الدولة المستباحة

عرض/ إبراهيم غرايبة
هل انتهت الدولة السيدة بعدما بلغت كمالها؟ هذا ما يحاول المؤلف الإجابة عليه، من خلال توصيف الدولة كظاهرة حية في التاريخ الحديث، ثم بما هي حادث أخضع لتيار التحولات التي عصفت بالعالم بعد نهاية الحرب الباردة عام 1991، ثم زلزال 11 سبتمبر/أيلول 2001 وهي ظاهرة تتشكل ويصفها المؤلف بأنها نهاية التاريخ وبداية الجغرافيا.

سؤال الدولة


undefined-اسم الكتاب: الدولة المستباحة
–المؤلف: محمود حيدر
-عدد الصفحات: 432
-الطبعة: الأولى 2004
الناشر: دار رياض الريس للكتب والنشر, بيروت

نشأت الحاجة إلى الدولة من رغبة الإنسان في التعرف على نفسه كجماعة متحدة، وإلى كونه بوتقة قومية تظهر لملء سياقها، ونظام عيشها، مثلما يتبين الحد الذي تقيمه لنفسها ثم تقيمه في وجه الغير متى راودت هذا الغير غريزة التعدي على سيادتها.

فالدولة مثل الإنسان جاءت بصمت إلى هذا العالم، ثم تكلمت حين استحالت فكرة، تحملها الجماعة البشرية إلى مجالها وتحيزها وأرضها السياسية، فهي سابقة على الفكرة، فالدولة تركيب شائك بين العنصر التجريدي والعنصر العيني، بين الخيالي والواقعي، وبين الشبحي والجبروتي.

وتشبه الدولة الأيدولوجيا من حيث هي ظاهرة حالة في الزمن، فالأيدولوجيا هي الخريطة الفكرية للكون، أي أنها الكيفية التي نرى بها العالم السياسي من خلالها.

وحين تذوي الظاهرة الأيدولوجية في مكان ما وزمان ما، فلا يعني أنها هي التي ذوت واندثرت، وإنما شرطها الخاص الذي حلت فيه، وقد تموت الأيدولوجيا في ظاهرة سياسية اجتماعية ما حين تموت هذه الأخيرة، سواء تعلق الأمر بدولة أو بجماعة أو بطبقة اجتماعية سياسية.

الدولة هنا ظاهرة أيدولوجية تنفجر حين تكتمل، تموت ويبقى جوهرها الذي حفزها على الانبثاق، وبهذا يكون فناء الظاهرة في صورتها لا في جوهرها القابل للالتباس في كل صورة، ذلك أن الظاهرة الأيدولوجية -وهي هنا الدولة- ستظهر في خطاب جديد ولون جديد.


أثبتت الأحداث على امتداد أرض البلقان إلى أفغانستان إلى العراق أن العالم سينعطف إلى ما لا يمكن وصفه بأنه أمر عادي، وبدا كما لو أن الإمبريالية القديمة تعود من طريق الغزو والاحتلال المباشر

هل انتهت الدولة؟
فتحت السنوات الماضية في تحولاتها الكبرى سؤالا عن النهايات، نهاية التاريخ، نهاية الوظيفة، نهاية الدولة، والكلام على النهايات يملأ العالم، وسيكون جائزا على نحو يستدعي القلق ما دامت نهايات العصور غالبا ما تثير شعورا بالرهبة.

لقد ظهر بوضوح أن مقولة الدولة/الأمة التي برزت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية أصيبت بالتراجع والضمور مع صعود رأس المال اللامتناهي بعد نهاية الحرب الباردة، فقد ساهم ازدهار التدفقات العابرة للأوطان في عرقلة النموذج الذي أطلقته تلك المقولة على امتداد تجربتها الطويلة نسبيا، إذ يتزايد عبور موارد السلطة من مكان إلى آخر متجاهلا الحدود، ساخرا من سيادات الدول، بل ملتفا حول هذه الدولة مطوقا إياها بأغلال لم تعهدها من قبل، وسواء كانت هذه التدفقات ثقافية أو اقتصادية أو دينية أو سكانية أو إعلامية، فالإشكالية في الأساس واحدة لا تتغير، إنها محملة أكثر فأكثر بموارد سلطة تتهرب بحكم طبيعتها من سيادة الدولة.

ولكن أيا كانت الأسئلة والأفكار الجديدة فقد تبين أن الجغرافيا والتنازع فيها وعليها وحولها هي الحقيقة المؤسسة للتاريخ الجديد، فقد ظهر من أرض البلقان إلى أفغانستان إلى العراق أن العالم سينعطف إلى ما لا يمكن وصفه بأنه أمر عادي، وبدا كما لو أن الإمبريالية القديمة تعود من طريق الغزو والاحتلال المباشر لتمسك بزمام عالم القرن الواحد والعشرين.

لقد ظهر العالم وكأنه يستعيد البدايات الأولى لحروب الجغرافيا السياسية، والإستراتيجيون الدوليون الذين أخذتهم الحيرة مما هو حادث قالوا إن شيئا واحدا نحن على يقين منه هو أن جبال أفغانستان وأرض العراق الممتدة في حراك التاريخ أعادت الاعتبار إلى مقولة الأرض العارية.

عودة الجغرافيا
كل الذين أخذوا بأطروحة النهايات استيقظوا على بدايات جديدة، ولم يكن هؤلاء يتوقعون أن تتخذ سرعة الزمن درجتها القصوى على هذا النحو، فقد أطلقت نهاية الحرب الباردة كل الصراعات الكامنة من عقالها، وهي صراعات كانت أسكنتها تلك الحرب بتوازناتها الدقيقة ورعبها النووي في قلاع محكمة.

لم يغب مفهوم الأرض السياسية عن كونه علما يقاس عليه منطق النزاعات والحروب، حتى وهو في طور الاحتجاب، ذلك أن النظام العالمي الجديد لم يصبح جديدا إلا لأنه جاء ليعبر عن عالم لاحق على عالم الحرب الباردة المنقضي، سوى أنه في حقيقته لا يتعدى كونه عالما لا ينفك نظامه جنينا في طور التكوين، أي أن التشكل العالمي الراهن هو خليط من ماض لم ينجز ومقبل لم ير بعد خط سيره بوضوح، فهو عالم لم يغادر منطق الصراعات التقليدية بين الدول والشعوب.

لقد بدا في السنوات القليلة الأخيرة أن العالم كله متجه إلى أحكام الجغرافيا السياسية "الجيوبوليتيك" أو سياسة المكان، حين يصبح المكان مجالا لنزع السيادة وتثبيتها، ومجالا لما يجري من صراعات اليوم على الحدود والمياه والثروات الطبيعية، وكذلك على الهوية والاعتراف والسيادة والاستقلال.


إذا كانت الدولة المستباحة هي المظهر الأكثر جلاء للدولة/الأمة، فإن الولايات المتحدة هي دولة مستبيحة بامتياز، ومن هنا ينشأ المعنى الأميركي للعالم حيث لا ترى إلا سيادتها على الغير

وذوت بسرعة الدهشة التي أخذنا بها في التسعينات عندما رأينا دولا تتهاوى ونهايات تبزغ، واستيقظنا بعد سنوات قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي والشيوعية لنجد أن العالم يدور في المنطقة الوسطى بين الانتهاء والابتداء.

وإذا كانت الدولة المستباحة هي المظهر الأكثر جلاء للدولة/الأمة، فإن الولايات المتحدة هي دولة مستبيحة بامتياز، ومن هنا ينشأ المعنى الأميركي للعالم، إذ حين يرى العالم بعيون أميركية لا تبدو سيادة الغير على نفسه إلا خروجا على سيادة الولايات المتحدة على نفسها.

وسوف تكون المعادلة: إن سيادة دولة ما على شعبها في نطاق جيوسياسي ما سيترتب عليها في حال من الأحوال مفارقة عن مصالح الولايات المتحدة لم يبتدئ بعد نهاية الحرب الباردة، ولا بعد زلزال 11 سبتمبر/أيلول، وإنما مع غيث من الشعور الأميركي بأن العالم آيل إلى الانضواء تحت ظلال الدولة المخلصة العظمى.

الأمم المتحدة بين زمنين
تعيش الأمم المتحدة زمنا انتقاليا مثيرا للإشكاليات، فهي تعيش عصر التحولات الكبرى بين عالمين متناقضين: عالم الحرب الباردة، وعالم ما بعد سقوط نظام القطبية، أو ما يطلق عليه عصر ما بعد الحرب الباردة.

إلى أي مدى استطاعت الأمم المتحدة أن تكون حاجة للنظام العالمي بعد الحرب الباردة، وأن تنأى عن تأثير استقطاب القوة بعدما قيض للولايات المتحدة الانفراد بزعامة العالم؟

لقد أثبتت الأحداث الإقليمية بعد الحرب الباردة مجموعة من الحقائق تتصل بالأمم المتحدة كضرورة عالمية، وهي: تخلع منظومة القيم القانونية والأخلاقية للمنظمة الدولية، ما وفر للولايات المتحدة أن تتعامل مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن كممر إجباري لتحقيق الإجماع الدولي حول إستراتيجيتها الأمنية ومقتضيات نفوذها السياسي والاقتصادي.

الحاجة إلى الأمم المتحدة تزداد إلحاحا بازدياد المعضلات الكونية التي لا يمكن لدولة واحدة مهما عظم شأنها أن تتولاها وتحفظ ضوابطها، كالمسائل المتعلقة بمراقبة الفضاء الخارجي، وبيئة الأرض، والتصحر، ومشكلات العالم الفقير من جهل وفقر ومرض.

تزداد أهمية الأمم المتحدة وضوحا وفاعلية لدرجة لا تستطيع الدول العظمى الاستغناء عنها ولا التنكر لآلياتها حتى عندما تسعى إلى استخدامها غطاء دوليا لسياستها الخارجية، وتعتبرها الدول الصغرى ملاذا لإنقاذها رغم محدودية طاقتها المالية والأمنية والإنمائية.

إن أي اقتراح دولي لنظام عالمي أكثر عدالة وشرعية وفاعلية من أجل المستقبل الضامن لا يستطيع إلا أن يمر عبر المنظمة الدولية ومؤسساتها المختلفة ومبادئها الضامنة.

أممية مستباحة: الحرب على العراق مثالا
كشفت الوقائع التي سبقت الحرب الأنغلوأميركية على العراق عن خرافة الالتزام بالقانون الدولي، ولم تفلح الدول الرئيسية الثلاث الأخرى في مجلس الأمن، وهي فرنسا وروسيا والصين التي عارضت الحرب في وضع حق الفيتو الذي تتمتع به موضع التطبيق.

وهو ما يعد إسقاطا متعمدا لواحدة من أهم وأخطر القواعد التي يقوم عليها التوازن الذي يحكم العلاقات بين الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن. وأصيب القانون الدولي بضرر بالغ، وبخاصة لجهة المبدأ الأصلي الذي قامت عليه منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو تفادي الحروب التي جلبت للإنسانية الدمار حسب مقدمة ميثاق الأمم المتحدة.

ولئن كانت الحرب الباردة قد نظمت العالم ضمن حقول التوازن النسبي سحابة نصف قرن، فإن نهايتها المدوية في تسعينات القرن العشرين أطلقت زمنا أمنيا وسياسيا معاكسا، فعلى امتداد عقد من انفراط الثنائية القطبية وتمركز الإدارة الدولية في يد الولايات المتحدة سنشهد ما يمكن وصفه بالصيرورة التدريجية لتفكيك النظام الإجمالي للأمم المتحدة.

هل بالإمكان أن تبقى الأمم المتحدة ومنظماتهما المختلفة إطارا لحل النزاعات وإيجاد التسويات على المستويين الدولي والإقليمي؟ وهل بالإمكان إنجاح مهمات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة أم أن فشلها أمر محتوم؟ وهل القواعد الدولية فعالة أم أن القوة العسكرية هي الطريقة الوحيدة للرد على الانفلات الحاصل في الأمن الإقليمي؟

على المستوى العالمي وتحديدا في أوروبا كانت الإجابات حائرة ومرتبكة، وهذا عائد إلى سرعة التحولات الأمنية والاقتصادية والسياسية في العالم، وإلى جريانها خارج إرادة المجتمع الدولي وقوانينه، ما جعل الأمم المتحدة ومؤسساتها مجرد محافل دبلوماسية تتعاطى مع خواتيم الأحداث ونتائجها من دون أن تفعل بها أو تقرر اتجاهاتها.

لقد آل الوضع الدولي بعد الحرب الباردة إلى حقل تجارب للسياسات الأميركية، ولم تكن منظمة الأمم المتحدة وفي مقدمتها مجلس الأمن خارج المنطق التجريبي. ويبدو التعاطي الأميركي مع المنظمة الدولية ومبادئها وقوانينها ومؤسساتها قائما على ما يشبه الانفصال والاتصال.


آل الوضع الدولي بعد الحرب الباردة إلى حقل تجارب للسياسات الأميركية، ولم تكن الأمم المتحدة خارج المنطق التجريبي، ويبدو التعاطي الأميركي مع المنظمة الدولية قائما على ما يشبه الانفصال والاتصال

وهي ثنائية أريد منها وضع المنظمة ضمن السياق الذي يوفر للولايات المتحدة غطاء شرعيا لتوسعة نفوذها في العالم، ومن ناحية أخرى تعطيل فاعلية القوانين التي تشكل موانع في وجه إستراتيجيات السيطرة المفتوحة. ولقد كان لهذا المنطق أن يتبلور تدريجيا على امتداد عقد من نهاية الحرب الباردة، إلا أنه ظل مربوطا بالمبدأ الذي عكف على بلورته الجمهوريون والديمقراطيون في البيت الأبيض والقائل بضرورة ترسيخ مفهوم الإمبراطورية الأميركية الناشئة.

وحفرت الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد الحرب الباردة على هاتين الآليتين: الإقناع والإجبار مجرى تعاملها مع الأمم المتحدة، وكانت قمة الألفية المنعقدة في خريف العام 2000 مثالا صارخا على التحول العميق في صيغة المنظمة وميثاقها وبخاصة لجهة التبدلات التي طرأت على مفهوم السيادة وتشريع حسم الصراعات تحت شعار ما سمي "التدخل الإنساني".

ماذا حدث في قمة الألفية
لم يكن مشهد زعماء العالم وهم يدخلون إلى ناطحة السحاب الزجاجية مألوفا يومذاك، كان كل شيء يوحي بأن الموكب الأممي لم يفارق أحزانه الموروثة عن أيام الحرب الباردة، ولكن الغبطة التي علت وجوه الزعماء والقادة والأباطرة والملوك القادمين من مشارق الأرض ومغاربها كانت أشبه بحجاب يستر آلام الخيبة والانكسار.
ولكن قمة الألفية جمعتهم إلى ذلك المكان الحميم الذي لا يزال منتصبا كطوطم من معدن في قلب المدينة الأميركية الصاخبة.

المصدر : غير معروف