أفريقيا بدون فرنسا

كامبردج بوك ريفيوز
في هذا الكتاب يسلط جون-بول نغوباندي، وهو رئيس حكومة سابق (ترأس حكومة الاتحاد الوطني بين 1996 و1997) في جمهورية أفريقيا الوسطى ونائب في المعارضة الحالية، الضوء على العلاقة المعقدة بين البلدان الأفريقية الفرنكفونية والقوة الاستعمارية الفرنسية السابقة وعلى الأوضاع المتدهورة في القارة وإمكانيات الإقلاع اقتصاديا وسياسيا.


undefined-اسم الكتاب: أفريقيا بدون فرنسا
–المؤلف: جون-بول نغوباندي
-عدد الصفحات: 393
-الطبعة: الأولى 2002
الناشر: ألبان ميشال، باريس

في تمهيده لهذا الكتاب يشير المؤلف إلى الأزمات السياسية التي تتخبط فيها جمهورية أفريقيا الوسطى والتي هي عينة مما تعرفه القارة من صراعات سياسية وعرقية. ويقول إن المجموعة الدولية لا تخفي مللها لأنها بذلت جهودا من أجل السلام والاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى مشيرا إلى بعثات الأمم المتحدة في هذا البلد والاتفاقات التي أشرفت عليها المنظمة الأممية.

ثم تحدث عن إشكالية الديمقراطية في القارة الأفريقية معتبرا أن الديمقراطية تمر عبر خلق الثروات وتحسين ظروف معيشة المواطنين. ويرى أن "ديمقراطية المجاعة ديمقراطية بلا غد" وأن "التحدي الكبير للدمقرطة في أفريقيا هو بدون شك الفقر".

ويتحدث عن أزمة مصداقية نعم الديمقراطية كما هو الشأن بالنسبة لنعم الاستقلال. ويرى أن تهميش القارة هو أخطر مما يعتقده الساسة الأفارقة. حيث أن حصة أفريقيا في التجارة العالمية تقدر بـ 1.8%، وربما أقل، منها نصف في المائة لجنوب أفريقيا لوحدها. يلاحظ أن أفريقيا تبدو في عيون الغير وكأنها ضاعت ولم يعد هناك ما يمكن فعله. كما أن مآسي القارة لم تعد تثير رد فعل أقوياء وأثرياء الشمال. "حيالنا انتقل العالم المتقدم من الشفقة إلى اللامبالاة.

يقول الكاتب "سعيدة هي الشعوب التي تثير جرائمها الاستنكار". ويرى أن الجرائم المرتكبة في حق الأطفال في سيراليون أثارت ردود فعل أقل من تلك التي أثارها خرق حقوق الإنسان في البلقان. ويلاحظ أن الأمم المتحدة تمكنت من حشد قوة تتكون من آلاف الجند من أوروبا، أميركا وغيرها وإمكانيات لوجستية ضخمة لتسوية أزمة كوسوفو فما عانى مجلس الأمن لإيجاد 5000 رجل من القبعات الزرق لإحلال السلام في بلد كبير مثل الكونغو الذي يبلغ عدد سكانه 50 مليونا، خاصة وأن تفكك هذا البلد قد يفجر نصف القارة.

يقول المؤلف إن قوة روابط أفريقيا الفرنكفونية مع القوة الاستعمارية السابقة جعلتها لا تصدق إمكانية تخلي هذه الأخيرة عنها. ويلاحظ أنه على خلاف المستعمرات البريطانية التي تم التخلي عنها مبكرا لتدبر أمورها لوحدها وتعلمت، من الآلام في غالب الأحيان، أن تستغني عن اليد المنجدة للقوة الحامية السابقة، "واصلنا نحن الفرنكفونيون في الاستفادة، طوال أكثر من ثلاثين سنة، من الوصاية الأمنية لمركزنا القديم. علينا أن نقر بأنه… تمت صبينتنا (من الصبينة). بدون شك حان الوقت لنتحمل بدورنا، في الألم، واجبات الاستقلال"

ويضيف المؤلف: والذي يلاحظ أنه على خلاف الاستعمار البريطاني كان الاستعمار الفرنسي اندماجيا (سياسيا وثقافيا). وعن "أفريقيا الفرنسية" يقول إنها لا تمثل إلا 13% من سكان القارة وثقلها الاقتصادي لا يكاد يذكر. فدول منطقة الفرنك الأفريقي لا تزن أكثر من نيجيريا من حيث الناتج المحلي الخام.

وفي سياق ما آلت إليه العلاقة الفرنسية-الأفريقية يتحدث الكاتب عما يسميه "طلاق النخب" ملاحظا أن فرنسا التي تكونت فيها كل نخب أفريقيا الفرنكفونية لم تعد اليوم وجهة النخب الأفريقية. كما أن تأسيس الجامعات الأفريقية لعب دورا رئيسيا في تكوين النخب محليا، لكن الطلاق بين النخب يرجع في رأيه إلى سياسة التأشيرات المتشددة التي تمارسها فرنسا حيال الطلبة الأفارقة مما جعل النخب الأفريقية تتوجه اليوم إلى كندا والولايات المتحدة. وهنا يتساءل عن مصير الفرنكفونية خاصة مع الشعور المتنامي في أوساط النخب الفرنكفونية بأن المعنيين الأوائل(أي الفرنسيين) بتطوير اللغة الفرنسية لا يعيرونها أهمية.

وعن الحقبة التاريخية لما بعد الاستقلال يشير الكاتب إلى الإعجاب بديغول في أوساط الساسة الأفارقة في أفريقيا الفرنكفونية وإلى تشكل شبكات سياسية ديغولية فرنسية-أفريقية قوية. ويرى أن مجيء ميتران للسلطة في فرنسا عام 1981 لم يكن إلا استمرارية للسياسة الديغولية (التي واصلها من تسلموا السلطة بعد ديغول) وليست متقاطعة معها. ويقول إن بعض الأحداث أعطت الانطباع بتغير في سياسة فرنسا الأفريقية ومنها تغيير السفير الفرنسي في ليبروفيل حيث ألقت هذه القضية بظلالها على العلاقات الفرنسية-الغابونية. ويرى أن الرؤساء الأفارقة (موبوتو في زائير، كونتشي في النيجر، طراوري في مالي…) أبدوا تخوفهم من العدول (الفرنسي) عن القواعد المتفق عليها عام 1960 والتي تقول بالدعم الفرنسي دون تحفظ للرؤساء الأفارقة ما داموا يضمنون المصالح الفرنسية.

كما جاء خطاب ميتران في قمة كانوسون في المكسيك والقائل بالاهتمام بشعوب العالم النامي وليس قياداته فقط ليزيد من تخوف هؤلاء.
ويعتبر أن هذا الخطاب -على الأقل كلاميا- كان إشارة قوية لنخب الفرنكفونية لأفريقيا ما وراء الساحل. لكن الحقيقة أن حكم ميتران (لمدة 14 سنة) لم يحدث قطيعة فعلية مع السياسة الفرنسية السابقة. إذ تميز حكمه بتصارع ثلاث اتجاهات في السياسية الأفريقية لباريس. أولا اتجاه عالم ثالثي ظهر بقوة في البداية لكن سرعان ما خفت صوته. ثانيا اتجاه يبحث عن حل وسط بين ضرورة التطور وحاجيات الحفاظ على مكتسبات الإرث الديغولي. ثالثا اتجاه ينحو نحو القطيعة وإعادة النظر في خريطة التعاون مع أفريقيا. تعايشت هذه الاتجاهات الثلاث واحتل كل واحد منها وضعا مسيطرا حسب تغيرات علاقات القوى. لكن الكاتب يقول عموما إنه منذ حكومة ميشال روكار في نهاية الثمانينيات حتى حكومة جوسبان، أصرت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على القول بأن أموال المساهم الفرنسي (الذي يدفع الضرائب) لن تنفق عبثا من أجل التعاون خاصة مع الدول التي تسيء التصرف.

يركز المؤلف في كتابه على مسؤولية الأفارقة إذ يقول إنه يتعين على الأفارقة أن يعترفوا بأن للاستعمار محاسن رغم مساوئه. ويسرد قائمة طويلة من مساوئ وجرائم الاستعمار في أفريقيا تليها قائمة من محاسن الاستعمار بدأها بوضع الاستعمار حد للعبودية والصراعات العرقية والأمراض الفتاكة كما سمح بوجود دول لم تكن موجودة من قبل.

ويذهب إلى حد القول إن الاستعمار لم يدم ما فيه الكفاية. حيث يقول إنه في كتابه الصغير الذي صدر عام 1944 اعتبر أن مشكلة أفريقيا تكمن ربما في كون مدة الاستعمار كانت قصيرة جدا مما لم يسمح بزرع الحداثة وتجذرها. ويضيف أنه في حالة بلاده، دام الاستعمار 60 سنة فقط وهي مدة قليلة لتجذر كافي للحداثة. ويقول إن جمهورية أفريقيا الوسطى ليست السنغال التي عرفت 3 قرون من الوجود الفرنسي ولا جنوب أفريقيا التي زارها الهولنديون منذ القرن 17. أما فيما يخص الاستعمار الجديد، فيقول إنه لا أحد يتخيل أن الفرنسيين قد انسحبوا نهائيا عام 1960 بل إن لهم مصالح يحمونها. وهم يغادرون اليوم لأنه لا شيء يربطهم هنا (في أفريقيا)، مؤكدا على أن العلاقات بين الدول مبنية على المصالح لا غير ولا مجال للعاطفة فيها.

في رأيه المسألة الأساسية الآن هي إلى متى نحمل (نحن الأفارقة) الاستعمار الجديد والإمبريالية أوزار كل شيء. احتفلنا في 2001 بالذكرى الأربعين لاستقلال الدول الأفريقية و85 إلى 90% من سكانها لم يعرفوا الاستعمار. فهل من الجدي أن نستمر في القول بأن كل شيء من "ذنب الأبيض" (يقصد الرجل الأبيض أي الاستعمار الأوروبي). ويرى أن دولا أفريقية مثل (مالي، النيجر، جمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو برازافيل) تمت فيها انتخابات حرة ونزيهة في 1992 و1993 وفاز بها مرشحون لم تساندهم فرنسا.

في رأيه المشكلة تكمن في نتائج العلاقة الخاصة مع فرنسا، أو ما يسميه بـ"الصبينة"، أي صبينة الأفارقة. ويصف اتهام رؤساء الدول الفرنكفونية الأفريقية فرنسا وصندوق النقد الدولي عدم إعطائهم الأموال اللازمة لدفع الأجر بالسريالي.

وهنا يقول إن باقي أجزاء أفريقيا تعلمت المشي لوحدها بعد استقلالها فيما بقيت فرنسا تمسك بيد أفريقيا الفرنكفونية. لكن مواكبة فرنسا لهذه الدول غداة الاستقلال مباشرة كانت ضرورية لتفادي الحروب. كما أن دولا غير فرنكفونية تعيش أزمات حادة مثلها مثل بعض البلدان الفرنكفونية. ويرى أن أفريقيا الفرنكفونية عرفت حتى 1990 مناخ استقرار وسلام ورخاء اقتصادي نسبي رغم بعض الأزمات (الحرب الأهلية في تشاد ووجود أنظمة ديكتاتورية). وكان ذلك أساسا بفضل عاملين أساسيين: أولهما العلاقة الخاصة بين فرنسا ومستعمراتها القديمة وهنا يشير إلى العلاقة الخاصة بين هوفيت-بواني وفرنسا حتى وفاته والتعاون بين فرنسا وساحل العاج والمساعدة التقنية الفرنسية لهذه الدول.
ثانيهما: الأمن النقدي عبر الفرنك الأفريقي (منطقة الفرنك التي تضم دول أفريقيا السوداء الفرنكفونية).

ولإقلاع أفريقيا اقتصاديا لا يستبعد الكاتب أفريقيا متعددة المستويات الاقتصادية كما حدث في آسيا ويعلق أمالا كبيرة على جنوب أفريقيا لتكون المحرك الاقتصادي للقارة. لكن الإقلاع الاقتصادي للقارة يحتم على قياداتها أن تحسن التسيير الاقتصادي وأن توفر الشروط الضرورية للنمو الاقتصادي وتكافح الرشوة العارمة ملاحظا أن عدم معاقبة المخالفين للقانون شجع الرشوة. ويرى أن اقتصادا يشكل فيه الاقتصاد الموازي (السوق السوداء) بين 60 و75% كما هو شأن بعض الاقتصاديات الأفريقية لا حظ له في الالتحاق بركب العولمة. وفي رأيه يجب على الدولة أن تنسحب من المجال الاقتصادي وتشجع استثمارات القطاع الخاص. ويعتبر أن ن تحديات أفريقيا تتلخص في قبول العولمة والانخراط فيها، الاعتناء بالتعليم وربطه بسياسات التنمية، الإصلاحات الشاملة، تنمية المجتمع المدني وروح المواطنة، مواجهة تحدي الصحة العمومية، إعادة بناء وتقوية دولة القانون والديمقراطية، مكافحة الاقصاء العرقي (والتي يعتبرها أم الضروريات في سبيل الاندماج الوطني).

في خاتمة كتابه يعود المؤلف إلى العلاقة بين فرنسا وأفريقيا الفرنكفونية وإلى الأفكار التي طرحها في بداية نصه، ليقول إن مسؤولية الأفارقة أساسية في حل مشاكل القارة وإنه يجب ألا يعولوا على الخارج، بل عليهم أن يحركوا طاقاتهم الوطنية. ويعتبر أن مصير الدول الأفريقية مسألة حساسة ومهمة جدا وعليه لا يمكن أن تترك في أيدي السياسيين لوحدهم لأن أغلبيتهم متعطشة للسلطة أكثر مما هي مهتمة بمصالح الشعب. وبالتالي يطالب بدور للمجتمع المدني في الشأن العام، لأن سكوته وسلبيته يعني تورطه.

ويرى أن من بين فئات المجتمع المدني المتعددة توجد فئتان أكثر أهلية للعب دور أساسي في البناء السياسي والاجتماعي وهما الفاعلون الاقتصاديون الذين يعملون في القطاع الخاص ومسئولو الأديان. ويعتبر القطاع الخاص في أفريقيا أول ضحية للرشوة العارمة كما يرى فيه بوابة أفريقيا نحو العولمة. أما رجال الدين (كاثوليك وبروتستنت ومسلمون) فهم أول من يعي أهمية الأخلاق في تجديد المجتمعات الأفريقية. ويقول إنه كان دائما معجبا بنوعية تفكير المؤسسات الدينية الكاثوليكية في جمهورية أفريقيا الوسطى وبمواقفها الشجاعة دفاعا عن الحريات والديمقراطية فيما ترددت الأحزاب السياسية في اتخاذ مثل هذه المواقف. ويختتم بالقول إنه من الملح أن يأخذ كل هؤلاء الكلمة وليقول بصوت عال إن كل هذا لا يمكنه أن يدوم في القارة.

يعتبر هذا النص شاملا من حيث إلمامه بهموم القارة عموما وأفريقيا الفرنكفونية السوداء خصوصا وطرحه المتزن للقضايا المثارة للنقاش وللعلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة. والجدير بالملاحظ والتقدير هو انفراد هذا الكتاب بسيل من النقد الذاتي وهي خصلة نادرة في مثل هذه البلدان التي اعتادت على تحميل الغير لاسيما القوة الاستعمارية السابقة. فجاء هذا الكتاب ليحدث قطيعة مع ما يمكن أن نسميه الأيديولوجية التنديدية. إذ أوضح المؤلف مسؤولية الأفارقة في الأوضاع المتردية التي تعرفها بلدانهم من منطلق العارف بخبايا السياسيات الأفريقية-الفرنسية لأنه مارس السلطة (كان رئيسا للحكومة) في بلاده ولا يزال يشارك في الحياة السياسة فيها كنائب في البرلمان وزعيم لحزب في المعارضة.

لكن تشديد المؤلف على المسؤولية المحلية في مأساة البلدان الفرنكفونية جعله يقلل -عن وعي أو غير وعي- من شأن العامل الاستعماري والعامل الخارجي. ورغم انتقاداته لفرنسا فإنه لا يلومها كثيرا على حمايتها أنظمة ديكتاتورية في أفريقيا الفرنكفونية وإن كان يقر بأن الأفارقة أدركوا اليوم أنه يوجد عاطفة في العلاقات الدولية التي تحكمها المصالح حصرا. كما يبدو وكأنه يتأسف على الانسحاب التدريجي لفرنسا من مستعمراتها السابقة وفي نفس الوقت يتحدث عن ضرورة وقوف الدول الفرنكفونية الأفريقية على أقدامها دون أن تمسك بيد القوة الاستعمارية السابقة. وهنا يقع الكاتب في نوع من التناقض. لكن رغم بعض التناقض يبقى هذا النص محاولة جادة لفهم مشاكل القارة وحل ألغازها السياسية.

المصدر : غير معروف