القومية العربية في القرن العشرين.. من الانتصار إلى الاندحار

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
يأتي تناول عديد دويشا المهم لارتقاء وسقوط القومية العربية في وقت يكثر الحديث فيه عن فكرة "فشل وسقوط القومية العربية"، بل وأحيانا المبالغة في ذلك والوصول إلى التشكيك في فكرة العروبة نفسها، أي الهوية والإطار العربي للمنطقة وليس فقط التعبير السياسي لهما المتمثل في الفكرة القومي.


undefined-اسم الكتاب: القومية العربية في القرن العشرين: من الانتصار إلى الاندحار
–المؤلف: عديد دويشا
-الطبعة: 2003
الناشر: برنستون يونفيرسيتي بريس

هذا التوقيت لا يخدم الكتاب إذ قد يصنفه البعض ضمن تلك الأدبيات الشتائمية للقومية العربية, وهو في الواقع بعيد عنها إذ هو قراءة أكاديمية رصينة فيها -كسائر الكتابات المعمقة- إثارة للأسئلة، وبعد تأمل القارئ فيها يمكن له أن يتفق أو يختلف مع تناول المؤلف والإجابة عنها كما يشاء.

ودويشا يعمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة ميامي بولاية أوهايو الأميركية, وهو مؤلف كتابي "مصر في العالم العربي" و"سوريا والأزمة اللبنانية".


القومية العربية استلهمت أفكارها من الفكرة الألمانية القائلة بوجود قومية ثقافية, ولم ترسخ وتمد جذورها إلا بعد الحرب العالمية الأولى

التمييز بين العروبة والقومية
يبدأ دويشا بالتمييز بين العروبة التي تمثل التماثل الثقافي واللغوي والديني والتاريخي والروابط العاطفية التي تربط ما بين المتحدثين بالعربية, والقومية التي عرفها بأنها العروبة مضافا إليها عامل الرغبة القوية والمنظمة في إقامة وحدة سياسية على أرض محددة الأبعاد.

ثم يتابع بعد ذلك تاريخ الحركة من بداية خطواتها المترددة الأولى إلى ذروة أيام عزها تحت قيادة الزعيم المصري جمال عبد الناصر, قبل أن ينتقل إلى هزيمتها الساحقة عام 1967, ثم اضمحلالها بعد وفاة عبد الناصر.

يجادل المؤلف في أن القومية العربية استلهمت أفكارها من الفكرة الألمانية القائلة بوجود قومية ثقافية, وأنها لم ترسخ وتمد جذورها إلا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ إن جميع الدعوات إلى قيام حكم عربي مستقل ذاتيا تحت ظل الإمبراطورية العثمانية, وهي الدعوات التي أطلقها الإصلاحيون أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني, كانت تهدف بالأساس إلى إحياء الإسلام الذي أصابه الركود.

كان أصحاب تلك الدعوات مصلحون إسلاميون أصلا, أدركوا التهديد الثقافي الذي بات الغرب يمثله للإسلام واستشعروا الخيفة منه, فبادروا إلى مواجهة ذلك التهديد بالدعوة إلى إصلاح إسلامي وإلى البعث والوحدة. أما القومية فكانت في نظرهم مفهوما تقسيميا أجنبيا. وكل ما يمكن أن يعثر عليه من إشارات إلى العروبة في كتاباتهم كان مرتبطا بشدة بإحياء الإسلام والأمة الإسلامية. ولم يخطر على بالهم أبدا تقديم قضية العروبة على قضية التضامن الإسلامي الأوسع.

ولكن يمكن العثور على أصداء للمفاهيم القومية في كتابات بعض المفكرين المسيحيين الذين سعوا إلى نيل الاستقلال من العثمانيين بادعائهم التفوق الثقافي والعرقي على الأتراك "الذين ألحقوا الدمار بالعرب".

من جانب آخر كانت الانتماءات الثانوية ما دون القومية مثل الأسرة والقبيلة والمدينة والمذهب والدين هي التي تشكل الولاءات الفردية الأقوى لدى القطاعات الأوسع من السكان العرب.

فقد كتبت غريترود بيل ممثلة المكتب الاستعماري البريطاني في بغداد في إحدى رسائلها تقول "لا توجد لدى الناس هنا قومية إقليمية، فإن سألت سورياً عن الوطنية التي ينتمي إليها لأجابك بأنه ابن دمشق أو حلب". وفي رسالة أخرى ذكرت بيل "ليست هناك أمة من العرب، فما يفصل التاجر السوري عن ابن الصحراء البدوي أوسع مما يفصله عن المواطن العثماني".

ومن هنا نجد أن غالبية السكان لم تكن مستعدة للانفصال عن إسطنبول. ولم تكن المعارضة أو الدعوات المنادية بالإصلاح إلا نداءات لإعادة الاعتبار للعنصر العربي داخل الخليط الثقافي للإمبراطورية العثمانية, ومطالبات بتحسين ظروف العرب الاجتماعية والسياسية "ضمن" تلك الإمبراطورية. وقد ظل الأمر على هذه الحال لحين اندلاع الثورة العربية الكبرى.

لكن ما كان يفترض أن يتوقف دويشا عنده بشيء من التوسع هو أن مقولات بيل كانت تأتي في سياق استعماري يمهد لرسم الحدود بعشوائية ولتقول مقدما بأنه ليس من المهم أن تمر الحدود (المرسومة بريطانيا) من هذه المدينة أو تلك المنطقة طالما أن العرب لا يشعرون بأنهم أمة أو ينتمون إلى أوطان واضحة.


العراق دولة مصطنعة أقيمت على دمج ثلاث ولايات عثمانية سابقة وتتميز بتجردها من أي أساس منطقي عرقي أو ديني

ثورة الحسين بن علي وثورة 1936 الفلسطينية
حفظت الذاكرة القومية الثورة العربية الكبرى التي أعلنها عام 1919 شريف مكة الحسين بن علي بصفتها الشرارة التي أججت الحركة القومية العربية.

لكن مؤلف الكتاب يختلف مع هذا الرأي ويجادل في أن أهمية تلك الثورة قد خضعت لقسط عظيم من المبالغة والتشويش, وأنها كانت "تمردا إسلاميا أعلن باسم الحفاظ على الإسلام وليس باسم العروبة أو الأمة العربية". وهي في الحقيقة لم تكن ثورة عربية إلا بالمعنى الإثني, ولم ينهض بها أصحابها إلا بعد أن رفض العثمانيون مطالب الشريف بالحصول على ملكية وراثية في الحجاز. وبدلا من الثورة العربية الكبرى يعتبر دويشا الثورة الفلسطينية التي امتدت للأعوام من 1936 – 1939 المحفز الأكبر للحركة القومية العربية.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى, وبعد مكوث قصير في سوريا, انتقل القوميون تحت زعامة فيصل بن الشريف الحسين إلى العراق, حيث يقول ساطع الحصري إنهم قاموا عن طريق التربية والتعليم والتاريخ بالسعي لتطبيق "كل وسيلة لتقوية المشاعر القومية بين أبناء العراق ونشر الإيمان بوحدة الأمة العربية".

لكن العراق -كما يقول المؤلف- وبخليطه السكاني الذي يضم عربا وأكرادا وأرمنا وتركمانا إضافة لانقسام مسلميه إلى مذهبين سني وشيعي, لم يكن بالكيان الموحد المنسجم الملائم لهذا الغرض. فقد كان العراق دولة مصطنعة أقيمت على دمج ثلاث ولايات عثمانية سابقة وتتميز بتجردها من أي أساس منطقي عرقي أو ديني.

اعتبر الشيعة في العراق الحركة القومية مشروعا سنيا يرمي إلى خفض نسبة السكان الشيعة لأقلية ضئيلة ضمن المحيط العربي الأكبر, في وقت كان من المستحيل فيه طرح أي فكرة يمكن أن تضع الأكراد تحت مظلة "الأمة العربية" وهم الذين كانوا وما زالوا يعتبرون أنفسهم عرقا إثنيا مغايرا.

لكن مرة أخرى لا يتوقف المؤلف بعمق كاف عند هذا الاعتبار والتوصيف الشائع في التحليلات الغربية للعراق الحديث بكونه "دولة مصطنعة"، فالمكونات الإثنية والطائفية العراقية عاشت بين الرافدين قرونا طويلة وعرفت المنطقة باسم العراق, والجديد في القرن العشرين لم يكن سوى الحدود المصطنعة التي رسمها البريطانيون وقضموا من خلالها أجزاء وأراضي كانت تمثل امتدادا عضويا طبيعيا لأي شكل سياسي يفترض أن يؤول إليه العراق.


عبد الناصر كان أولا وقبل كل شيء وطنيا مصريا انزلق لميدان القومية العربية عبر باب معاداة الاستعمار

المنطقة العربية وعوائق القومية
على صعيد المنطقة العربية بشكل عام يجادل المؤلف في القول إن شكل الإسلام والعشائرية والمذهبية والوطنية المحلية عوائق كأداء أخرى في بقية أنحاء المنطقة تجلت بشكل خاص في مصر البلد "الأكثر تقدما" بين البلدان العربية. وقد أحزن ذلك كثيرا دعاة القومية الذين أرادوا أن تكون مصر بموقعها الإستراتيجي وعطائها الثقافي الزعيمة الطبيعية للعالم العربي.

لكن كتابا مصريين مثل طه حسين وتوفيق الحكيم أكدوا تفرد مصر وتفوقها الفكري الذي يؤهلها للانتساب إلى أوروبا أكثر من الانتساب لجيرانها من العرب المتخلفين. إلا أن دعاة القومية العربية لم يحتاجوا إلى الانتظار طويلا.

ففي عام 1952 قامت مجموعة من الضباط بالاستيلاء على مقاليد الأمور في مصر, وظهر من بين أفرادها الزعيم الهادئ الواسع الشعبية جمال عبد الناصر ليصبح الشخصية التي لم يتوقعها أحد والتي تولت قيادة الحركة القومية إلى ذروتها العليا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

يرى المؤلف أن عبد الناصر كان أولا وقبل كل شيء وطنيا مصريا انزلق لميدان القومية العربية عبر باب معاداة الاستعمار. وقد تمتع بحماسة رسولية ساعدتها القدرات المصرية ومصاعب فترة الحرب الباردة في أن تدفع بالقومية العربية قدما وتجعل منها الأيدولوجية الأكثر راديكالية وانتشارا في مجال معاداة الغرب. اكتوى الاستعمار والإمبريالية والحكومات الرجعية في المنطقة بنيران غضب عبد الناصر وآثار شعبيته الواسعة وماكنته الدعائية التي لا ترحم.

وعندما انتهت أزمة قناة السويس عام 1956 بادعاء صادق أو باطل من جانب عبد الناصر بتحقيق النصر السياسي, كانت القومية العربية قد تحولت إلى مد طاغ لا سبيل لاعتراضه.

وفي عام 1958 سجلت الحركة القومية الصاعدة انتصارين مهمين هما قيام الجمهورية العربية المتحدة بإعلان الوحدة بين مصر وسوريا, وسقوط الحكم الملكي في العراق وقيام الجمهورية العراقية. لكن إعلان الجمهورية العربية المتحدة السابق لأوانه وما كان ينتظرها من مصير محزن ما لبث أن أشار لطبيعة العوائق التي تقف على طريق المشروع القومي.

فقد انهارت بعد أربعة أعوام الوحدة التي اقترحتها -في البدء- على عبد الناصر حفنة من ضباط الجيش السوري الذين استولوا على المؤسسات السياسية في بلادهم وسعوا إلى "استغلال اسم عبد الناصر وسمعته لإضفاء الشرعية على حكمهم" و"لإنقاذ سوريا من حالة الغليان السياسي".

وكان انهيار الوحدة يعود إلى تصاعد التزييف والاحتيال من أجل السيطرة على سوريا من جانب عبد الناصر, وسيادة العناصر المصرية في أوساط البيروقراطية الجديدة, وسياسات عبد الناصر الاقتصادية المركزية التي شلت الاقتصاد السوري الذي كان يتمتع بمرونة وليبرالية تفوق ما كان لدى الاقتصاد المصري.

من جانب آخر لم تتحقق الوحدة المنشودة مع الحكومة العراقية الجديدة, وسرعان ما وجدت حركة القومية العربية نفسها تسير في هبوط مستمر. لكن الجماهير العربية التي كانت مشدودة بورع شبه ديني إلى إذاعة "صوت العرب" المنطلقة من القاهرة التي تذيع عليها خطب عبد الناصر الساحرة كانت أبعد ما تكون عن توقع ما سوف يحل بها من انقلاب الحال.

سدد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة وظهور الثروات الحديثة في دول الخليج الملكية والمغامرة غير المحسوبة النتائج في اليمن.. ضربة نفسية قوية "للسحر" الذي كان يتمتع به عبد الناصر. لكن كل ذلك ما كان ليقاس بما حل به من إذلال وهزيمة ساحقة أمام إسرائيل عام 1967. جردت تفاصيل الحرب المعروفة "العرب من الإيمان بإمكانية قيام وحدة عربية عضوية"، وانطوت صفحة القومية العربية. أما ما تبقى منها فهو "العروبة".


القومية العربية لم تصمد بسبب عدم اكتراث رعاتها بإيجاد المؤسسات الديمقراطية القادرة على العمل

فشل القومية
عقد مؤتمر قمة الخرطوم سريعا, وتبنى الزعماء العرب المشاركون فيه -بمن فيهم عبد الناصر- "تفسيرا للعروبة ينسجم مع مبدأ السيادة الوطنية". عادت "الوطنية" من جديد, وكان على "القومية" أن تتراجع إلى المقعد الخلفي.

وقد ظهر على صعيد الواقع أن فكرة أولوية سيادة الدولة كانت قد تمأسست في العالم العربي إلى الحد الذي جعل سياسات ومواقف عربية ما كانت لتخطر على بال أحد قبل عقد من الزمان -مثل اتفاقية السلام التي أبرمها السادات مع إسرائيل وأحداث سبتمبر/ أيلول في الأردن والتدخل السوري في لبنان- لا تثير دهشة أحد عندما وقعت في سبعينيات القرن وثمانينياته.

تراجعت القومية العربية إلى الموقع الذي ابتدأت منه في الأصل, حركة يكتسحها التفوق الغربي, وتتنافس مع الولاءات الدينية والمذهبية والمحلية. هنا يطرح المؤلف عديد دويشا السؤال: لماذا سقطت القومية العربية ضحية سهلة لهذه القوى السياسية الطالعة الأخرى? وكيف أمكن لأيدولوجية بتلك القوة أن تنهار وتنحل بفعل عدد قليل من النكسات? ولعل المفارقة تكمن في أن الجواب هو: عبد الناصر.

يجادل المؤلف في أن القومية العربية لم تصمد بسبب عدم اكتراث رعاتها بإيجاد المؤسسات الديمقراطية القادرة على العمل، فقد تأثرت شرعية تلك الأيدولوجية وقيمها نتيجة إعلاء موقع القادة فوق موقع البنى المؤسساتية الشرعية التي ظلت سائبة غير مستندة إلى ركائز مستقلة عن إرادة الزعماء ووجودهم، في حين تظل الأنظمة الديمقراطية وقيمها قادرة على تجاوز شخصية زعمائها السياسيين ووجودهم. ولعل السقوط السريع للنظام العراقي في الحرب الأخيرة خير دليل على ذلك.

كتاب "القومية العربية في القرن العشرين" عبارة عن سرد استثنائي لواحدة من أغنى الفترات تنوعا وإثارة في التاريخ العربي المعاصر. والمؤلف الذي عاش في العراق إبان العصر الذهبي للقومية العربية, يضيف إلى تجربته الخاصة مجموعة واسعة من المصادر العربية والغربية ويغني كتابه بمعلومات تتميز بالخبرة المباشرة وعمق النظر.

المصدر : الجزيرة