لغة الإسلام السياسي

عرض/ إبراهيم غرايبة
يقدم برنارد لويس في كتابه هذا بحثا في بنية النص الإسلامي وآلياته واحتمالاته ومساراته في لغته مستخدما منهج تاريخ الأفكار، ولويس هو من أشهر أساتذة تاريخ الإسلام في الجامعات الأميركية وهو يهودي بريطاني، ومن كتبه الأخرى كتاب "مستقبل الشرق الأوسط" الذي نشر عام 1997 وترجم إلى العربية عام 2000.


undefined-اسم الكتاب: لغة الإسلام السياسي
–المؤلف: برنارد لويس، ترجمة: عبد الكريم محفوظ
-عدد الصفحات:187
-الطبعة: الأولى 2001
الناشر: : دار جفرا للدراسات والنشر، دمشق


المجاز والتلميح
حدثت في إيران عام 1979 سلسلة من الأحداث التي أدت إلى تغييرات عميقة الجذور في الحكم والمجتمع في إيران، واعتبرها أصحابها ثورة تقدم نفسها بلغة الإسلام، أي أنها حركة دينية بقيادة دينية وتوجه النقد للنظام القديم على أساس ديني وتطرح مخططات دينية لبناء المستقبل.

إن الإسلام على علاقة سياسية وثيقة بالدولة باطنيا وظاهريا في آن واحد معا، والإسلام في كل الدول ذات السيادة وذات الأغلبية الواضحة دين الدولة، إذ تتضمن معظم دساتير تلك الدول بنودا تؤكد فيها أن الإسلام مصدر رئيسي من مصادر التشريع. فما القوة أو الجاذبية التي ينطوي عليها الإسلام كاستحقاق ولاء وإغراء ثوري في آن معا؟.


وما يزال الإسلام بالنسبة لمعظم المسلمين أكثر أسس السلطة رضا وقبولا أو الأساس الوحيد المقبول في حقيقة الأمر إبان الأزمات، ولا يمكن لسلطة أن تحقق هيمنة سياسية على ساحة شاسعة ولفترة طويلة جدا إلا حين تستمد السلطة الحاكمة شرعيتها من الإسلام أكثر مما تستمدها من دعاوى قومية أو وطنية أو أفكار غريبة، فالإسلام مازال يقدم في الحياة السياسية أوسع صياغة للأفكار وأكثرها إدراكا للمعايير والتقاليد الاجتماعية. ويوفر الإسلام منظومة رموز من أكثر المنظومات فاعلية للتعبئة السياسية.


يقدم الأدب الإسلامي اهتماما بواجبات والتزامات الحكام والمحكومين محورها اخيتار الحاكم وتعيينه ومبايعته، والتزامات الحاكم تجاه المحكومين والتزامات المحكومين تجاه الحاكم وما ينجم عن ذلك من نطاق وحدود السلطة والطاعة

الجماعة السياسية
استوعبت الكتابات الإسلامية في مجال السياسية الفلسفة السياسية السابقة وأنتجت أدبا فلسفيا جديدا وأصيلا والشريعة السياسية تستند على الوحي فهي ليست عرضة للتغيير والتبديل، ولكن ثمة خلافات ظهرت في تأويل النصوص، وكان ثمة قبول واستيعاب لهذا الاختلاف.

وهناك فهمان مغلوطان شائعان عن الفكر السياسي الإسلامي والحكومة الإسلامية أولهما يتصور أنهما ثيوقراطيان تحت هيمنة رجال الدين، والثاني يتصورهما دكتاتوريين استبداديين، ولكن هذين الحكمين يستندان على سوء الفهم ليس إلا، فالإسلام يخلو من طبقة الكهنوت أو أي وساطة بين الله والعبد، كما يخلو من أية هيئة كهنوتية هرمية البنية، ولا وجود في التاريخ الإسلامي لنظراء البابوات والكرادلة، وكان نظام الملات في إيران المعاصرة منفصلا تماما عن السوابق الإسلامية.

وتصوير الحكومة الإسلامية على أنها نظام دكتاتوري يكون الحاكم فيه طاغية مطلق الصلاحيات هو تصوير زائف وليس صحيحا، فالشريعة الإسلامية ما خلعت على الحاكم سلطة مطلقة، فسلطة الحاكم رغم أنها العليا فإنها تخضع لتقييد هام جدا يأتي من التصور الإسلامي للشرع، فالدولة في التصور الإسلامي يؤسسها الشرع ويصونها، وواجب الحاكم إنما هو الدفاع عن الشرع وإعلاء شأنه والحفاظ عليه وفرضه.

ونشأت هنا مصطلحات مثل "الإمامة" و"الخلافة" ومنها الإمام والخليفة، والسلطة والسلطان للدلالة على الحكم والحكومة والحاكم، والمدينة، ولكن أعم المصطلحات هو الدولة.

الحكام والمحكومون
يستخدم مصطلح الخليفة والخلافة في العربية للدلالة على الملك، وجاءت في القرآن الكريم في الحديث عن آدم "إني جاعل في الأرض خليفة" وعن داود "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" وقد كان داود ملكا "وآتاه الله الملك والحكمة" ووردت الكلمة أيضا بمعنى الورثة.

وأما الخلافة التاريخية وهي أعظم مؤسسة ريادية في التاريخ الإسلامي وأكثر المؤسسات عظمة وأهمية فقد بدأت باختيار أبي بكر خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول، والكلمة تعكس في دلالاتها تقييد السلطة بالشريعة الإسلامية والأمة (البيعة) فالحاكم يخلف رسول الله والخلفاء من قبله وهو أمير المؤمنين الذي يختارونه ويبايعونه برضاهم وموافقتهم ويتعاقدون معه بالبيعة على أن يحكمهم ويقودهم.

وكلمة سلطان من السلطة أطلقت لأول مرة على الوزراء، أطلقها هارون الرشيد على وزيره، ولكن اللقب صار يطلق على الخلفاء وتفردوا به، وفي دولة المماليك كان خليفة وسلطان فالأول من العباسيين والثاني من المماليك، وهو نظام يشبه كثيرا نظام الملك في بريطانيا ودول أخرى أي الملك ورئيس الوزراء وتكون السلطة الفعلية بيد رئيس الوزراء أو السلطان، وقد اعتمد العثمانيون الأتراك لقب السلطان رسميا، وقد أطلق لقب السلطان على حكام في ظل الخلافة العباسية كالأمويين وآل زنكي، وفي الدولة العثمانية كان اللقب يعطى أيضا للنساء مثل خاتم سلطانة أي ابنة السلطان والأم السلطانة أي والدة السلطان.

واستقرت دلالة السلطان في الدولة العثمانية على رئيس الدولة ومازال اللقب معتمدا في دولة عمان. واستخدم لبعض الوقت في مصر في عهد بعض ملوك أسرة محمد علي واستخدم أيضا في المغرب، واستخدمه لفترة قصيرة من الزمن الملك عبد العزيز آل سعود، ويذكر هنا أن الملك فهد اتخذ عام 1986 قرارا بإلغاء لقب صاحب الجلالة واعتماد لقب خادم الحرمين الشريفين.

وكان العرب قبل الإسلام قد اتخذوا ممالك ولقب ملك كما في اليمن وكندة والغساسنة والمناذرة، ولكن التراث العربي كان ينفر من الملك ويفضل العرب أن يقودهم شيوخ العشائر لا أن يتأمر عليهم ملك، وكانت النظرة الإسلامية تميز بين الخلافة والملك، فالخلافة تستند على الشريعة والبيعة ولكن الملك نظام تعسفي لا يردعه شيء ولا يستند على أساس ديني وشرعي، وكان مفكرو الدولة العباسية كالجاحظ يعيبون على الدولة الأموية بأنها "ملك كسروي وغصب قيصري".. ومن ألقاب الملك في اللغات الإسلامية الأخرى "الشاه" الذي اعتمده ملوك إيران، والخان والخاقان وهما لقبان تركيان ومغوليان استخدما في آسيا الوسطى.

ويرتبط تولي الحكام للسلطة بالبيعة وهي وإن كانت تأخذ طابعا احتفاليا وتعبر عن إعلان الطاعة فإنها أيضا تعبر عن التعاقد والاتفاق بين الطرفين الحاكم والمحكوم.

ومن ألقاب السلطة "الرئيس" و"الزعيم" والرئيس لقب قديم يعود إلى العصر الجاهلي وقد أطلقه الفيلسوف الفارابي في القرن العاشر الميلادي على حاكم المدينة، وأطلق اللقب في العصر السلجوقي على الإدارات المدنية وأطلق لقب ريس وهي كلمة تركية على أمير البحر "أميرال" وصار منذ القرن التاسع عشر يعني رئيس الجمهورية.

وأما الزعيم فدلالته الحديثة هي القائد السياسي الملهم، وقد بدأ استخدام مصطلح الزعيم لدى العرب والمسلمين في موضع الذم فقد أطلق على زعيم الحشاشين، وعندما وصف إمام اليمن نفسه بأنه أمير المؤمنين كان يوصف في بلاط المماليك بأنه زعيم المؤمنين بمعنى أنه يحسب نفسه كذلك، وكان الزعيم لقبا عسكريا في السلطنة المملوكية وظل كذلك حتى العصور الحديثة، وأطلق اللقب في العصر الحديث على القائد المصري مصطفى كامل كما أطلق على رئيس الجمهورية العراقي عبد الكريم قاسم.

سكان الدولة أو المحكومون
استخدم للدلالة على سكان التابعين للدولة ثلاثة مصطلحات: الرعية والتبعية والمواطن، وكانت الرعية هي المصطلح الشائع للدلالة على رعايا الحكم دون أي تمييز معين، واستخدمت الكلمة أيضا في القاموس الانجليزي (Rayah) و "Ryat" وقد استخدمت الأولى لأول مرة في الإنجليزية عام 1625 مقتبسة من الأوردية في الهند التي اقتبستها من العربية وتعني فلاح أو مزارع، والثانية كان أول استخدام موثق لها عام 1813 ويعرفها قاموس أوكسفورد بأنها واحد من رعايا السلطان التركي غير المسلمين ممن عليهم دفع الجزية.

ورغم أن التعريفين ليسا مغلوطين فإنهما لا يعكسان الاستعمال الإسلامي الدقيق لهذا المصطلح، ففي الاستعمال الإسلامي تعني كلمة الرعية جميع المواطنين، وكان مصطلح الرعية في الدولة العثمانية يعني "المواطنين الذين لا يتمتعون بصفة رسمية" مثل العسكر و"القلمية" أي الإداريين و"العلمية" أي علماء الدين، وكان يشمل المسلمين وغيرهم ولكنه لم يكن يشمل العبيد.

وكان الفهم الغربي للمصطلح بأنه رعايا الدولة لغير المسلمين مرده إلى أن الزوار الغربيين الأوائل للدولة العثمانية كانوا لا يزورون إلا الولايات الأوروبية ولا يقيمون صلات إلا مع السكان غير المسلمين، وقد فهم العرب والمسلمون المصطلح في ما بعد كما فهمه الغرب بسبب تأثرهم بالغرب منذ القرن التاسع عشر.

واستخدم مصطلح تابع وصار المرادف العثماني للكلمة الإنجليزية "Subject" أي أحد رعايا الدولة وصار يدل على المواطنة والجنسية فهو بالأساس مصطلح أجنبي بدأ يستخدم بمضمون سياسي.

أما مصطلح المواطن يعود إلى الثورة الفرنسية ويعني المشاركة في الحكم ولم يكن معروفا في اللغة السياسية الإسلامية، وقد شاع في العصر الحديث على نطاق واسع.

ويقدم الأدب الإسلامي اهتماما بواجبات والتزامات الحكام والمحكومين محورها اخيتار الحاكم وتعيينه ومبايعته، والتزامات الحاكم تجاه المحكومين والتزامات المحكومين تجاه الحاكم وما ينجم عن ذلك من نطاق وحدود السلطة والطاعة.

دين المساواة
ربما يكون أعمق وأصح وصف للإسلام -الكلام بالطبع لبرنارد لويس- أنه دين المساواة، وقد كان العالم وقت ظهور الإسلام طبقيا يضج بالطبقية، فإيران المجوسية يحكمها نظام طبقي صارم ودقيق، والهند يحكمها نظام طبقي قاس ومغلق، والغرب تحكمه أنظمة الطبقات الأرستقراطية الموروثة من الإغريق والجرمان.

وقد تنكر الإسلام للطبقية نظريا وعمليا، وظلت الأرستقراطية الإسلامية في وضع محفوف بالمخاطر، وتبدلت الطبقات الحاكمة كثيرا، ولم يكن في الإسلام والدول الإسلامية ألقاب وراثية باستثناء الألقاب الملكية.

وقد أفرزت وقائع الحياة الاجتماعية تمايزا طبقيا، وثمة مصطلحات تدل على فئات اجتماعية مثل الخاصة والعامة، وكانت الخاصة تعني المتعلمين والمتحضرين والعناصر السياسية والإدارية والعسكرية.

وثمة تقسيم آخر كان يحدث في العصور الإسلامية الأولى، وهو الشريف والضعيف، ويماثل الشريف مصطلح النبيل، وصار لقب الشريف يطلق على ذرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأحيانا يشمل القرشيين.

ولكن هذه التقسيمات والتسميات لم تكن تعطي امتيازات أو حصانات كما في الأرستقراطيات الأوروبية.


تنكر الإسلام للطبقية نظريا وعمليا، وظلت الأرستقراطية الإسلامية في وضع محفوف بالمخاطر، وتبدلت الطبقات الحاكمة كثيرا، ولم يكن في الإسلام والدول الإسلامية ألقاب وراثية باستثناء الألقاب الملكية

الحرب والسلم
لم يرد في الإسلام وصف الحرب المقدسة، وقد أطلق المقدس على المكان "أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" وتؤكد كتب الفقه على القوانين المنظمة للحرب ومعاملة الأسرى والجواسيس والأقوام المهزومة.

ومن المصطلحات المستخدمة في هذا المجال الجهاد والغزو، وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللغات الأوروبية بدءا بالفرنسية التي اقتبستها من الجزائر ثم امتدت منها إلى الإنجليزية، وكانت الدولة العثمانية تمنح لقب غازي للقادة الأبطال، والفدائي الذي استخدم في العصور اللاحقة.

وبدأ اعتماد السفراء والقناصل بين الدولة الإسلامية وأوروبا في العصر المملوكي، وأخذ طابعا رسميا ومؤسسيا في القرن السادس عشر في الدولة العثمانية، وكانت الجاليات التجارية الأجنبية تتخذ قناصل هم زعماء لها ويرتبطون بالدول أو المدن التجارية الأوروبية على سواحل المتوسط، وكان العرب يستخدمون الكلمة نفسها "قنصل"، ومن مصطلحات لغة الإسلامي السياسي في هذا المجال: كافر، ومرتد، وثائر، وقاطع الطريق، والذمي، والمحارب، والمستأمن.

المصدر : غير معروف