أشبال الأسد.. دروس قصص النجاح في أفريقيا

عرض– كامبردج بوك ريفيوز
ربما كانت أفريقيا بالنسبة للكثيرين, وتحديداً فيما يخص مسألة التنمية وتخليصها من الفقر, مقبرة لنظريات التنمية والنهوض ومحط اليأس, حيث الفشل يعتري تقريباً كل أوجه الحياة في القارة. على أن هذا الحكم شبه العام والتعميمي لا يتصف بالدقة ولم تعد له علاقة بالوضع الراهن للقارة التي تنهض بعض أجزائها رغم كل المعيقات.

undefined

-اسم الكتاب: أشبال الأسد.. دروس قصص النجاح في أفريقيا
–المؤلف: آنا ريد
عدد الصفحات: 114
-الطبعة: الأولى 2004
الناشر: بولسي إكستشانج, لندن

هذا الكتاب يقدم صورة النهوض الجزئي في بعض بلدان القارة, وربما تكمن أهميته بالنسبة للقارئ العربي في كونه يرصد نجاحات تأتي من قارة لطالما نظر إليها العرب على أنها متأخرة عنهم. ولهذا من المفيد مطالعة هذا الكتاب من زاوية عربية بحتة بهدف المقاربة الاستفادية.

مسيرة ودروس مستفادة
الكتاب يتناول مسيرة أربعة بلدان: رواندا, بوتسوانا, تنزانيا، موزمبيق. الدرس الأول الذي يقدمه الكتاب هو إمكانية النظر جنوباً, فلعل ثمة ما يفيد دول عالمثالثية عديدة ومن ضمنها الدول العربية من خلال مطالعة بعض قصص نجاح دول أفريقية غالبت الحروب الأهلية والإثنية, وتجاوزت مآزق الانسداد الديمقراطي, ونجحت في موضعة مجتمعاتها على مسارات النهوض.

أهمية هذا الدرس هي وجود ما يمكن تسميته "فوبيا استغرابية" تحول دون الاستفادة من النموذج الغربي في التنمية والديمقراطية, لأسباب تاريخية لها علاقة بأنماط علاقات القوة والسيطرة والهيمنة التي لم تنقض مع نهاية الاستعمار المباشر.

لكن الآن يبدو أن ثمة إمكانية تجاوز تلك الفوبيا، فالعالم الآن يقدم نماذج أخرى: هندية, يابانية, لاتينية, والآن أفريقية.


رغم كل الدماء التي سفكت في الحروب الأهلية الأفريقية, والفقر والكوارث سواء الطبيعية أو التي صنعها الإنسان, فإن عددا من بلدان القارة تنهض وتنمو وتتقدم بشكل لافت للانتباه

تبقى المسؤولية مناطة بمن يستفيد. لكن المفارقة في النموذج الأفريقي هي وجود نظرة عالمية مستبطنة ازدرائية تجاه أفريقيا والأفارقة تتوافق مع نظرة مشابهة تعاني منها القارة السمراء. فأفريقيا هي قارة الفشل التاريخي حيث الحروب الأهلية والإثنية الطاحنة تتناسل بلا انتهاء.

وحيث الفقر والمجاعات يأكلان الأخضر واليابس, وحيث فساد الحكام والنخب المسيطرة يزيد من فاقة البلدان والمجتمعات وينهي ثرواتها المحدودة. وفي أكثر مطالعة للوضع الأفريقي يكون الاستنتاج شبه العام أنها القارة المستحيلة التي لا يمكن أن تنهض.

المهم هنا, وكما يطرح الكتاب صغير الحجم المبهر في معلوماته هو وجود وجه آخر لتلك الصورة القاتمة, يمكن للمرء أن يتأمل فيه وتُستقرأ منه بعض الدروس.

هذا الوجه يقول إنه برغم كل الدماء التي سفكت في الحروب الأهلية الأفريقية, والفقر والكوارث سواء الطبيعية أو تلك التي صنعها الإنسان, فإن عددا من بلدان القارة تنهض وتنمو وتتقدم بشكل لافت للانتباه.

بعضها واجه صراعات إبادة عرقية أهلية كما في رواندا, سقط فيها أكثر من 800 ألف ضحية, ومع ذلك استطاع هذا البلد أن يجد صيغة ينهض بها من ركام الحرب, ويحقق فيها أشواطاً من المصالحة الأهلية, ويستفيد من المساعدات الدولية ليخفض مستويات الفقر إلى حدود مشجعة.

صورة إجمالية
تنقل تفاصيل الصورة الأفريقية مؤشرات عدة وعلى الصعد المختلفة. اقتصادياً, تخبرنا تلك الصورة أن معدل النمو الاقتصادي في دول جنوب الصحراء خلال عامي 1995 و1996 كان يتراوح بين 3.8% و4.6%, وقد كان أعلى من معدل النمو الاقتصادي العالمي آنذاك.

سياسياً, نرى في عدد من البلدان الأفريقية ديمقراطيات تشتغل بشكل معقول وأحياناً مثير للإعجاب خاصة وأنها ديمقراطيات تقوم في مناخات فقر وتخلف.

فهناك حكام ورؤساء يخوضون انتخابات عامة فيخسرون فيتنحون كما حصل مع دانيال أراب موي في كينيا عام 2002. وهناك معارضات مسلحة شرسة تلقي السلاح وتتوافق مع النظام القائم على صيغة مشاركة في الحكم (كما في أنغولا وموزمبيق وأكثر من بلد).

تصالحيا وأهلياً, نجحت العديد من الدول الأفريقية في صوغ معادلات وطنية تجاوزت بها مراحل الصراع الدموي والحروب الداخلية طويلة الأمد.

وهكذا فالقارة السمراء تشهد سياسة تتعقلن, وتجارة تتقدم, وأوضاعا اقتصادية تتحسن تدريجيا, ورغبة حقيقية بالنهوض تدعمها إرادة سياسية لمجموعة من البلدان القيادية التي تريد فعلاً تغيير وجه القارة, وفي مقدمتها جنوب أفريقيا ونيجيريا.


تشهد القارة السمراء سياسة تتعقلن, وتجارة تتقدم, وأوضاعا اقتصادية تتحسن تدريجيا, ورغبة حقيقية بالنهوض تدعمها إرادة سياسية تريد فعلاً تغيير وجه القارة

وعلى وجه الخصوص تلعب جنوب أفريقيا دور القائد الإقليمي الذي يؤمن بأن نهضة الإقليم والقارة كلها هي نهضة متكاملة وتعضد بعضها البعض. إذ لم يعد هناك مكان لبلد يؤمن تنميته الخاصة وسط جيران فقراء, لأن فقرهم سيفيض عليه ويدمر نهضته آجلا أم عاجلاً.

جنوب أفريقيا التي تنحى أسطورتها الحية نلسون مانديلا عن الحكم، قدمت للأفارقة والعرب والعالم الثالث نموذجا جديداً في التسيس، حيث لا يتمسك الحاكم بالحكم حتى لو كان بعظمة مانديلا الذي لا يدانيه كثير من الحكام المعاصرين.

نجاح جزئي لكنه مبشر
قصة النجاح الأفريقي في بعض الدول, مثل بوتسوانا ورواندا وموزمبيق وتنزانيا ليست كاملة بل نسبية, الأمر الذي لا يطعن فيها بقدر ما يجعلها درساً عمليا, وليس طوباويا يمكن الاستفادة منه.

ففي تلك البلدان ما زالت هناك قائمة لا تنتهي من المشاكل والمعضلات التي قد تعود وتعصف بها، إن لم تستمر الحكمة سائدة في تسيير الأوضاع. لكن يبقى الدرس الأفريقي الكبير يقول لنا إن النهوض ممكن حتى من دون ثروات.

والإحباط الذي يلفنا في المنطقة ويجعل نظرتنا سوداوية ليس قدرا محتوما بل يمكن التخلص منه. ولنتأمل عن قرب في بعض تفاصيل الصورة الأفريقية في البلدان الأربعة المذكورة.

ففي بوتسوانا -البلد الذي استقل عام 1966- يقارب معدل دخل الفرد في الوقت الحالي عشرة آلاف دولار. وهو معدل يزيد نظيره على ما في البلدان العربية كلها ما عدا أربعة أو خمسة بلدان خليجية.

وخلال حقبة الثمانينيات بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي 11%. صحيح أن الماس يشكل العمود الفقري للتنمية الاقتصادية, لكن التقارير الدولية تشير إلى أن بوتسوانا تتميز بغياب الفساد المالي على مستوى النخبة الحاكمة, والتوزيع الحكيم والعادل للثروة.

وهي إذ تواجه معدلات مرتفعة ومخيفة من الإيدز, إلا أنها البلد الأفريقي الوحيد الذي لا يتلقى مساعدات مالية من الخارج, بل إن عضويتها في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عضوية دائنة وليست مدينة (أي تعطي ولا تأخذ).

نظام الحكم في البلاد رئاسي معتمد على توافقات ناجحة مع وبين القبائل الرئيسية، يقوم على احترام الدولة للقبائل وتخلي تلك القبائل عن سلطات واسعة للدولة اعترافاً بها وبأولويتها.

في موزمبيق تأخذ قصة النجاح منحى آخر: حرب أهلية طاحنة, استمرت أكثر من عقد ونصف عقد بين الحكومة بقيادة حركة فريليمو (المدعومة سوفياتياً) وحركة المعارضة رينامو (المدعومة برتغالياً), انتهت باتفاقية سلام وقعت في روما سنة 1992, ولصالح الحزب الحاكم عملياً.

هذا الأخير يعمل بقضه وقضيضه على مماهاة مصلحته في البقاء بالسلطة مع تحقيق إنجازات وطنية على صعيد الاقتصاد والتنمية والاستقرار السياسي.

وعلى مدار اثنتي عشرة سنة -حقبة ما بعد الحرب الأهلية- حققت موزمبيق معدل نمو اقتصادي متواصلا يحوم حول نسبة 9%, وهو معدل مثير للدهشة بالمعايير الأفريقية, وحتى العالمية.

هذا النمو الاقتصادي أفاد القطاعات الاجتماعية والشعبية وقلص فجوات الفقر, رغم أنه كان يعاني من اختلالات هامة, كعدم التوازن في تحقيق النمو مناطقياً, وتركيز رأس المال في نطاقات ضيقة, وانتشار الفساد في أطر النخبة الحاكمة.

لكن كل ذلك لا يحجب حقيقة أن معدل دخل الفرد في أقل من عقد من السنين قد ازداد على الضعفين (من 90 دولارا عام 1994 إلى 214 عام 2002).


قصة النجاح في بعض الدول الأفريقية, ليست كاملة بل نسبية, الأمر الذي لا يطعن فيها بقدر ما يجعلها درساً عمليا, وليس طوباويا, يمكن الاستفادة منه

والدرس الاقتصادي الأهم في قصة موزمبيق هو أن عجلة النهوض كانت محلية وليست مرتكزة على البيئة الدولية. فالقطاعات المحلية واللاعبون المحليون هم الذي وفروا الظروف ثم استثمروها لنقل بلدهم خطوات إلى الأمام.

سياسياً, كان اتفاق السلام في روما بداية عهد جديد في البلاد, حيث تبعه صياغة دستور جديد للبلاد, ثم في سنة 1994 أجريت انتخابات عامة (اعتبرها المراقبون الدوليون حرة ونزيهة) فاز بها الحزب الحاكم بغالبية واضحة.

وبها, فتحت صفحة جديدة من التسيس الموزمبيقي أحالت العنف والحرب الأهلية إلى الماضي. حركة رينامو المعارضة فازت في خمس ولايات من أصل إحدى عشرة ولاية, وحققت نتائج لم تكن متوقعة رغم خسارتها.

بعيداً عن التفاصيل, فإن ما يهم هو درس تحول المعارضة المسلحة إلى حزب سياسي يمكن أن يمارس السياسة السلمية. درس الإصلاح السياسي يمكننا أن نتعلمه عملياً من أفريقيا, كما من الهند والهنود.

فهناك يواجه الناس المشكلات بشجاعة ليحلوها, لا ليهربوا منها. إن كان من الصعب علينا أن نحذو حذو دول قريبة منا مثل اليونان أو دول جنوب القارة الأوروبية، نهضة وتقدما, فعلى الأقل لنحذو حذو جنوب أفريقيا ودول جنوب القارة الأفريقية.

المصدر : الجزيرة