العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية

كتاب العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية.

عرض/ الفضيل بن السعيد بلعروسي
"العربية المعاصرة هي فصحى العصر الذي نعيشه، فهي السجل المكتوب لثقافة العصر. وصلة العربية المعاصرة بالفصحى المثالية كصلة الابن بأبيه، يحمل الابن صفات وراثية وثقافية عن الأب ويختلف عنه في أنه يعيش في زمن غير زمن أبيه. واختلاف الزمن يحمل في طياته اختلافا في الرؤية والتفكير وفي أمور الثقافة جميعا".


-اسم الكتاب: العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية
–المؤلف: عباس السوسوة
-عدد الصفحات: 324
-الطبعة: الأولى 2002
الناشر: دار غريب، القاهرة

بهذا المفهوم للعربية المعاصرة يشرع مؤلف كتاب "العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية" في دراسة الظواهر الصرفية والنحوية في الفصحى المعاصرة، وخصص لذلك قسمي الكتاب الثاني والثالث.


وقدم د. عباس السوسوة لدراسته بقسم تمهيدي –هو القسم الأول- سعى فيه لتحديد مفهوم العربية الفصحى المعاصرة، موضحا أن السلوك اللغوي المثالي ربما يفوق نظيره الاجتماعي من حيث صعوبة تجسيده، فالفرد يتعلم كثيرا من جزئيات السلوك اللغوي المثالي ولا يكتسبها اكتسابا لاشعوريا، كما أن احتمالات الخروج عن هذا المستوى المثالي كبيرة خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن الجزئية اللغوية قد يعدها بعض العلماء فصيحة في حين أنها ليست كذلك عند آخرين.

ويدلل المؤلف على صعوبة تجسيد المثال اللغوي الفصيح في عصرنا بما يلي:

  • الجميع متفقون على أن القرآن الكريم خير تجسيد للفصحى ومع ذلك فإنهم في سلوكهم اللغوي لا يحتذون أسلوبه، إذ يعد ذلك محاكاة للنص القرآني على طريقة مسيلمة الكذاب وأمثاله.
  • رغم كثرة الدراسات العربية التي قامت خدمة للقرآن فإن علماء العربية قديما وحديثا غاب عنهم كثير من خصائصه اللغوية، ومن هنا خطؤوا ظواهر لغوية كثيرة وهي موجودة في القرآن، بل إن من النحويين من وصل إلى درجة تلحين بعض القراءات المتواترة.
  • حدد علماء العربية مصادر اللغة الفصحى في القرآن الكريم والشعر العربي حتى عام 150هـ، وكلام العرب الأقحاح من غير ساكني المدن حتى القرن الرابع الهجري تقريبا. ومع ذلك فإنهم لم يتفقوا على التوسع في القياس أو تضييق نطاقه، كما لم يتفقوا على رفض أو قبول ما جاءت به لهجة عربية ما مخالفا للغة المشهورة، ولهذا كان محور أكثر خلافاتهم هو "مقياس الصواب اللغوي".
  • تعرض شعراء العرب وفصحاؤهم لانتقادات من طرف علماء العربية القدماء الذين وجدوا في سلوكهم اللغوي مآخذ تخرج بهم في بعض المواطن عن الفصاحة. ومن ذلك مثلا تخطئة العلماء للنابغة الذبياني وأبي دؤاد الإيادي من العصر الجاهلي، والحجاج بن يوسف الثقفي والفرزدق من العصر الأموي، وابن المقفع والبحتري من العصر العباسي.

وفي عصرنا الحاضر يرى المثقفون غير المختصين في علوم العربية –حسب استفتاءات قام بها المؤلف- أن الفصحى تتجسد في القرآن الكريم فالحديث الشريف ثم في الشعر العربي منذ الجاهلية حتى أحمد شوقي (1932م)، ثم في النثر العربي بشتى أشكاله وموضوعاته حتى القرن العشرين بعد استبعاد عصر الحكم العثماني للبلاد العربية. كما يرون أن كتب النحو وصفت الفصحى من جميع جوانبها، وهذه رؤية يختلف معها علماء العربية القدماء والمحدثون.

غير أن المهم –في نظر المؤلف- أن المثال اللغوي بصورتيه المختلفتين غير متحقق عند أي كاتب معاصر، إذ تجد في كتابته الصواب والخطأ مقارنة بأي من الفصحيين القديمة أو المعاصرة. كما أن كل كاتب يعترف في قرارة نفسه أنه لا يستطيع الإتيان بالفصحى المثالية، وبالتالي فإنه لم يبق سوى السلوك الفعلي لدى مستخدمي هذه الفصحى المعاصرة.


المثال اللغوي بصورتيه المختلفتين القديمة والمعاصرة غير متحقق عند أي كاتب معاصر، إذ تجد في كتابته الصواب والخطأ مقارنة بأي من الفصحيين القديمة أو المعاصرة

معيار الصواب والخطأ
يطرح الكتاب سؤالا مهما عن معيار الصواب والخطأ في مستوى العربية الفصحى المعاصرة وهل كل ما خطأه علماء العربية يعد خطأ فيه؟ ويذكر في الجواب أن بين الفصحيين القديمة والمعاصرة قدرا مشتركا من الخطأ، إلا أن كثيرا مما خطأه القدماء لا يعد كذلك عند مستعملي الفصحى المعاصرة. كما أن هناك ظواهر لغوية جديدة لم يعرض لها القدماء أصلا لأنها لم تكن شائعة أيام عصر الاحتجاج باللغة.

وحول كون قرارات المجامع اللغوية تمثل معيار الصواب والخطأ فما أقرته يعد صوابا وما قالت بخطئه يعتبر خطأ، يقول د.السوسوة إن الأمر هنا نسبي لأن هذه المجامع لم يسمع بها الجميع كما أن قراراتها لم يطلع عليها إلا القليل نظرا للتأثير المحدود لهذه المجامع دون ذنب لها فيه. كما أن خبراء المجامع يقولون بصواب بعض الظواهر وهي خطأ في العربية المعاصرة لأن الكتّاب –في معظمهم- يتحاشون الوقوع فيها، والعكس أيضا صحيح.

ويرى المؤلف أن "الصواب في هذا المستوى الفصيح المعاصر هو السلوك الفعلي لمستخدميه قراءة أو كتابة أو خطابة، دون شعور بخطأ قاموا به ثم لا يتناهون عن شيء مما قرؤوه أو كتبوه. أما الخطأ فيه فهو ما يعده كثير منهم خطأ وإن أتاه بعضهم".

دراسة الفصحى المعاصرة وتاريخها
تتغير اللغة العربية كغيرها من اللغات بمرور الزمن وما يستجد من أحوال اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية، ولعل دلالة الألفاظ أكثر عرضة للتغير في لغتنا مقارنة ببقية أنظمة اللغة الصوتية والصرفية والنحوية. ففي الفصحى المعاصرة تغيرت معاني ألفاظ كثيرة عما سجلته المعاجم القديمة إما بتعميم دلالتها بعدما كانت خاصة أو العكس، وإما بنقل مجازي للدلالة بسبب المجاورة أو السببية أو اعتبار ما سيكون، أو غيرها من طرق النقل.

ويرى د. السوسوة أن علماءنا القدماء أدركوا هذا التغير في معاجمهم وكتبهم الأخرى من حيث تفرقتهم بين أصل المعنى الجديد الذي يسمونه لفظا إسلاميا أو مولدا أو اصطلاحيا. غير أنه جعل دراسته هذه معنية فقط بالتغير التركيبي الحادث في النظامين الصرفي والنحوي.

وفي هذا الجانب يذهب المؤلف إلى أنه رغم ما قام به علماء القرنين الثاني والثالث من دراسة للفصحى دراسة أقرب ما تكون إلى الدراسة الوصفية التي تحدد زمانا ومكانا ومستوى للمادة المدروسة، فإن المستوى الفصيح المستخدم فعلا عند الشعراء والأدباء والفلاسفة والمتكلمين والأطباء والأصوليين والمؤرخين وغيرهم لم يظل من الناحية التركيبية مطابقا لما جاء عند علماء العربية. ويعلل ذلك بأن الحاجة إلى التعبير عن حاجات ثقافية وعلمية واجتماعية متنوعة استدعت –بحكم المعاناة في الاستعمال- تراكيب صرفية ونحوية جديدة على منوال الحاجة إلى التغيير في دلالات الألفاظ الفصيحة القديمة للتعبير عن معنى جديد.

ثم يعرض المؤلف للحركة التصويبية –اعتبرها امتدادا لكتب "اللحن"- وما ظهر في إطارها من كتب وقفها أصحابها على بعض الظواهر الجزئية في العربية المعاصرة يبينون فيها خطأها ويحاولون ردها إلى الصواب حسب رأيهم، موضحا أن جل هؤلاء تجمعهم المعرفة الناقصة المتعلقة ببعض الاستعمالات اللغوية فلا يكادون يعثرون على استعمال معاصر للفصحى لا يجدون مثله في المعاجم القديمة وكتب النحو حتى يسارعوا بالتحريم، بل إن من وضع منهم معايير للصواب والخطأ خالف في كتاباته هذه المعايير ولم يلتزم بها.

وهناك اتجاه آخر لدراسة الظواهر التركيبية في العربية المعاصرة دراسة وصفية أو تقابلية مع لغة أوروبية حديثة. ويجمع بين أصحاب هذا الاتجاه أنهم إذا وجدوا شبها بين جملة أو تركيب ما في العربية المعاصرة وإحدى اللغتين الفرنسية أو الإنجليزية جزموا أن العربية اقتبست هذه الظاهرة التركيبية من إحداها أو من كلتيهما.

ولا ينفي المؤلف التأثير اللغوي الأوروبي على العربية المعاصرة، غير أن التشابه غير كاف للقول بالاقتباس ويشترط لذلك أن تكون الظاهرة المزعوم اقتباسها كثيرة الاستعمال في اللغة الأوروبية المعينة، وأن تخلو منها العربية المكتوبة قبل أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. ويلاحظ أن أصحاب هذا الاتجاه ينظرون فقط في الفصحى كما وصفها علماء العربية في عصر الاحتجاج وفي الفصحى المعاصرة، دون النظر في الفترة الزمنية الممتدة بينهما (أكثر من 12 قرنا).

وعن مجامع اللغة العربية يذكر د. السوسوة أن لها جهودا لا تنكر في دراسة الفصحى المعاصرة، إذ اعتمدت لجنة الأصول ولجنة الألفاظ والأساليب بمجمع القاهرة في دراستها لكثير من القضايا الجزئية المتعلقة بالتركيب على التقابل مع الفصحى كما تبدو في آثار علماء العربية، باحثة عن مسوغ قديم للظواهر التركيبية المعاصرة قد يكون رأيا لأحد النحاة أو استعمالا في لهجة عربية فصيحة أو قياس على حكم أو استعمال قديمين وغيرها، ولكن قلما كان المسوغ نصا قديما من عربية ما بعد عصر الاحتجاج.


يشترط للقول باقتباس اللغة العربية لظاهرة لغوية ما من اللغة الأوروبية أن تكون الظاهرة كثيرة الاستعمال في اللغة الأوروبية المعينة، وأن تخلو منها العربية المكتوبة قبل أواخر القرن التاسع عشر الميلادي

غير أن الدراسة التاريخية التي تتتبع الظواهر التركيبية في الفصحى المعاصرة عبر القرون فليست موجودة عند الفئات المذكورة أو عند الجامعيين، وهو ما يحاول هذا الكتاب القيام به.
ويدرس المؤلف ما اختلفت فيه فصحى عصر الاحتجاج والعربية المعاصرة اختلافا نوعيا من حيث بروز ظواهر جديدة، أو كميا من حيث شيوع الظاهرة في العربية المعاصرة وقلتها في الفصحى القديمة أو العكس.

ولتكون الدراسة شاملة للعربية المعاصرة المكتوبة اعتمدَت على صحف ومجلات معظم الدول العربية، إضافة إلى كتابات مؤلفين من شتى هذه الدول. كما حرصت –ما أمكن- أن تكون الشواهد التراثية على وجود الظاهرة شاملة للعربية في كل زمان، وأن يكون مستخدموها من تخصصات مختلفة.

وحتى لا يحسب كتابه على قائمة كتب التصويب اللغوي، يوضح المؤلف أن تأصيله لظاهرة ما في تراثنا العربي لا يعني أنه يجيزها أو يمنعها إذا لم يكن لها أصول، فهو يعتبر نفسه مؤرخا لغويا تهمه دراسة الظاهرة دراسة علمية موضوعية. كما يصرح بأنه لم يستوعب كل الظواهر اللغوية، وإنما بدأ عملا يحتاج استكماله إلى مجموعة من أولي العزم من اللغويين.

الظواهر الصرفية في الفصحى المعاصرة
في هذا القسم والقسم التالي يشرع المؤلف في الجانب التطبيقي من دراسته، فصنف ظواهر كل قسم تحت فصول مرتبة بحسب موضوعاتها. ومن ذلك:

– الاشتقاق والمشتقات: الاشتقاق في اللغة العربية أساس كلماتها وتوليد ألفاظها الجديدة، غير أن الصرفيين لاستئناسهم بالأفعال المشتقة مدة طويلة قرروا منع الاشتقاق من الجامد. ودراسة المحدثين لهذه الظاهرة أثبتت أن العرب اشتقت من الجامد بكل أقسامه. وسار الكتاب والمؤلفون عبر العصور على هذا النهج، ومن ذلك ما نقله الزمخشري أن "الحجاج نصب على البيت منجنيقين ووكل بهما جانقين فقال أحد الجانقين..". وقال أبو تمام:
جلَّيت والموتُ مبدٍ حر صفحته وقد تفرعن في أوصاله الأجل

وهذا الاشتقاق كثير في العربية المعاصرة من مثل: قبرصة (قبرص)، أمركة (أميركا)، أدلجة (أيدولوجية)، تأقلم (إقليم). كما يكثر اشتقاق الأفعال التالية: تمحور وتموضع وتموسم ومذهبَ ومنهجَ وتمركز، على شاكلة ما عرفته عربية عصر الاحتجاج وما بعده من أمثال: تمذهب وتمدرع وتمنطق وتمندل وتمسكن.
وعن تعدد صيغ الفعل في زمن واحد يعترض المؤلف على من يخطئون استعمال الفعل ساهم بمعنى شارك بحجة خلو المعجم القديم منه، ويورد بيتا منسوبا لأبي الأسود الدؤلي (69هـ) يقول فيه:
أبا ثابت ساهمت في الحزم أهله فرأيك محمود وعهدك دائم

وجاء في شعر ابن حجاج (384هـ):
أخلاي بالري الذين عهدتهم يوفونني حق الصديق المساهم

ثم يقدم نصوصا نثرية وشعرية تستخدم ساهم وتساهم ومساهمة بمعنى المشاركة، وهو ما أقره مجمع اللغة العربية في القاهرة.

– التركيب وصوره: ويعرض فيه للتركيب (لا+اسم بعدها) مثل: لامتناهية ولامعقول ولاسلكي ولاإنساني المستخدمة في عصرنا، ويذكر أن سيبويه أجازها ومثل لها بقوله: أخذته بلاذنب وغضبت من لاشيء.

ومن أقدم شواهد الشعر على هذه الظاهرة قول الشماخ (22هـ):
إذا ما أدلجت وصفت يداها لها الإدلاج ليلة لاهجوع

كما يعرض صورا جديدة من التركيب في الكلمات تستخدمها العربية المعاصرة:

  • اسم معرف + اسم معرف: حوار الجنوب الجنوب.
  • اسم علم بشري + اسم علم بشري: مباحثات الحسين مبارك، اتفاقية سايكس بيكو.
  • علم مكاني + علم مكاني أو أكثر: معركة أرنون-الشقيف، خط القاهرة-لندن-نيويورك.
  • نكرة مكانية + نكرة مكانية: صاروخ أرض أرض أو أرض جو.
  • ظرف مكان + اسم معرف: الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية.

– الجمع: ويتناول فيه جمعي التكسير والمؤنث السالم. ففي الأول يذكر أن التمييز بين جموع القلة والكثرة لم يعد قاعدة أصلية في العربية المعاصرة بخلاف فصحى التراث التي كانت تجعل من هذا التمييز أساسا في النقد الأدبي. كما سقط من الاستعمال الحديث كثير من أوزان الجموع مثل: أحمرة وحُمُر وبقي حمير، واختفى أبطن وأغربة وأكلب وأكالب وبقي بطون وغربان وكلاب.

وعن جمع المؤنث السالم يذكر د. السوسوة أنه بدأ منذ القرن الثالث الهجري يزاحم جموع التكسير في النصوص النثرية خاصة عند الكتاب المائلين إلى التفلسف، غير أن معظم ألفاظ هذا الجمع المنتشرة آنذاك لا نجد لها أثرا في العربية المعاصرة. ويوجد حاليا جمعان لكلمة واحدة أحدهما بالألف والتاء والآخر جمع تكسير مثل: إطارات وأطر، ونشاطات وأنشطة، وتمرينات وتمارين، ومشروعات ومشاريع، وهذا كان قليلا في النصوص القديمة.

ثم يتطرق إلى شيوع جمع المصدر بالألف والتاء في العربية المعاصرة من أمثال: طموحات وتشريعات وإخفاقات وصراعات واحتجاجات وانشقاقات وغيرها، ويتحفظ على الرأي القائل بأن هذه الجموع تولدت عن طريق الترجمة مستندا في ذلك إلى ورود أمثال هذه الجموع في التراث العربي بعد عصر الاحتجاج مثل: تصورات وقياسات وتصدعات وتأثيرات وتخطيطات واعتقادات واحتمالات وإطلاقات ومطالبات وتخيلات وغيرها.

وفي السياق نفسه يذكر المؤلف أن العشرينيات والعشرينات ومثيلاتها وردت في التراث العربي، غير أن مجمع اللغة بالقاهرة لم يقر سوى الجمع الملحقة به ياء النسب. ويضيف أن العرب المعاصرين لما نقلوا ألفاظا أوروبية تنتهي بالواو جمعوها بإضافة اللاحقة "هات" فقالوا: فيديوهات وإستوديوهات وسيناريوهات.

وتناولت باقي فصول هذا القسم قضايا: النحت، والتركيب الأوائلي، والنسب، والمصدر الصناعي، وتعريف الألفاظ المبهمة.

الظواهر النحوية في الفصحى المعاصرة
يضم هذا القسم عدة فصول منها:
– الموقعية: الأصل أن يأتي المفعول لأجله متأخرا عن الفعل والفاعل وبعض مكونات الجملة، غير أن العربية المعاصرة شهدت استخدام المفعول لأجله متصدرا الجملة وخاصة في لغة الصحافة من مثل: تلبية لدعوة سابقة يقوم الرئيس الفرنسي بزيارة مصر. ولم يعثر المؤلف على مثل هذا التصدر في التراث العربي، ويرى أنه نتيجة التأثر بالأساليب الأجنبية المترجمة كما في اللغة الإنجليزية.


يدرس الكتاب ما اختلفت فيه فصحى عصر الاحتجاج والعربية المعاصرة اختلافا نوعيا من حيث بروز ظواهر جديدة، أو كميا من حيث شيوع الظاهرة في العربية المعاصرة وقلتها في الفصحى القديمة أو العكس

وعن تقدم لفظ التوكيد على المؤكد وإضافته إليه فقد نقل عن سيبويه جواز ذلك في مثل قولك: نزلت نفس الجبل ونفس الجبل مقابلي. ثم نقل نصوصا من عصور مختلفة تظهر استخدام الكتاب لهذه الظاهرة، مشيرا إلى أنها أصبحت شائعة في العصر الحديث.

وعن تصدير الجملة بظرف أو مجرور –وأصلهما التأخير إلا لأغراض بلاغية- في العربية المعاصرة بأشكال مختلفة من مثل: من ناحيتها أشادت صحيفة الرأي العام.. وعن موقف بلاده من عملية السلام أشاد..، يذكر المؤلف أن عود الضمير على متأخر لفظا متقدم رتبة مسألة قديمة لم يبتدعها المحدثون، ويورد طائفة من الأمثال العربية القديمة تسير على هذه الطريقة التركيبية: ببطنه يعدو الذكر، في بيته يؤتى الحكم، من مأمنه يؤتى الحذِر.

– المصاحبة: ويتناول فيه مسائل عدة أهمها مصاحبات الواو للأدوات ولبعض مكونات الجملة. ومنها أنها تأتي سابقة لشبه جملة مثل: كل ما سبق يدل وبوضوح على غياب التخطيط العلمي.. إن ما يؤدي إلى وفاة الأطفال وبسرعة هو حالة الجفاف. ثم يذكر أنها وردت في التراث العربي كما عند الصولي (ت 335هـ): ".. فكلٌّ حكى ذلك وبلا فضيلة إلا البحتري فإنه أغرب في الأبيات"، وعند الفيلسوف مسكويه (ت 421هـ) "فقلت له على مضض غالب وبصوت خافت..".

ومن ذلك ورود الواو قبل اسم الموصول في مثل "ظاهرة الإنارة المستمرة في بعض شوارع العاصمة والتي لا تعرف الإطفاء إلا في حالة تعطل التيار تؤكد لنا.."، و"هذا لا يعود إلى الألفاظ بقدر ما يعود إلى الواقع الاجتماعي والثقافي للجماعة والذي قد لا يفصل بين الاسم والشخص". وهذه أيضا لها أصول في التراث فالجاحظ يقول: "ومن الكلام المتروك والذي زالت أسماؤه مع زوال معانيه: المرباع والنشيطة"، ويقول ابن جني "وقول أبي عثمان (الأسماء) يعني الأسماء المتمكنة والتي يمكن تصريفها".

وعن مجيء الواو بعد "بل" في مثل "نجد المشكلة قائمة بل وتشكل هدرا للإمكانيات"، لا يسلم المؤلف بكونها ترجمة لإحدى أدوات العطف في اللغة الإنجليزية ولا أنها أسلوب محدث كما قال المعجم الوسيط، وينبه إلى أن هذه الأداة الجديدة تحمل معنى مركبا هو الإضافة والاستدراك. ثم يورد نصوصا يستشهد بها لاستخدامها القديم من مثل قول أبي نواس:
ما حجتي فيما أتيت، وما قولي لربي، بل وما عذري
وقول الرازي ".. فإن كان كذلك فالثيران والحمير أفضل من الناس لا بل والحيوان غير المائت كله"، وقول ابن سينا "ليس المقابل بالنقيض فقط بل وبالضد".

بعد ذلك يتحدث د.السوسوة عن مصاحبة حروف الجر للأفعال والمصادر خلافا للمشهور من قواعد الفصحى، ويرى أنها ليست من باب التضمين وإنما بسبب تغير أصاب الفصحى في تاريخها الطويل. ثم يأتي بأمثلة على هذه المصاحبة من مثل: أثر عليه بدلا من أثر فيه، وأكد على الأمر بدلا من أكده، ودخول باء الاستبدال على غير المتروك بدلا من دخولها على المتروك، وضحك عليه بدلا من ضحك منه، وأدمن على الشيء بدلا من أدمنه. ويورد لكل مثال نصوصا شعرية أو نثرية على مر العصور يستشهد بها على استخدامه بالشكل الشائع حاليا في العربية المعاصرة.

وفي باقي فصول هذا القسم من الكتاب تناول المؤلف قضايا: الإعراب، والمطابقة، والتكرار في مكونات الجملة، والربط، والفصل بين المتضامين.

خاتمة
في نهاية هذا العرض فإن قارئ الكتاب يخرج بتساؤلات حول مسائل هامة بحاجة إلى دراسة عميقة يقوم بها علماء اللغة وخاصة لجان المجامع اللغوية. ومن هذه المسائل:

  • مفهوم الفصحى المعاصرة نفسه وهل يصح إطلاق لفظ الفصاحة على العربية المعاصرة؟ وما يستتبع ذلك من نظرة جديدة لمصطلح الفصاحة.
  • معيار الخطأ والصواب في اللغة العربية، فالكتاب يطرح أن الصواب سلوك أهل اللغة الفعلي دون شعور بخطأ قاموا به، وهذا –ربما- قد يفتح المجال واسعا أمام القول المشهور "خطأ شائع خير من صواب مهجور" إذا لم توضع ضوابط محددة.
  • استكمال التأصيل التاريخي لظواهر العربية المعاصرة تمهيدا للحكم عليها بالصواب أو الخطأ بحسب المعيار الذي يتم الاتفاق عليه. وهذا عمل لا شك في صعوبته، لكنه أيضا لا شك في أهميته بل وفي ضرورته الملحة خدمة للغة العربية حتى لا يصيبها ما أصاب لغات كثيرة من الاندثار والذوبان.
المصدر : غير معروف