جروح الذاكرة (رواية)

خدمة كامبردج بوك ريفيوز
يرسم تركي الحمد الكاتب السعودي المعروف صورة بانورامية وتشريحية لانتقال المجتمع السعودي من حقبة ما قبل النفط إلى ما بعده من خلال هذه الرواية التي لا تنقصها الجرأة وتستحق التوقف عندها, والتي هي أقرب إلى التأريخ الاجتماعي منها إلى فن الرواية المعروف. وأهمية هذه الرواية التأريخية تتجاوز في الواقع رصد المجتمع السعودي بتحولاته الاجتماعية والثقافية الحادة في نطاق زمني ضيق وبتسارع غير متوقع, بل لاهث. إذ تنطبق في خطوطها العامة على ما حدث ويحدث في كل المجتمعات الخليجية التي جبهتها "صدمة النفط" فنقلتها بعنف من مرحلة إلى أخرى محدثة شروخاً و "نقمة" لا تخطئها العين الناقدة, فضلاً عن "النعمة" التي جلبها النفط وهي أيضاً أبرز من أن يشار إليها.

undefined

اسم الكتاب: جروح الذاكرة (رواية).
المؤلف: تركي الحمد.
عدد الصفحات:
الطبعة: الأولى – 2001م
الناشر: دار الساقي- لندن- بريطانيا.

تركي الحمد يتابع عائلة الزوجين صالح ولطيفة الأسرة التقليدية المحافظة التي تعيش ببساطة في إحدى قرى الرياض مع أولادهم مشاعل وبدرية وخالد وطارق وهيفاء. ورغم أنه لا شيء مميز في هذه العائلة, فإن "عدم التميز" هذا هو الذي يجعلها "باروميتر" دقيق لقياس عمق التحولات المجتمعية الحادثة في المجتمع السعودي, فهي عائلة عادية مفتوحة على كل المستقبل الغامض والقريب الذي يصل بسرعة حاملاً معه الصدمة تلو الأخرى بوتائر زمنية لم يعهدها الناس. فالثروة النفطية التي غيرت الرياض وما حولها, وحسنت من أحوال الناس ونقلتهم من الفقر وعوز الصحراء إلى بحبوحة العيش رافقتها تحولات اجتماعية وتحديات جديدة للأنماط المتعارف عليها عبر عقود بل قرون خالية.

فصالح اليوم, الزوج والأب, الذي تحسنت أحواله صار غير صالح الأمس إذ غدا أكثر اطلاعاً على أحوال التمدن وما تجره من مغريات، أصبح قادراً على الاستمتاع بها, ناسياً زوجته المكافحة لطيفة وآلامها المتراكمة يوماً إثر يوم. وهو إذ يمثل شريحة واسعة جداً من الرجال الخليجيين, وجد أن بإمكانه السفر والتمتع بمباهج الحياة دون ضوابط, بينما لطيفة, زوجته, قابعة وراءه تأكلها الوساوس. فهي كسائر بنات جيلها لا تستطيع التنعم بما جاء به التمدن السريع كما فعل ويفعل الرجال. وهي إذ ترقب تغيرات زوجها يوماً إثر يوم تزداد حزناً وغماً وتنتقل من أزمة نفسية أو صحية إلى أخرى لتصل في نهاية المطاف إلى بيروت حيث يتفق زوجها مع أولاده أنه لا سبيل إلى شفائها من تراكم الأمراض النفسية غير إرسالها إلى مستشفى للطب النفسي هناك.

بقية أفراد العائلة يخوضون غمار التحولات كل بطريقته, فخالد الابن يتدين ويتعصب في تدينه الذي ينتهي به إلى أفغانستان ليقاتل مع "المجاهدين" هناك. ومشاعل الابنة طموحة ومقدامة ومحبة للعلم, بينما شقيقتها بدرية لا تهتم إلا بالزينة ومتابعة الموضة وتؤمن بالأحجبة والسحر.

وبهذا التنوع في المسارات التي اتخذها الأبناء ينقل لنا الحمد مواجهات الجيل الجديد مع تلك التحولات إيجابيها وسلبيها, واحدة إثر واحدة, لكن متغافلاً عن الوضع السعودي السياسي الداخلي حيث لا نرى هذه العائلة تناقش أو تتعرض أو تنتقد أو تؤيد سياسة العائلة المالكة. وإذا كان من المفهوم أن "حساسية" التعرض للوضع السياسي الداخلي ولو على شكل حوار تقوده شخصيات خيالية في رواية هو أمر يتجاوز الخطوط الحمراء, فإن ذلك لا يعني أن غياب هذا البعد لم يضعف الرواية المهمومة برصد تحولات سوسيولوجية وثقافية لا يمكن أن تنفك عن المناخ السياسي العام.

مع مرور السنوات صالح يتغير ولطيفة تتغير أيضاً. صالح يؤوب إلى الله تائباً من فترة الإنجرار إلى الملذات بما فيها من نساء وشراب وسفر وغير ذلك, ثم لا يلبث أن يوافيه الأجل بعد توبته تلك. أما لطيفة فتقهر المرض وتستقيم حياتها من جديد بل وتنطلق إلى الأمام بعد أن علمت نفسها القراءة والكتابة ولم تعد أمية, وأحبت بيروت والعيش فيها فأقامت هناك حتى بعد استشفائها.

موت صالح عقب توبته بعد مروره بفترة صبا متأخر وتمتع فجائي بحلال الدنيا وحرامها هو الحل الأبسط الذي اختاره الحمد لفك الأزمات المركبة التي واجهها جيل عريض في الخليج العربي والسعودية حينما وجد نفسه يعيش المرحلة الانتقالية بين ما قبل الثروة وما بعدها, بكل ما في هذه المرحلة من حلاوة ومرارة وصدمات وإشكالات على صعد الاجتماع والثقافة والقيم.

أما صمود لطيفة ونجاحها في قهر المرض فهو الحل الأعقد, والأكثر معقولية وواقعية أيضاً, الذي يراه الحمد لنفس ذلك الجيل. ومثابرة لطيفة الشديدة على التعلم والتثقف هي الرسالة المباشرة, إلى درجة الوعظية التي تخرج عن البناء الروائي في بعض الأحيان, التي تلح على مثقف كالحمد ليصر عليها ويوصلها إلى أبناء مجتمعه: إنه العلم والتعليم والثقافة ذاك الذي يخلصنا من التخلف وينقلنا مباشرة إلى وعي المستقبل واغتنام فرصه ومواجهة تحدياته.


بدل أن يترك المؤلف شخصياته تنمو بشكل طبيعي وتعبر عن ذاتها ومواقفها وتبني درامية العمل الروائي بشكل عفوي, نجده يتدخل في منطقها ويجبرها على أن تتبنى رؤاه هو وينقل لنا تلك الرؤى على ألسنة الشخوص التي نحتها في الرواية

على أن هذه الرسالة, رسالة العلم والعالم الحديث التي تتلبس مثقفاً كالحمد مهموماً بالوجهة التي يسير إليها مجتمعه, تأتي على الروائي فيه لتظل تقدم لنا الحمد المثقف وليس الحمد الروائي. فعوض أن يترك شخصياته تنمو بشكل طبيعي وتعبر عن ذاتها ومواقفها وتبني درامية العمل الروائي بشكل عفوي, نجده, أي الحمد, يتدخل في منطقها ويجبرها على أن تتبنى رؤاه هو وتنقل لنا تلك الرؤى على ألسنة الشخوص التي نحتها في الرواية.

فلطيفة التي فكت أميتها على كبر تفاجئنا بأنها صارت تقرأ لعلماء وفلاسفة كبار مثل فرويد ويونغ وتستمتع بالآداب الإغريقية فتتعرف على عشتار وأدونيس وغيرهم. بل إنها عندما تزور نهر السين في باريس تنتقد وله الشعراء الفرنسيين به نظراً لوساخته وغياب الجمال الذي قرأت عنه في أشعارهم, بما يوحي لنا بأنها إما قرأت أشعارهم أو على أقل تقدير ترجمات لها.

شخصيات الرواية توظف جيمعها لتنقل لنا غضبة المثقف إزاء ظواهر اجتماعية فاسدة ما زالت تحتل مساحات واسعة من حياة الناس الذين انتقلوا مع الثروة من قريتهم الوادعة إلى المدينة الصاخبة التي لا تني تستقبل كل جديد. وأسوأ ما يحمل عليه الحمد, على لسان أبطال روايته, هو مظاهر النفاق الاجتماعي والانسياق وراء التسابق في ثقافة الاستهلاك على حساب الجوهر.

فهنا نتابع تفاصيل تحولات اجتماعية ونفسية وسلوكية جديدة طرأت فجأة على مجتمع بدوي بسيط: سيارات وتطبب في عيادات أميركية وأوروبية, تجعل لطيفة تحن إلى "الفولكس واغن" التي غابت إثر سيطرة المرسيدس السوداء الخاصة بصالح, والجاغوار الخاصة بالمشاوير الخاصة بلطيفة نفسها, والجيب الخاص برحلات البر, و"الموتر هوم" الخاص بـ "الكشتات" الطويلة, و"السوبرفان" الخاص بالعائلة, و"الستايشن واغن" الخاصة بالسائق لاغراض المنزل وهكذا.

إلى ذلك كله نرى صالح يذهب إلى "كليفلاند" ومستشفاها الشهير, تقليدا لأثرياء الطفرة الجدد, الذين أصبحت رحلات الفحص الطبي في بريطانيا وأميركا وألمانيا جزءا من الإعلان عن الثراء قبل أن يكون لحاجة حقيقية, وذلك كما ينتقد الحمد على لسان بطلته لطيفة.
أما لطيفة نفسها فإننا لا نزال نلمح فيها براءة القرية وجمال روحها فإنه "رغم تغير مظهرها الخارجي الذي أصبح يحاكي مظهر أرقى "ليدي" إنجليزية… كانت من الخارج قد تحولت إلى شيء أشبه بكونتيسة إيطالية, أو ليدي ولدت لعائلة أرستقراطية إنجليزية, وتعلمت في أرقى معاهد باريس, ولكن داخلها بقي عامرا بكل ما هو فطري وبسيط."

لكن مظاهر الحياة الاستهلاكية الجديدة تنضاف إلى سلبيات القرية التي تحاصر إيجابياتها وتكاد تخفيها, وهي القرية التي ما تزال تعشش في حياة شخوص "جروح الذاكرة, ولا تريد أن تعتقهم: فكما يهمهم الحمد على لسان لطيفة: "نعم.. لم نعد نعيش في القرية, بل لم تعد القرية كلها موجودة, ولكن القرية لا تريد أن تتركنا, وأسوأ ما في القرية لا يزال يعيش في أعماقنا, ويحكم تصرفاتنا, رغم كل ما تغير ويتغير."

ربما قد يأخذ المرء على الحمد سوداوية طافحة في تصويراته لجوانب المجتمع العديدة, إذ يتركنا نلهث كثيراً لالتقاط بعض الصور التي توازن سلبيات مرحلة الانتقال المليئة بالتوتر والحيرة. ولعل الأكثر مدعاة للتساؤل في ختام الرواية هو ترك مرحلة "ما بعد حقبة الانتقال" مفتوحة على المجهول.

فإلى أين تتجه المجتمعات الخليجية حقاً؟ وهل هناك نهاية لحقبة الانتقال أم أن ليس ثمة "تحقيب" زمني صارم لمراحل التحولات البشرية الكبرى؟ ذاك أن الحياة برمتها ليست سوى سلسلة لا متناهية من مراحل "الانتقال" التي لا تنتهي. على ذلك تبدو إدانة الحمد لمظاهر مرحلة الانتقال, وترك الانطباع بأن ثمة محطة ستنتهي هذه المرحلة عند الوصول إليها هي إدانة متشددة ومتسرعة.

المصدر : غير معروف