الأساطير المؤسسة لإسرائيل

عرض/ إبراهيم غرايبة
يراجع هذا الكتاب عددا من الأفكار التي تعد أساسية في علمي التاريخ والاجتماع في إسرائيل، مثل علاقة الجالية اليهودية في فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل بالهولوكوست، وحرب قيام إسرائيل، وخلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ويدرس الأيديولوجيا المحركة لتأسيس إسرائيل في النصف الأول من القرن العشرين، وطبيعة القومية اليهودية كما فهمها وطورها المؤسسون لإسرائيل.


undefined-اسم الكتاب: الأساطير المؤسسة لإسرائيل
–المؤلف: زئيف ستيرنهيل، ترجمة: عزت الغزاوي
-عدد الصفحات:417
-الطبعة:
الأولى 2001
الناشر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) كانون، رام الله (فلسطين)

الييشوف..مجتمع يهود فلسطين
استخدمت الحركة العمالية في المجتمع اليهودي بفلسطين قيل قيام إسرائيل عام 1948 (الييشوف) منظومة من الأيديولوجيا والأفكار والمبادئ التي تؤسس لقيام أمة إسرائيلية, وكانوا في ذلك يتكئون على توليفة من الاشتراكية والقومية. ومنذ بداية عملهم السياسي ادعى المؤسسون بإصرار أنه في إسرائيل الكبرى "فلسطين" تتواءم أهداف القومية والاشتراكية.

ويراجع زئيف ستيرنهل هذه المقولة بمحاولة الإجابة على مجموعة أسئلة مثل: هل كانت التوليفة من القومية والاشتراكية قد أنجزت بالفعل؟ وهل كانت نية المؤسسين الحقيقية تكوين مجتمع بديل للبورجوازية وقائم على المساواة, أم أنهم أدركوا منذ البداية أن الهدفين متنافران فتخلوا عن الهدف الاجتماعي؟ وهل كانت المساواة هدفا أصيلا؟ وهل كانت القومية اليهودية حالة خاصة, أم أنها كانت في سياق بزوغ القوميات التاريخية العرقية أو الدينية القومية الأوروبية، وخاصة في أوروبا الشرقية حيث انبثقت الحركة الصهيونية؟.


لقد تمت صياغة المجتمع الإسرائيلي الذي أخذ شكله الحالي في السنوات الحاسمة للانتداب البريطاني في فلسطين، وكانت الطليعة العمالية تسيطر على الحركة الصهيونية، وقد اكتسبت سلطة اجتماعية وثقافية وأخلاقية في الييشوف لا ينازعها عليها أحد

لقد تمت صياغة المجتمع الإسرائيلي الذي أخذ شكله الحالي في السنوات الحاسمة للانتداب البريطاني في فلسطين, وكانت الطليعة العمالية تسيطر على الحركة الصهيونية. وقد اكتسبت سلطة اجتماعية وثقافية وأخلاقية في الييشوف لا ينازعها عليها أحد، وحصلت عام 1933 على 44% من الأصوات في انتخابات الكونغرس اليهودي. وأصبح بن غوريون رئيسا للهيئة الصهيونية والوكالة اليهودية، ومنذ ذلك الحين زودت الحركة العمالية المجتمع الإسرائيلي بنموذج للتطور حتى بعد سقوط نفوذها عام 1977, فلم تحدث تغيرات حقيقية في الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الإسرائيلية.

وأسس القادة الأصليون للحركة العمالية الصهيونية دولة إسرائيل، وثبتوا أهدافها، ووضعوا أسسها التنظيمية، وشادوا بناها السياسية والاقتصادية، وشكلوا الأيديولوجيا ووضعوها موضع الممارسة، وكان المنظرون قادة سياسيين سيطروا على المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ورغم دعاوى الاشتراكية لدى الحركة العمالية فقد أقيم مجتمع على غرار الرأسمالية الغربية يضج بالفروق الاقتصادية والاجتماعية والطبقية والبؤس الذي سيطر على حياة كثير من المهاجرين.

وبحلول عام 1977 كان المجتمع الإسرائيلي أوروبيا ولكنه متخلف عن الدول الأوروبية والنماذج العمالية في أوروبا، ففي مجالات التعليم الثانوي والعالي وتحسين ظروف الطبقات الفقيرة وتقديم المساعدة للمحتاجين كانت إسرائيل دولة مدينة بالإهمال الواعي طوال السنوات الخمس والعشرين التي أعقبت قيامها.


أسس القادة الأصليون للحركة العمالية الصهيونية دولة إسرائيل، وثبتوا أهدافها، ووضعوا أسسها التنظيمية، وشادوا بناها السياسية والاقتصادية، وشكلوا الأيديولوجيا ووضعوها موضع الممارسة

بيئة نشأة الصهيونية
كان ظهور الصهيونية في وقت تحطمت فيه المبادئ الكونية والإنسانية للحركات القومية وفشلت فيه الليبرالية كنظام عقلاني، وكان هيرتزل (1860-1904) مؤسس الحركة الصهيونية ليبراليا مصدوما، فقد كان اليهود يواجهون الطرد والإبادة ويتعرضون لضياع هويتهم الجمعية، وظهرت الفردية الليبرالية كخطر حقيقي على هويتهم الجمعية واستمرارية وجود كشعب في وحدة منسجمة مستقلة.
وهكذا فقد كانت الصهيونية استجابة قبلية وردة فعل تجاه الشعور اليهودي بعدم الأمن والخوف وعلى ضياع الهوية، فقد كان المجتمع اليهودي يتعرض للتدمير والاضطهاد فكانت الصهيونية محاولة لإنقاذ الذات والممتلكات اليهودية والأمة اليهودية من خطر الإبادة الجماعية.

وكانت الولايات المتحدة هي المكان المفضل للمهاجرين اليهود من روسيا وبولندا والنمسا وسائر الدول التي تضطهدهم حتى عام 1922 عندما سنت قوانين أميركية جديدة للهجرة، وقبل ذلك فإن 1% من المهاجرين اليهود توجهوا إلى فلسطين، وكانت موجات الهجرة اليهودية هربا من الاضطهاد في ألمانيا في العشرينيات والثلاثينيات هي التي أوجدت المجتمع الإسرائيلي.

وفي الفترة بين عامي 1930 و1940 التي وقعت فيها مذابح الهولوكوست كانت فلسطين المكان الوحيد الذي يمكن لليهود أن يهربوا إليه مما أعطى الييشوف دعما سياسيا ومصداقية لم يكن المجتمع الإسرائيلي ليقوم بدونها، وهكذا فإن دولة إسرائيل ومجتمعها لم يكونا ليقوما لولا الكوارث التي حلت لليهود في أوروبا.


كانت الاشتراكية عاملا ثانويا يضحى به وبالمساواة إذا تناقض مع القومية حتى في التطبيقات العمالية التي تبدو اشتراكية مثل الكيبوتسات والموشاف وتعاونيات فإنها عززت الاقتصاد الرأسمالي

وتكون التزام أيديولوجي أحيا اللغة العبرية ودفع الييشوف إلى الاكتفاء الذاتي، وكان بناء المجتمع الإسرائيلي مرده إلى انشغال الييشوف اليومي بالصراع دفاعا عن الوجود مما كون درجة عالية من الانضباط والالتزام والتماسك وتحمل الأعباء وتقديم التضحيات، ومضت الصهيونية من إنجاز إلى آخر في حين مرت الحركة القومية العربية بهزائم متتالية، والحقيقة الوحيدة المتبقية في التحليل كما يراها المؤلف هي أن الصهيونية كانت غزوا لأرض يسكنها أصحابها وبناء دولة مستقلة عليها من خلال الاستيطان والقوة.

وفي المؤتمر الثالث للحركة العمالية عام 1922 أعلن بن غوريون التزامات الييشوف ورد بحزم على أفكار الاشتراكية والمبادئ المثالية كما وصفها لنظام الإنتاج الاجتماعي الاقتصادي وقال بن غوريون في ذلك المؤتمر: علينا أن نقرر بوضوح نقطة البداية التي ننطلق منها لعملنا في هذا البلد فالشأن العظيم الذي يحكم عملنا هو انتزاع الأرض وبناؤها من خلال الهجرة المكثفة وعلينا ألا نخدع أنفسنا بالكلمات والعبارات الجميلة وأننا نواجه كارثة إفلاس الصهيونية، ودون الهجرة اليهودية واختراق الجدار الفولاذي المحيط بنا وانتزاع الأرض والموارد، فقد نفشل ولن يكون لنا مستقبل.

إن ما يواجهنا بالفعل هو كيف ندير حركتنا الصهيونية لتكون حركة قوية وقادرة على انتزاع الأرض وتنظيم الهجرة وتوطين العمال.. ولم يتحدث بن غوريون عن المساواة بل إنه سخر من زميله ليفكوفتش لحديثه عن مثل هذه الأفكار.

تناقضات
تبنى القومية على أساس العودة للطبيعة والبساطة ومقت المدينة، وقد غذت الحركة العمالية هذه الأسطورة، في حين كان المجتمع اليهودي يعيش أكثر من 80% من أعضائه في المدن، وكان المطلوب من اليهودي الجديد أن يكون مزارعا فاتحا للبرية.

وكان على القادة الصهاينة القوميين والاشتراكيين أن يبحثوا عن طرق لإنقاذ اليهود الذين تطردهم أوروبا فكان رد الفعل الدفاعي تبني اشتراكية مؤثرة قبلية مشربة بعناصر دينية وتميل قليلا إلى الفردية والقيم الكونية. وفي مجتمع الييشوف استخدم القادة الصهاينة مثل آرلو سوروف وبن غوريون مفاهيم ثقافية للسيطرة على المجتمع اليهودي وليس معادلات اجتماعية.

لقد كانت ثورة المؤسسين اليهود ثورة قومية اعتمد نجاحها على ثورة ثقافية ولكنها لم تكن ثورة اشتراكية تتطلب تغييرا جذريا في ملكية الثروة، وترأست الحركة العمالية عملية بناء الدولة، وكان ذلك يعني ثورة رئيسية لكل مهاجر، وهذه الثورة تطلبت تحولا: الهجرة إلى أرض بعيدة، وتغير في اللغة، وتغير في المهنة في أغلب الأحيان، وتغير درامي في أسلوب الحياة، وهكذا فإن بناء الأمة يعني تغيرا في اليهودي نفسه، وتطلب هذا تحولا ثقافيا عميقا، ولكنه لم يكن تغيرا في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.

لقد كانت الاشتراكية عاملا ثانويا يضحى به وبالمساواة إذا تناقض مع القومية حتى في التطبيقات العمالية التي تبدو اشتراكية مثل الكيبوتسات والموشاف وتعاونيات فإنها عززت الاقتصاد الرأسمالي.

وكان الاستيطان الجماعي خيارا براغماتيا وليس أيديولوجيا، فالكيبوتس كان نتيجة عجز الرأسمالية القديمة وعدم رغبتها في إعطاء أولوية للاعتبارات القومية وتشغيل عمال يهود بدلا من العرب، ولم يكن الاستيطان الجماعي خيارا أيديولوجيا واعيا بل حل تم التوصل إليه بعد سنوات عدة من محاولات توظيف العمال المهاجرين، ولم تكن حلا أيديولوجيا هدفه المساواة والملكية الجماعية، وكانت الأرباح والأعمال يتم تقاسمها وفق نظام أوجده فرانز اوبنهايمر (اقتصادي يهودي ألماني: 1864-1943) ولم يكن نظاما اشتراكيا.

وساد مجتمع في هذا الوضع تعاون بين اليسار الاشتراكي ومركز البورجوازية، وقدمت الحركة العمالية إثباتا على قدراتها العملية، فقد نظمت عمالا يحصلون على رواتب واهتمت برفاههم النسبي، وكبحت التوجهات الراديكالية ومنعت الإضرابات غير المشروعة أو المطالبة بزيادة الأجور.

وكان ثمة تعاون يتوارى خلف الصراع المعلن بين الطبقات المالكة في تل أبيب والقادة القوميين، وقد فهم زئيف جابوتنسكي المرشد الفكري لليكود (1880-1940) هذ الفكرة في بناء قاعدة نفوذ لحركته فاتجه إلى يهود بولندا الذين كانوا يحتقرون ثقافة الييديش التقليدية ويختلفون مع طليعة الحركات الصهيونية.

كان الاستيطان اليهودي قائما على العمل الزراعي وقد رأى غودون أحد الرواد مستقبل فلسطين اليهودية في الزراعة وليس في الصناعة، وكان هؤلاء الرواد في المستوطنات الجمعية لا يزيدون على 8% من اليهود في فلسطين، ومع موجات الهجرة الجديدة إلى فلسطين فقد العمل الزراعي النظرة الجدية والمثالية بالنسبة للأغلبية العظمى ولم تعد الكيبوتسات سوى أسطورة وتبدى أن استمرارها تناقض لا يحتمل بين النظرية والتطبيق.

وفشلت الحركة العمالية في تطوير تعليم ثانوي لأبناء أعضائها لأنه كان يراد لأبناء العمال أن يبقوا عمالا، وقد أسست المدارس في المدن، وكانت أقساطها أكبر من طاقة العمال وتحولت الهستدروت (المؤسسة العمالية النقابية) إلى مؤسسة ترعى العمال بخدمات اجتماعية واقتصادية وثقافية مقابل إخضاعهم للقيادة السياسية وكانت تضم أعضاء غير اشتراكيين وغير صهاينة فلم يكن مطلوبا سوى الانضباط والخضوع.

وفي نهاية عام 1947 كان عدد اليهود يزيد على 600 ألف من بينهم 175 ألفا أعضاء في الهستدروت، 30 ألفا يعيشون في الكيبوتسات والمستوطنات الزراعية، ولكن هذه السيطرة العالية لم تكن قائمة على أيديولوجيا اجتماعية أو أسلوب حياة مستمد من المساواة، وإنما من خلال قدرتها على حمل ابناء الأمة على أكتافها، ومنذ بداية الأربعينيات هبطت مكانة الزراعة والمزارعين إلى فئة ضحايا الهولوكوست والمهاجرين الجدد من البلدان العربية.

وكانت الحركة العمالية هي التي قدمت الطليعة السياسية والعسكرية والثقافية للييشوف ثم لدولة إسرائيل، وتكونت فجوة طبقية كبيرة داخل الحركة العمالية بين العمال والمزارعين والمدراء والموظفين الكبار الذين هم أيضا قيادة الحزب الحاكم.


كانت الإستراتيجية الصهيونية تتجاهل وجود العرب المواطنين في فلسطين قبل مجيء اليهود رغم علم قادة الصهيونية بأن فلسطين مأهولة بسكانها وليست أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض ولم تكن هذه الإستراتيجية بسبب نقص في فهم المشكلة ولكن لإدراك واضح للتنافس الكبير بين الأهداف الأساسية للجانبين العرب واليهود

إسرائيل والمواطنون العرب
كانت الإستراتيجية الصهيونية تتجاهل وجود العرب المواطنين في فلسطين قبل مجيء اليهود رغم علم قادة الصهيونية بان فلسطين مأهولة بسكانها وليست أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض ولم تكن هذه الإستراتيجية بسبب نقص في فهم المشكلة ولكن لإدراك واضح للتنافس الكبير بين الأهداف الأساسية للجانبين العرب واليهود.

وقد أمل بعض القادة والمفكرين الصهاينة بحل الورطة العربية بالحوار مع العرب وتقديم تطور اقتصادي سريع لهم يعوضهم فقدان سيطرتهم على وطنهم أو على جزء كبير منه أو بالتعايش ضمن دولة ثنائية القومية أو بفدرالية مع الدول العربية المجاورة، ولكن كلا الجانبين فهما بعضهما جيدا، وعرفا أن تطبيق الصهيونية سيكون فقط على حساب الفلسطينيين.

وقد بذلت القومية العربية كل ما بوسعها لمنع قيام دولة إسرائيل من ثورات وتمرد وإضرابات وعمل عسكري، ولكن الثورات العربية أدت إلى وحدة الييشوف وزيادة إمكاناته العسكرية.

وبعد الهولوكوست اكتسب اليهود تعاطفا دوليا وكان قرار التقسيم الذي قابله اليهود بفرحة غير طبيعية كانت تعبر عن عمق محنتهم في الأربعينيات، وأعلنت دولة إسرائيل في 14 مايو/ أيار 1948، أعلنها بن غوريون وكان محاطا بكل الأشخاص الرئيسيين في الحركة العمالية، وتحقق هدف الشباب الرواد الأوائل القادمين من روسيا وبولندا، وكانت الحركة الصهيونية قد سيطر عليها هاجس واحد جعلها أحادية النظرة، لقد انتصرت على كل الظروف المعادية بإلهام مبدأ أولية الأمة.

ولكن هذا الانتصار تطور إلى رفض للاعتراف بشرعية الحركة الوطنية الفلسطينية ورفض قرار التقسيم الذي فرح له اليهود واعتبروه نصرا كبيرا، لقد أصبح واضحا أن الحركة العمالية لم تكن مزودة بإطار رؤيوي يسمح لها بالحركة إلى ما وراء الثورة القومية التي قادتها بنجاح وبقيت أسيرة إنجازها هذا فلم تقدر على إقامة دولة علمانية ليبرالية قادرة على وضع حد للحرب مع العرب.

المصدر : غير معروف