الرئيس كينيدي.. ملامح القوة

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
ما راهنية أي قراءة جديدة لسيرة الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي في وقت يحتل فيه الرئيس الحالي جورج بوش الابن الفضاء السياسي العالمي, ويسيطر على صوغ إستراتيجيات عالمية, ويتابع العالم قراراته العشوائية التي تجمع خليطا من المحافظة اليمينية القصوى, والتوهم بحمل رسالة مسيحانية عليا, وخوض حرب كونية ضد "الشر", وكل ذلك على قاعدة تسيس انفرادي مدجج بقناعات أيديولوجية صلبة؟

ربما تفيد قراءة سير بعض الرؤساء الأميركيين السابقين في استيعاب الانحدار الكبير الذي لحق بالسياسة الأميركية خاصة سدة الحكم فيها، ففي زمن انهزمت فيه الاستقطابات الأيديولوجية, كما قيل وردد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, تتصاعد سياسة أميركية "بوشية" موغلة في أيديولوجيتها.


undefined-اسم الكتاب: الرئيس كينيدي.. ملامح القوة
–المؤلف: ريتشارد ريفز
-عدد الصفحات: 800
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: سايمون وشوستر، الولايات المتحدة الأميركية

كان جون ف. كينيدي مولعا باقتباس أبيات كتبها روبرت غريفر الذي استوحاها بدوره من مصارع الثيران الإسباني دومينيغو أورتيغا، تقول هذه الأبيات:

"بينما يتجمهر النقاد في المدرج المحيط بالساحة الواسعة التي ستجري فيها مصارعة الثيران،
هناك شخص واحد فقط يعرف ما الذي ينبغي القيام به، ألا وهو البطل الذي سيبرز لمصارعة الثور".

وفي الواقع، هذا أمر لا يسبر غوره إلا من عاش ذلك الموقف، لكن بالنسبة لأولئك الذين يدفعهم الفضول إلى معرفة طبيعة ذلك الموقف دون تسليط الأضواء عليهم -وإذا وضعنا الرئيس الأميركي بدلا من مصارع الثيران- فسيكون المجال المفتوح أمامنا هو الاطلاع على سيرة الحياة السياسية.

وبعد الغوص في السجلات الواسعة لسنوات ولاية كينيدي واصطياد المعلومات من خلال العديد من المقابلات التي أجريت مع المساعدين السابقين للرئيس الأميركي، استطاع ريتشارد ريفز أن يستوعب كل ذلك ويجمعه في صيغة سيرة حياة ملحمية للرئيس كينيدي، وهي في الوقت نفسه دراسة في الرئاسة الأميركية يقدمها في هذا الكتاب.

ريتشارد ريفز صحفي وكاتب كبير، ومع أنه قد درس مادة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس إلا أنه لا يعتبر نفسه أكاديميا في المقام الأول، من حيث اهتماماته المهنية.

وكتابه هذا عن الرئيس كينيدي ليس دراسة أكاديمية ولا يدعي أنه كذلك، فهو لا يقدم لنا تفسيرات جديدة عن فترة الألف يوم التي قضاها كينيدي في الحكم، كما أنه ليس دراسة عن سياسة الحرب الباردة بين اثنتين من القوى الكبرى المتصارعتين أيديولوجيا وسياسيا. وبدلا من ذلك -وهذا هو الجانب الذي يبرز فيه ريفز- فإن هذه السيرة المروية تقدم نظرة موضوعية ثاقبة عن كينيدي كرئيس، من حيث شخصيته وأخلاقه وأفعاله، تزودنا بفهم أفضل لما يعنيه أن يكون المرء رئيسا, وتحديدا في الولايات المتحدة.


وقوع كينيدي في قبضة "أيدولوجية مناهضة الشيوعية" التي وجد نفسه متورطا فيها لم يقده إلى حدود الهوس الأيدولوجي, بل ظلت براغماتيته هي البوصلة الأهم

كينيدي.. صورة أيقونية
يعرض الكتاب "السيرة الكينيدية" بطريقة هادئة، حتى يبدو المؤلف كما لو أنه يفسح المجال للرئيس كي يروي لنا قصته بنفسه ولكن دون الفقرات التي يعتذر فيها عن نفسه، محاولا تغطية الشوائب وتجاوز الأخطاء أو التقليل من أهميتها.

ويسرد الكاتب علينا طريقة تعامل كينيدي مع كل أزمة نشأت كما حدثت بالفعل، إلا أنه يضيف عليها لمسة من التعاطف مع الرئيس، وهو أمر قد يشير إلى وقوع ريفز في المطب الشهير، وهو تعلق الكاتب بموضوعه وانحيازه له, أو قد ينظر إليه كشاهد على نفاذ بصيرة ريفز وتفهمه للأمور.

قيل الكثير عن هالة السحر والغموض المحيطة بكينيدي وفترة رئاسته التي جرت العادة على تشبيهها بعهد الملك الإنجليزي الأسطوري آرثر ومملكته في كاميلوت.

والواقع أن شخصية كينيدي العامة قد أسهمت بالتأكيد في نحت صورته الأيقونية في سائر أنحاء العالم. ولكن يبقى هناك الجانب المتعلق بالرجل نفسه, والأوجه غير العامة من شخصيته, التي كان لها أيضا أثر مباشر في صوغ صورته العامة.

وكتاب ريفز يسد هذه الثغرة ويوفر لنا إطلالة مهمة عليها, إذ يردم الفجوة بين الجانبين العام والخاص.

سياسيا وإستراتيجيا يظهر لنا هذا الكتاب أن أيديولوجية كينيدي، ومهما كانت تتصف بالهشاشة وعدم التماسك الصلب، قامت على مناهضة الشيوعية. وهي تعكس وجهة نظر رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشرشل، بالإضافة إلى إحساس مهيمن بأن لديه مهمة قيادة أميركا والعالم الحر إلى النصر من خلال حكومة فاعلة وبراغماتية.

غير أن وقوع كينيدي في قبضة "أيديولوجية مناهضة الشيوعية" التي وجد نفسه متورطا فيها لم يقده إلى حدود الهوس الأيديولوجي, بل ظلت براغماتيته هي البوصلة الأهم.

إلا أن رجلا ليبراليا حاذقا مثل الفيلسوف وعالم الاقتصاد النمساوي الكبير فريدريك هايك قد ينتقد بشدة هذا التناقض الأساسي بين الوسائل التي كان يتبعها كينيدي والغايات التي كان يعلن أنه يسعى إليها.

لكن كينيدي لم يكن مهووسا بالأيديولوجيا، وحين تدعو الضرورة السياسية إلى وضع المبادئ جانبا فهو أول من يسعى وراء حل وسط، وكان يتحلى بأخلاق وسلوكيات السياسي المحترف، كما كان ممارسا موهوبا لفن الممكن. وبالنسبة له: المبادئ والأيديولوجيا لا معنى لها إذا لم تؤد في النهاية إلى عمل، فقد كان تواقا للعمل ولا صبر له في انتظار النتائج، لذا فإن كينيدي السياسي هو الموضوع الوحيد الذي يتكرر خلال صفحات هذه السيرة.

لقد اتسمت سنوات حكم كينيدي بسلسلة من الأحداث التي تسبب الحيرة والدوار، بعضها كان للرئيس نفسه يد في نشأتها، ولكن كثيرا غيرها ما كان بإمكانه أن يتنبأ بها، وجاءت ردة فعله باعتباره لاعبا رئيسيا في لعبة السياسة الداخلية والدولية المحفوفة بالمخاطر.

وفي كل هذه الأزمات، سواء كانت غزو كوبا الكارثي أم ازدياد زخم حركة الحقوق المدنية الأميركية، أم الاجتماع برئيس وزراء الاتحاد السوفياتي خروتشوف في قمة فيينا، أو التورط العسكري الأميركي في فيتنام، أو أزمة الصواريخ الكوبية، أو توقيع معاهدة حظر التجارب النووية، كان كينيدي يخرج منها كذلك السياسي والزعيم الذكي الهادئ الأعصاب دائم البحث والاستفسار، الذي يعتبر مثالا لعصره، والساعي دوما وراء سبل إزالة التوترات وحل الأزمات الناجمة عن الحرب الباردة والصحوة العاصفة للروح الأخلاقية على يد مارتن لوثر كينغ الابن وأمثاله، لأمة عانت كثيرا من الفصل والتمييز العنصري.

وإذا كانت دراسات أخرى عن كينيدي مثل "الألف يوم" التي أعدها آرثر شليسنغر الابن، تبرز للقراء قصة النمو الشخصي للرئيس إثر مروره بأزمة تلو أخرى، فإن سيرة الحياة التي كتبها ريفز تروي ببساطة وموضوعية القرارات اليومية التي كان الرئيس يتخذها ضمن سياق معرفته واعتقاده، سواء أكانت مواجهة خطر نشوب حرب نووية عالمية أم الاضطرابات المدنية الداخلية.


أسهم اجتماع القوة والمال والنفوذ والسلطة في تغطية الجوانب غير المستساغة في شخصية كينيدي بل عكس صورة مفعمة بالحيوية والدينامية والنجاح

كينيدي.. نواقص وأخطاء
هذا الكتاب الذي يخلو من المديح المفرط يروي قصة شاب يتمتع بعقل راجح وطموح سياسي كبير ينبري لمواجهة معضلات عصره تجده من جهة يحل بمهارة بعض المشاكل التي آلت إليه، ولكن من جهة أخرى يخلق بنفسه مشاكل غيرها. وأحيانا يكون بارعا جدا كما في الطريقة التي نزع فيها فتيل أزمة الصواريخ الكوبية، غير أنه في أحيان أخرى يتصرف في غاية السذاجة كما حدث حين سمح لنفسه بأن ينخدع فيأمر بغزو كوبا المصحوب بعواقب وخيمة.

وهذه السيرة تسلط الضوء أيضا على حياة كينيدي الشخصية، بكل ما فيها من نواقص وأخطاء، إلى غير ذلك. فيتطرق إلى علاقاته الغرامية سيئة الصيت، التي أقامها خارج نطاق الزوجية، كما تشير إلى استخفافه بقيمة المال وجهله الفظيع بالاقتصاد والأعمال التجارية، وهذا هو إرث نشأته الثرية.

أضف إلى ما تقدم أن كينيدي خاض معارك عديدة مع الأمراض طيلة حياته، حتى أن واحدا منها على الأقل شكل خطرا على حياته، في حين أن الآخر وهو وجع الظهر المبرح اضطره في مرات كثيرة للاستعانة بالعكازات ليمشي وهو يعرج. وهذا كله يجعل صعوده الخاطف إلى القمة مدعاة للدهشة.

ويتساءل المرء كيف استطاعت هذه الشخصية العامة البارزة أن تغطي جوانبها غير المستساغة، بل وتعكس صورة مفعمة بالحيوية والدينامية بمثل هذا النجاح أثناء فترة حياتها؟

ربما يكمن الجواب في اجتماع القوة والمال والنفوذ والسلطة على الأتباع، إلا أن سيرة حياته هذه بالرغم من دقتها وعمقها، لا تزال تترك مجالا للشك والتخمين.

كذلك يبقى القارئ في حيرة من أمره، فيتساءل عن سبب توتر العلاقة بين الأخوين كينيدي من ناحية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، خصوصا أن جون كينيدي كان مفتونا باستخدام الأساليب الاستخباراتية في سبيل خدمة المصلحة القومية.

وبربطه بين عناصر هذه القصة المدهشة وسرده للأحداث الجارية في فترة ولاية كينيدي، يكون ريفز قد زود القارئ أيضا بنظرات ثاقبة في كيفية إدارة الولايات المتحدة الأميركية من منظور رئيسها، وفي السياسة الأميركية على الصعيدين الاتحادي والحكومي، وفي سير الشؤون الخارجية الأميركية.

ويمكن الاستنتاج أن غياب المعرفة الشخصية المباشرة بين المؤلف والرئيس كينيدي لم يلحق أي ضرر يذكر بالكتاب، بل ربما عاد بالمنفعة عليه إذا أخذنا بنظر الاعتبار السحر والجاذبية الشخصية الآسرة التي كان يتمتع بها كينيدي وكثيرا ما استحوذت على الآخرين.

وهكذا نخلص إلى القول إن أمامنا كتابا جيدا يعرض بمصداقية سيرة حياة كينيدي كسياسي موهوب وزعيم ذكي، ويلقي الضوء على الجانب الإنساني لرئيس أميركي أثناء قيامه بواجباته اليومية، ومنها ما كان على درجة كبيرة من الأهمية.

المصدر : الجزيرة