الجزائر المنشودة

عرض/ شفيق شقير
صدر الكتاب عام 1999 إبان اشتداد العنف الأهلي في الجزائر، وما زال يصلح نموذجا ودليلا على تعطش النخب الجزائرية إلى الخروج من دوامة الحرب الأهلية وبناء جزائر جديدة وفق معادلة جديدة.

undefined-اسم الكتاب: الجزائر المنشودة
-المؤلف: محفوظ نحناح
-عدد الصفحات: 251
-الطبعة: الأولى
الناشر: دار النبأ – الجزائر

فالكتاب يرسم باختصار صورة الجزائر المنشودة، الجزائر التي ينشدها أحد أبرز الرجالات الإسلاميين الجزائريين الشيخ محفوظ نحناح رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية الذي توفي الأسبوع المنصرم.

يرى نحناح أن الأزمة التي حلت بالجزائر ليست "لعنة أبدية" ولا "نقمة سرمدية" بل هي "سنة ربانية" تجري على جميع الخلق، وأن التغيير عملية فكرية نفسية بالأساس ولن تتم إلا باستعادة "الوعي الجماعي" الجزائري على أساس القاعدة الإلهية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وأول مراتب "الوعي" هو الوعي بالذات وبالمكونات الأساسية للهوية وبالأزمة نفسها، ولا وعي حيث لا حوار، وعلى هذا التوصيف قام الكتاب.

الأزمة
يشبّه الكاتب الأزمة بالتنين الأسطوري البشع ذي الرؤوس المتعددة، ووجه الشبه هنا ليس في البشاعة فقط بل في طابع التعدد أيضا، وهو ما يميز الأزمة الجزائرية لأن أسبابها بشعة ومتعددة.

ولكن يعيد الكاتب جذور الأزمة إلى فقدان الحكم لشرعيته القانونية التي من المفترض أن يستمدها من رضا الناس، وأنها هي فقط الشرعية الطبيعية السليمة. والحال أن النظام الجديد لجأ بعد الاستقلال إلى الشرعية التاريخية أو الشرعية الثورية وباسمها اتخذ قرارات تسلطية وتصفية حسابات. ومنذ ذلك اليوم والجزائر تنتقل من شرعية إلى أخرى والجامع بينها أنها شرعية غير حقيقية وغير سليمة.

فالمنظومة القانونية والدستورية التي تحمل المبادئ والقواعد الأساسية للنظام والممارسات الديمقراطية متوفرة في الجزائر، ولكن يعتدى عليها بوضعها في قوالب على مقاس أشخاص محددين أو بالدوس عليها وتجاوزها، وفي كلا الحالين الوعاء موجود والمحتوى غائب.

وفي الاتجاه نفسه يصف الكتاب الانتخابات بـ"المظاهر الخارجية البراقة"، ويتهم السلطة بمصادرة الإرادة الشعبية وتزوير الانتخابات بدءا من انتخابات الرئاسة سنة 1995 التي كان الكاتب نفسه أحد مرشحيها، وانتهاء بالانتخابات التشريعية (1997) والمحلية (1998).

ويرى أن التجارب أثبتت أن وجود الإطار الدستوري والديمقراطي ليس كافيا إذا لم تكن الإرادة الشعبية المعبر عنها بحرية السبيل الوحيد إلى السلطة، وإذا لم تكن الحريات عموما متوفرة والمجتمع المدني قائما.

الهوية


العربية لغة الإسلام المقدسة التي يجتهد المسلمون لتعلمها ويتقربون إلى الله بنشرها وتعليمها ولهذا كان معظم خدم اللغة العربية من غير العرب

الهوية الوطنية قد تكون إحدى المسلمات التي يجتمع عليها الجزائريون، ولكن هناك كثير من الخلاف على فهم كل مكون من مكوناتها (الإسلام، العربية، الأمازيغية) وعن دوره وعلاقته بباقي المكونات.

وقد يضيف البعض أو يجادل لإضافة عناصر أخرى، وهو ما يحاول أن ينفيه الكاتب بتأكيده أن العلاقة بين هذه العناصر الثلاث جاءت نتيجة تفاعل وانصهار طويل وعميق سمح لها بأن تكون علامات فارقة لهوية الجزائر، وصح أن تكون مرجعا تأتي بعدها التجارب والقيم الإنسانية الخالدة والخيرة كالحرية والعدل والشورى والعلم والعمل.

ومن هنا يأتي الحذر من الخلط بين مزيج لا متناه من العناصر العارضة بدعوى أنها تملك أثرا في الهوية الوطنية، بما يؤدي بالهوية إلى فقدان تميزها وأصالتها.

فالإسلام هو المكون الأساس للهوية، إذ يحدد فلسفة الفرد عن سر الحياة ويجيب عن الأسئلة الخالدة: من أنا؟ من أين جئت؟ وإلى أين أمضي؟.. إلخ. وهو يمتاز بالشمول برسمه الحدود لكل مناحي الحياة وتوضيحه للغايات وتبيينه للمنطلقات. والشمولية هنا نقيض للشمولية بالمعنى التسلطي، لأن الإسلام يتدخل بالطريقة التي تعطي للممارسة والتطبيق مجالا للإبداع والتفرد.

ويتحدث نحناح بإسهاب عن الإسلام الوسطي المثمر المنتج للحضارة، ويستنكر بعض المواقف من الإسلام في الساحة الجزائرية. فهناك من يدعو لوضع الإسلام في قفص ذهبي تنزيها له، وآخر يريده عبادات فقط، وهناك من يفصل فتاوى على المقاس، وآخر يجعل منه نصوصا غير قابلة للفهم، فضلا عمن يحاول استغلال الإسلام لتبرير وتمرير سياساته باسم إسلام اشتراكي أو أميركي.. وهكذا دواليك.

ومن جهة أخرى يرى أن العربية لغة دين وليست لغة قوم فحسب، فهي لغة الإسلام المقدسة التي يجتهد المسلمون في تعلمها ويتقربون إلى الله بنشرها وتعليمها، ولهذا كان معظم خدم اللغة العربية من غير العرب، والفصل بين العربية والإسلام ضرب من المستحيل، فلا عربية بلا إسلام ولا إسلام بدون العربية. والعربية هي المكون الثاني لهوية الشعب الجزائري بهذا الاعتبار.

أما الأمازيغية البربرية فقد طبعت الشعب الجزائري بحب الحرية الشديد حتى دعي الأسلاف الأوائل بـ"الرجال الأحرار"، لهذا ارتسم تاريخ الشعب بآلاف الثورات على مر العصور والأزمنة ضد كل أصناف الغزاة، باستثناء الفتح الإسلامي الذي قدم برسالة ربانية احتضنها الناس وتكيفوا معها.

ويرى الشيخ نحناح أن الاستعمار استطاع إحياء النعرات العرقية لدى البربر -السكان الأصليين للجزائر- بإيهامهم بأن البحر المتوسط يصل بينهم وبين أوروبا وأن الصحراء تفصل بينهم وبين العالم العربي والإسلامي. ويتخوف من الارتباط المشبوه بين دوائر استعمارية وبعض التوجهات العلمية، في إشارة إلى المحاولات الفرنسية لكتابة البربرية بالحرف اللاتيني، وإثارة البربر للتحزب على أساس عرقي، وقطع صلة الأمازيغية بالعروبة والإسلام واستحداث مواجهة بينهما.

الفكرة الوطنية


لم تكن الفكرة الوطنية متوفرة ساعة الهجمة الاستعمارية على الجزائر، إذ كانت جهادا ضد العدو الغازي الكافر دفاعا عن الأرض والعرض في غالب الأحيان

من أهم النقاط المشتركة بين كل الثورات والانتفاضات الشعبية التي عرفتها الجزائر في القرن العشرين أنها حركات محدودة من حيث انتشارها الجغرافي، إذ كانت كل واحدة منها تنحصر في منطقة معينة دون سواها، ويرجع ذلك -برأي المؤلف- إلى أن البعد الوطني لم يكن قد تشكل بوضوح في الوعي العام أو الحس المشترك للشعب الجزائري.

فقد كانت الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي تنهل من معين الفكرة الإسلامية التي لا تقوم على أساس الجنس أو العرق أو اللغة أو الإقليم، بل كانت تقوم على رابطة العقيدة والفكرة ولم تشعر يومها الشعوب أو النخب بالحاجة إلى البحث عن رابطة جديدة بديلة للرابطة الإسلامية سواء أكانت قومية أو وطنية أو غيرها.

حتى إن استقلالها النسبي عن الدولة العثمانية كان يرجع إلى أسباب عملية بحتة تتعلق ببعد المسافة وصعوبة الاتصال وبدائية وسائل النقل، ولم يكن نابعا من دعاوى عرقية أو إقليمية أو رفض شعبي للحكم التركي، فكانت طبيعة الاستقلال هذه مكملة للدولة العثمانية ومصلحة لها أحيانا ولم تكن أبدا بديلا عنها.

وبهذا لم تكن الفكرة الوطنية متوفرة ولا مستكملة ساعة الهجمة الاستعمارية على الجزائر، ولم يكن متوقعا أن تنطلق الحركة الدفاعية أو المقاومة من منظور وطني أو من أجل مشروع وطني إنما كانت جهادا ضد العدو الغازي الكافر دفاعا عن الأرض والعرض، ولم يزد الأمر عن ذلك في غالب الأحيان.

ويعتبر المؤلف أن الفشل العسكري مع بدايات القرن العشرين لكل الثورات الجزائرية كان سببا في ظهور التيارين اللذين عرفتهما الجزائر إبان الاستعمار: التيار الثوري الاستقلالي الوطني، والتيار الإصلاحي الاندماجي الاستعماري. وكان التيار الأخير يرى في الجزائر كيانا غير موجود "ولا أثر له حتى في المقابر أو في بطون الصحائف والدفاتر"، وفي أحسن الأحوال "كيان شعب في طور التكوين تنصهر فيه عناصر عشرين عرقا مختلفا أو أكثر".

أما التيار الوطني فكان يرى في هذا الكيان شعبا مكتمل الشخصية واضح الهوية وأن له الحق في تقرير مصيره وتسيير شؤونه دون وصاية من أحد. واتسم هذا التيار على المستوى الأيدولوجي بالطابع الوطني، واستعمل في مقاومته مفردات إسلامية عندما كان ينعت كل من تجنس بالجنسية الفرنسية بـ"الكفر" مثلا، وعندما كان يعتبر كل من التحق بركب الثورة "مجاهداً".

آلية الديمقراطية
ينظر نحناح إلى الديمقراطية على أنها أفضل نظام لتحقيق الشورى وأنها منهج غير شامل لكافة مناحي الحياة، فهي فقط آلية ومنهج عملي لاتخاذ القرارات ذات الصبغة العامة من طرف ذوي الشأن، ولا تحمل أبعادا أيدولوجية أو معاني عقائدية. ونجحت الديمقراطية بهذا الاعتبار في هذا العصر نجاحاً كبيرا، حتى إن الأحزاب الاشتراكية والمسيحية الأوروبية انخرطت في التجربة الديمقراطية لإدراكها أن هناك فارقا وفاصلا مميزا بين الممارسة الديمقراطية من جهة والعقيدة أو الأيدولوجية الليبرالية والنظام الرأسمالي من جهة أخرى.

ويقول الشيخ محفوظ نحناح إن تبنيه لهذا الموقف الوسطي من الديمقراطية عرضه وجماعته لتهمة الكفر من طرف بعض الإسلاميين والمحسوبين عليهم، ولتهمة الخداع والتضليل من طرف كثير من اللائكيين (اللادينيين) وبعض الأوساط الرسمية.

الجزائر المنشودة
undefinedوالكتاب ثري بالأفكار وأحيانا بالنظريات، ويناقش بعمق ويقيس أحوال الجزائر على أحوال الأمم ويستخرج العبر ويوظفها كلها لصالح فكرة رئيسية واحدة هي السلم ونبذ العنف، ويترسم سبيل الإسلام المسالم والتنمية المبنية على أساس السلم والتربية التي تستهدي به.

ويحاول أن يلاحق كل أسئلة العصر وقضاياه فلا يفوته أن يقف عند المرأة وموقعها بالنسبة للرجل والحياة، كما يتحدث عن السبيل إلى نظام عربي جديد. ولا ينسى قبل الختام أن يعرج على ذكر فلسطين. وهكذا يقفز من صورة إلى أخرى وكأنه يريد للجزائر المنشودة أن تكون مشدودة للإسلام والعصر، عبر محاولة الإجابة بالمنطق الإسلامي على أبرز تساؤلات العصر.

ويظهر من الكتاب بوضوح أنه ألف بتقطع أو على مراحل، أو أنه مجموعة من الأفكار غلبت على صياغتها أحيانا لغة الخواطر، وبالفعل وصف نحناح -في الإهداء- ما جاء في كتابه هذا بأنه "باقة أفكار"، فكان أحيانا يذكر فكرته في جزء من الكتاب ثم يستكمل شرحها أو يعاود معالجتها من زاوية أخرى في موضع آخر، وأحيانا أخرى يذكر طرفا من بعض الأمثلة ولا يستوفي شرحها وكأن خطابه موجه للجزائريين فقط، أو أنه يعتقد أن القارئ العربي مدرك لتاريخ الجزائر ملم به.

فالكتاب رغم أنه يبحث عن المعادلة المفقودة للجزائر المنشودة، فإنه بالفعل وتد مهم وجزء أساسي من أي معادلة مستقبلية للبحث عن الأمة العربية والإسلامية المنشودة.

المصدر : غير معروف