الثقافة والعولمة

خدمة كمبردج بوك ريفيو
بعكس معظم الكتابات العربية المتوترة بشأن العولمة نقرأ في "الثقافة والعولمة" مطالعة هادئة عن هذه الظاهرة, أو التغير العالمي, تمتاز بأنها أكثر تأملية وأبعد عن النزعة الشتائمية والاتهامية المدججة بالتحليل "المؤامراتي" للظواهر. ليس هذا معناه أن سعيد حارب, المثقف الإماراتي المعتدل, يبشر بالعولمة ويدافع عنها, بل هو ناقد لكثير من جوانبها, لكن أهم من الدفاع أو النقد هو الأرضية والمنهجية التي يقوم أي منهما إستناداً عليها. فمن الطبيعي أن يأخذ كاتب أو مثقف ما رأياً حاسماً تجاه أمر معين, قبولاً أو رفضاً, لكن ما يعطي هذا الرأي قيمته هو موضوعية الرفض أو القبول وانطلاقه من معطيات واقعية مقنعة وافتكاكه من إسار النظرة الواحدية أو الاختزالية للموضوعات المركبة وذات الأبعاد المتشابكة.


undefined


– اسم الكتاب: الثقافة والعولمة
– المؤلف: سعيد حارب
– عدد الصفحات: 176
الطبعة: الأولى 2000
الناشر: دار الكتاب الجامعي- العين- الإمارات العربية المتحدة

الكتاب هو مجموعة من المقالات والأبحاث التي نشرها المؤلف في أوقات متفرقة لكنها ذات علاقة بإشكاليتي الثقافة والعولمة. ولعل هذه الصفة التجميعية للكتاب هي عيبه الأكبر, خاصة وأن المؤلف لم يقدم له بفصل تمهيدي يقرب فيما بين المقالات المتباعدة زمناً أو موضوعاً ويحاول أن يعوض ولو بعض الشيء عن العضوية المفقودة في الكتاب. لكن مع ذلك, تبقى المساهمات, كل على حدة, تقدم إلماعات مهمة وتواجه الأسئلة الصعبة والمركبة في هذه المواضيع بتوازن لا تنقصه الجرأة.

يتحدث حارب عن التغيرات المواكبة للعولمة والمؤثرة على العالم العربي, فيشير إلى الإعلام المعولم وأثره على القيم الاجتماعية, وحيث "أن ألف خطبة أو مقال لا تقف أمام برنامج تقدمه محطة CNN أو BBC أو حتى بعض محطاتنا العربية المهاجرة" (ص 11). ويشير أيضاً إلى الديمقراطية "التي يصاب بعضنا بالدوار عند الحديث عنها" وأنها باتت تستخدم من قبل الدول الكبرى كورقة للضغط وحيث يتم توزيع شهادات حسن السيرة والسلوك الدولية وفقاً لمدى التزام الدول بالمعايير التي وضعها (الغرب) للديمقراطية. وقد يقول بعضنا إننا والحمد لله ما زلنا بعيدين عن "لوثة" الديمقراطية, وينسى هؤلاء أن الآخرين قد سكتوا عنه لا كرهاً في الديمقراطية وسيئاتها, ولكن انتظارا لليوم المعلوم حين يلوحون بهذه الورقة متى حان وقتها, وهو إن لم يسبقهم بحرق هذه الورقة, حرقوه بها كما حدث, في كثير من أرجاء العالم" (ص 12).


إعادة تربية الإنسان وصياغته هي المدخل الأساسي لعصر العولمة ولا يعني التخلي عن مكوناتنا الدينية والثقافية والاجتماعية

يتعرض حارب للسؤال الصعب "كيف نتعولم" وهو يرى دوراً مركزياً للتربية والتعليم التي خصها وخص الدراسات المتعلقة بها والمؤتمرات العالمية التي شهدها بنقاش موسع. وهو يقول بأن "إعادة تربية الإنسان وصياغته هي المدخل الأساسي لعصر العولمة", مؤكداً على أن الدخول إلى عصر العولمة يجب أن يكون لا يعني التخلي عن مكوناتنا الدينية والثقافية والاجتماعية. وبهذا فإننا كعرب ومسلمين نضيف بتعولمنا شيئاً إلى العولمة ولا ننسخها كما هي, والإضافة التي بإمكاننا تقديمها هنا, كما يشير حارب, هي "الموروث الإنساني الذي يمكن أن يسهم في رفد عصر العولمة باحتياجاته الإنسانية" التي من دونها يصبح عصر العولمة "آلياً لا روح فيه" (ص 16). وهو ينقل بعض النقاش الأميركي الداخلي بشأن موضوع التربية وصياغة الإنسان والقلق الذي يستبد بصناع القرار هناك جراء الفشل في بناء إنسان متوازن رغم التقدم التكنولوجي المذهل الذي حققوه, وينتهي إلى الاستنتاج بأنه إذا كان هذا حال الدول الكبرى وذات القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الفائقة, فإنه من باب أولى أن يستبد القلق ذاته أيضاً, أي بناء إنسان قادر على مواجهة العصر وإنسانه, بالدول والمجتمعات الضعيفة والمتخلفة.


كل خمس دولارات في العالم يملك منها الغرب أربعة دولارات ويترك دولارا واحدا فقط لبقية المناطق، ولا يرجع السبب فقط لسيطرة الغرب بل إلى عجز الشرق والجنوب عن الإمساك بمقدرات شؤونه وإدارتها بطريقة تنموية صحيحة والسير للتطور بجهوده الذاتيـة

ولا ينزع حارب منزعاً اعتذارياً وتبريرياً في تفسير المعضلات والتخلف الذي يواجه العالم الثالث كما يفعل كثيرون من تحميل الغرب كل أسباب التعثر والفشل في العالم الشرقي والعالمثالثي. فصحيح أن "كل خمس دولارات في العالم يملك منها الغرب أربعة دولارات ويترك دولارا واحدا فقط لبقية المناطق" لكنه يؤكد أن "السبب لا يرجع وحده لسيطرة الغرب بل يرجع في الأساس إلى عجز الشرق والجنوب عن الإمساك بمقدرات شؤونه وإدارتها بطريقة تنموية صحيحة والسير للتطور بجهوده الذاتية والعمل على تطوير إمكانياته بدلاً من أن يسلم مقدراته وشؤونه للغرب ويتفرغ بعد ذلك للعن هذا الغرب." (ص 52). ومن هنا, وفي سياق البحث عن بديل والنهوض الذاتي, فإن حارب يحث العرب والعالم النامي عامة إلى الاستفادة من التجربة الآسيوية والاستجابة لصيحة مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي بشأن ضرورة "النظر شرقاً" وبالتالي تقوية العلاقات الاقتصادية والثقافية مع الشرق بدل الانقطاع عنه, على أن لا يعني ذلك قطع الصلة بالغرب.

غير أن المؤلف يبتعد عن الانخراط في قضايا العولمة السياسية, كمفاهيم وممارسات التدخل الإنساني والدمقراطية وحقوق الإنسان, بخلاف معالجاته لجوانب العولمة الثقافية. وعندما نطالع ما كتبه بشأن الصراع في كوسوفو (ص 133- 149) نجده بالكاد يتعرض لأهم جانب في ذلك الصراع من زاوية العولمة السياسية وهو جانب "التدخل الإنساني" الخلافي والمثير للجدل. فهنا نحن أمام معضلة حقيقية لها وجهان: الأول يقول بأن على العالم (وخاصة العالم القوي) التدخل العسكري انتصاراً لأي طرف يتعرض لإبادة وظلم وقمع من طرف باطش, والوجه الثاني يقول بأن إطلاق العنان لمبدأ التدخل الإنساني يشرع للدول الكبرى ممارسة التدخل هنا وهناك تحقيقاً لمصالحها وتحت شعارات إنسانية. والجدل هنا أعقد من أن يقوم على رسم خط فاصل بين تبرير التدخل على أساس أخلاقي وإنساني ورفضه إن كان مدفوعاً بالمصالح السياسية والقومية, لأن الأمور والمصالح والأهداف تختلط اختلاطا كبيراً بما يعيق فصل الحافز الأخلاقي عن المصلحة القومية. وعلى كل الأحوال يبقى هذا الجدل, على أهميته التي كرستها تجربة كوسوفو, خارج إطار النقاش المعمق والهادىء في الساحة العربية, أو بعيداً عن التحليل المؤامراتي والسجالي مع الغرب. وكان من المهم أن يتعرف القارىء على وجهة نظر المؤلف في هذه الإشكالية العولمية الضاغطة على الأجندة الفكرية العالمية.

لا يخلو الكتاب من ظرف في أسلوب الكاتب أضاف لمسة طرافة عامة على بعض المعالجات. ففي مقالته بشأن الانتخابات البريطانية التي فاز بها حزب العمال عام 1997, بعنوان "يحيا العمال" (ص 150), يتذكر الكاتب كيف عاش في بيت عجوز بريطانية لعدة أشهر في قرية قريبة من مدينة كامبردج اسمها "شيفلد العظمى", وكان ذلك البيت مليئاً بصور جون ميجر رئيس الوزراء البريطاني الذي خسر الانتخابات حينها. ويتندر على تسمية القرية بـ"العظمى" وعدد منازلها لا يتجاوز الثلاثين, وهي العظمة المعطوفة على العظمة التي كانت العجوز تصف بها ميجر. (هذا مع الإشارة إلى أن الاسم الدقيق للقرية المذكورة هو "شيلفورد الكبرى", وأن الكاتب ارتكب الخطأ المشهور بترجمة لفظة Great إلى "عظمى" في وصف القرية بدل الكبرى, رغم أن الترجمة إلى عظمى تكون دقيقة في مواضع أخرى ولكن بالتأكيد ليس هذا أحدها.

إلى جانب ذلك, ثمّة عدد من الملاحظات النقدية على الكتاب كان حريا بالمؤلف الانتباه إليها قبل دفع مخطوطته إلى النشر, ومعظمها قابل للتجاوز والتعديل بسهولة. أولها مرتبط بهيكل الكتاب المبني على مجموعة مقالات ودراسات نشرت في أوقات متفرقة, مما أدى إلى حشر مقالات لا علاقة لها بعنوان الكتاب مثل "جهاد" أبو حمزة المصري في لندن! أو المعالجات التي تناقش سجالات إسلامية-علمانية في الساحة العربية لا علاقة للعولمة بها, فضلاً عن الانتخابات البريطانية المشار إليها سابقاً. وثاني الملاحظات النقدية متعلق بخطأ الإبقاء على المقالات أو الدراسات على هيئتها الأولى يوم نشرت من دون تحريرها أو تعديلها بغية تحديثها من ناحية ولربطها ببقية المقالات إما عن طريق الترتيب الأفضل أو الإشارات والإحالات إلى بعضها البعض في ثنايا النقاش, خاصة وأن "الفصل" بين المقالات أدى إلى بروز تكرار للأفكار وأحياناً الاستشهادات. كما قاد عدم تحرير المقالات إلى غموض في التواريخ والنسبة للأحداث المقصودة في النقاش, فمثلاً ينسب إلى "أيوجين روستو" رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية أقوالاً (في ص 116) من دون أن يقول لنا في عهد أي رئيس أميركي خدم المذكور, خاصة وأن المتن العام للمقال يوحي بأنه نشر في أوائل التسعينات. ونجد تعبيرات عديدة مثل "العام الحالي" أو "السنة الماضية" وسوى ذلك مما قد يكون مفهوماً إيراده في مقالة صحفية مطولة, لكن عند ضم هذه المقالة إلى كتاب يغدو من نافل القول ضرورة إحكام التوثيق والتأريخ. لكن مع ذلك, يبقى هدوء واتزان المعالجة والرأي في هذا الكتاب تغفر له الزلات الصغيرة هنا وهناك.

المصدر : غير معروف