية تملك تأثيرا عاطفيا خاصا، والبرهان على صحة ذلك هي المظاهرات الضخمة التي شهدها الشارع العربي إبان الحرب، وهذا دفع الباحثة الشابة إلى تعميق ذلك علميا.


undefined


– اسم الكتاب:
اللغة كوسيلة للسلطة:
استراتيجيات البلاغة
العربية السياسية
في القرن العشرين
– المؤلفة:
كرستينا شتوك
– الطبعة: الأولى 1999
الناشر: رايشرت,
فيزبادن، ألمانيا

في المقدمة توجه الأنظار إلى تأثير اللغة بشكل عام، فهناك العديد من الأبحاث التي تتناول ذلك الموضوع في سياق حقبات وحضارات مختلفة، ولعل أبرز مثال على ذلك هي القدرة الخطابية لهتلر وتأثير الفوهرر على الجماهير.

ثم تنتقل كرستينا شتوك بعد ذلك إلى أهمية البلاغة بالنسبة إلى الثقافة العربية منذ بداياتها، وتقول إن البلاغة بالنسبة إلى العرب تعتبر الفن الذي يحظى بأكبر قدر من الإعجاب والتقدير. فلم ينشأ لدى العرب فن رسم رفيع على سبيل المثال وذلك بسبب محظورات دينية, ولا فن نحت راقي متميز للمحظورات نفسها, لهذا تركز الإبداع الفني في رسم ونحت جماليات لغوية بديعة وذات تأثير فعال. يضاف إلى ذلك أهمية وقدسية اللغة العربية, فاللغة العربية هي لغة القرآن الكريم الذي لم ينزل بأي لغة أخرى. وليس ثمة سلطة موازية في الثقافة العربية لسلطة الكلمات الإلهية كما تشير المؤلفة.


معظم الخطب
التي ألقيت في الجاهلية وصدر الإسلام قصيرة, حتى خطب الرسـول محمد كـانت موجـزة وواضحة. أما خطب
السياسيين العـرب اليوم فتتميز بالطول والتكرار وإدخال جمل معقدة

بلاغة عربية
وتؤسس شتوك في بداية بحثها الأطر النظرية وخاصة حول العلاقات العضوية بين اللغة العربية والتاريخ الإسلامي والقيم الأخلاقية وأهمية هذا المزيج المشترك كعامل يمكن رصده بين كل العرب. وهذا ما دفع بالخطباء العرب على مر القرون وعلى اختلاف اتجاهاتهم إلى الاستعانة بالحجج اللغوية والقيمية والتاريخية دوما لكسب الجماهير. ثم تنتقل الكاتبة إلى التعريف بأساليب البلاغة العربية، فتشير إلى الاختلافات مع مفهوم البلاغة اليونانية والأوروبية فيما بعد، وتقول إن علم البلاغة العربية تطور بشكل مستقل وأوجد نظاما خاصا به. فنقرأ مثلا عن الدور الذي يلعبه الصوت في تكوين الكلمات وهناك العديد من اللغويين العرب الذين درسوا ذلك. وكما هو معروف اليوم فقد قسم السكاكي في كتابه الرئيسي "مفتاح العلوم" البلاغة إلى ثلاثة فروع: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع. وما زال العرب حتى اليوم محافظين على هذا التقسيم وعلى أسس البلاغة كما صيغت في القرون الوسطى.

وتقول كرستينا شتوك إن الإيجاز والإطناب والخبر والإنشاء من أكثر الأساليب اتباعا في البلاغة السياسية الحديثة. ومما يميز الخطاب السياسي العربي أيضا هو استعمال المجاز والتشبيه والطباق، وقليلاً ما يستعمل التلميح والجناس رغم تأثيرهما الكبير على المستمعين. وتلاحظ الباحثة أن معظم الخطب التي ألقيت في الجاهلية وفي صدر الإسلام كانت قصيرة, حتى خطب الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) كانت موجزة وواضحة, وتركيبة الجمل بسيطة وخالية من الزخرفة, فيها بعض التكرار الذي يساعد على التركيز على فكرة معينة. أما خطب السياسيين العرب اليوم فتتميز بالطول وبتكرار الكلمات وبتكرار جمل كاملة وبإدخال الجمل المعقدة.

وتتوقف شتوك عند هذا الفرق طويلاً (ص 57) حيث تقول إن البلاغة السياسية العربية "لا تفضل التعبير المباشر بل الرموز والأمثلة والحكم ومقارنات بالتاريخ الإسلامي أو مقارنات بدول أخرى، فلا عجب أن يكون التشبية والتمثيل والحكم أهم الوسائل اللغوية المستعملة لدى الدعوة الدينية. فعلم البيان مناسب لتفسير بعض الظواهر, ولكن ليس بشكل مباشر بل بالاستعانة بمقارنات وتشابيه. ويتميز مجاز المشابهة والاستعارة بتأثير عاطفي خاص، وذلك بسبب غموضهما ومعناهما غير المحدد، وهذا ما يفسر كثرة استعمالهما كوسيلة في الدعاية الأيدولوجية وهذا لا ينطبق فقط على العالم العربي".

خطب عبد الناصر
وتطبيقاً للتأسيس النظري تتعمق شتوك في تحليل خطب جمال عبد الناصر، وتصف الانطباع الأول لوقع كلمات الرئيس المصري عليها فتقول (ص 109) "غالبية الجمل قصيرة وإن لم تكن قصيرة فهي واضحة.. فقط في لحظات حرجة كخروج سوريا من الاتحاد مع مصر أو بعد خسارة 1967, نجد جملا معقدة أو جملا متداخلة. والتعبير الذي يغلب عليه عادة ألفاظ تتسم بالثقة بالنفس يختفي شيئا فشيئا ويحل محله أسلوب يسعى إلى أخذ كل الأمور في عين الاعتبار وعدم ارتكاب أي خطأ، وهو أسلوب يسعى لأن يكون تلقائيا بحيث لا ينتبه إلى كيفية تركيب الجمل (…).

ولتوضيح أفكار مجردة يعطي عبد الناصر أمثلة من الحياة اليومية، فإذا أراد أن يقول مثلا بأنه من الممكن حل الخلافات بطريقة سلمية, يعطي مثال أب يختلف مع أطفاله لأنهم يبالغون في الذهاب إلى السينما. وهذا المثال مقنع, لأن عبد الناصر كان لديه أطفال. في النهاية يتوصل الأب والأطفال إلى حل وسط، إذ لا يجب أن تقود الخلافات في الشعب إلى عداوات".

وتسجل شتوك الأساليب البلاغية المختلفة التي يستعملها الرئيس المصري السابق كالإطناب والتجنيس والتقديم والتأخير والإنشاء والحشو والحذف، وتعطي الباحثة لكل أسلوب عدة أمثلة من خطب مختلفة. كما تشير إلى الكلمات المفضلة لدى عبد الناصر كالحرية ومصطلحات عسكرية في سياق غير عسكري (معركة, الدرع الواقي, أسلحة, ذخيرة غنية)، ثم الإشارات إلى التاريخ المصري القديم والحديث (أثناء الحكم العثماني والأوروبي).


خلال السبعينات
كان صدام حسين يدير أوساطا تحرض ضد الثورة تحت غطـاء ديني، وصار
في التسعينات يستعمل هو هذا الغطاء، إذ يستعمل آيات وألفاظـا قرآنية
ومصطلحات دينية بوفرة ملحـوظة. وفي حين كان قبل عشرين سنة يبدأ خطبه بالتحية "أيها الرفاق"،
فهو اليوم يستعمل
"أيها الإخوة"
خطب صدام
وتطبق الباحثة المنهج نفسه مع خطب صدام حسين. وإحدى النتائج التي توصلت إليها الباحثة من خلال تحليل المصطلحات المستخدمة في خطب صدام حسين هي إدخاله ألفاظا دينية كثيرة منذ حرب الخليج الثانية. وبالطبع لجأ الرئيس العراقي خلال الحرب ضد إيران إلى مصطلحات مقتبسة من التاريخ العربي الإسلامي معروفة للجميع, ولعل معركة القادسية أحسن مثال على ذلك. إلا أن استعانته بألفاظ دينية قرآنية ودينية أخرى كانت أمرا جديدا على أسلوبه.
وتقول كرستينا شتوك "خلال السبعينات كان صدام حسين يدير أوساطا تحرض حسب رأيه ضد الثورة تحت غطاء ديني، أما في التسعينات فهو بنفسه يستعمل هذا الغطاء. فنجد أنه يستعمل آيات وألفاظا قرآنية أو مصطلحات دينية بوفرة ملحوظة. وفي حين أنه كان قبل عشرين سنة يبدأ خطبه بالتحية "أيها الرفاق"، فهو اليوم يستعمل أيها الإخوة أو أيها المؤمنون أو أيها الناس كما هو مألوف في خطب الجمعة أيضا. وثمّة ألفاظ تتكرر بكثرة أيضاً مثل: البأساء والضراء، أو الباطل ضد الحق، وهذه الكلمات القرآنية معروفة طبعا لدى المستمعين وتترك لديهم أثرا ما، إضافة إلى اقتباس آيات كاملة ومقارنات دينية مثل مقارنة الولايات المتحدة الأميركية ببني قريظة".
والجدير بالذكر أن صدام حسين ليس حالة استثنائية فيما يخص التحول إلى الدين في خطبه, فمن الملاحظ أن السياسيين العرب يستعينون عادة بالدين الإسلامي عندما يواجهون الهزيمة. وأحسن مثال على ذلك هو الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، إذ كان يستعمل في خطبه عادة بعض الألفاظ الدينية اليومية مثل بعون الله أو الحمد لله وفي حالات نادرة جدا كما حصل بعد تأميم قناة السويس فقد أسهب قليلا في الألفاظ الدينية. وتغير الأمر كليا بعد هزيمة عام 1967 مباشرة، فقد دعا المصريين إلى الصبر والاتكال على الله واستخدم القيم الدينية الأخرى، كما طالب المسلمين بالتضامن مع بعضهم البعض في هذا الزمن العصيب. إلا أن جمال عبد الناصر تخلى عن تلك الألفاظ فيما بعد. ومن الواضح أن السياسيين العرب يلجؤون إلى الألفاظ والمعاني الدينية وإلى اقتباسات من القرآن لحماية أنفسهم من النقد.


استخدام
الخطاب الديني
من قبل الزعماء العرب
أمر مكشوف للمخاطبين، ولكن لا يبدو تأثيره جوهريا. وما قد يشكـل على الباحثين الغربيين هو خلـط الأسباب الحقيقية لاندفـاع الجماهير العـربية باتجـاه قضية ما
مع تبني القيادة السياسية المعنية خطابا دينيا
فجـائيا
ولكن يظل السؤال المركزي في هذا السياق هو مدى التأثير الفعلي لهذه الخطب في أوساط المتلقين, إذ من الصعب تقصي التأثير الفعلي على الفرد. فاستخدام الخطاب الديني من قبل الزعماء العرب أمر مكشوف للمخاطبين ولا يبدو أن تأثيره جوهري. وما قد يشكل على عدد من الباحثين الغربيين في هذا المضمار هو خلط الأسباب الحقيقية لاندفاع الجماهير العربية باتجاه قضية ما مع تبني القيادة السياسية المعنية خطابا دينيا فجائيا. صحيح أنه من الممكن أن تقدم الأبحاث الاجتماعية (استفتاءات واستطلاعات الرأي بين السكان) إيضاحات ما ولكنها ستكون محصورة على الحاضر، كما أن النتائج المتوقعة ستكون موضع تساؤل بسبب الموضوع السياسي الشائك.
وكما تلحظ المؤلفة (ص 40) فإنه لا يمكننا الجزم على التأثير الاجتماعي والنتائج السياسية لهذا التأثير, فالأمر لا يتعلق فقط بالبلاغة بل بعوامل أخرى أيضا. وحتى إذا عرفنا الوسائل المستعملة في إثارة المتلقي, فلا يتضح المقصود طالما لا نعرف الخلفية السياسية وما يخطط في الكواليس بالتحديد. ولكن الذي يعتقد بأنه يعلم الأهداف التي توظف من أجلها سلطة اللغة, يمكنه أن يخوض تجربة نزع هذه السلطة من اللغة.

وعلى العموم يظل ما تخلص شتوك إليه صحيحاً وهو أن التأثير العاطفي للبلاغة العربية يعود إلى أهميتها الثقافية على مر التاريخ العربي الإسلامي, الأمر الذي يبرر استعمالها من قبل السياسيين العرب بشكل يدعو إلى البحث والتأمل.

المصدر : غير معروف