أسطورة العولمة

كامبردج بوك ريفيوز
يعالج كتاب "أسطورة العولمة" موضوعا قيل وكتب عنه الكثير. لكنه كما تدعي الفقرة الإعلانية المطبوعة على غلافه الأخير، "يقلب الأساطير المتداولة عن العولمة رأسا على عقب". ولا يملك القارئ إزاء مثل هذا الادعاء إلا أن يتسلح بكل ما في جعبته من شكوك أمام السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهنه وهو "ما هي الأساطير التي يقلبها الكتاب حقاً، خاصة بعد أن فككت العولمة ونقدت عن طريق كثير من الكتب والدراسات خلال السنوات الأخيرة الماضية؟" وأساطير من تلك التي يحاول الكتاب نقضها؟

undefined

-اسم الكتاب: أسطورة العولمة
-المؤلف: آلان شيبمان
-عدد الصفحات: 236
-الطبعة: الأولى 2002
-الناشر: آيكون، كامبردج

فإذا كانت "الأساطير" التي يريد أن يقلبها هي أساطير مديري الشركات التنفيذيين، فإن ذلك يعني أنه سيقدم للقارئ "أساطير" المتظاهرين ضد العولمة، والعكس بالعكس. وفي كلتا الحالتين لن يحصل القارئ على الكثير من الجديد الذي يستحق أن يجمع في كتاب.

مثل هذه الخواطر تظل ماثلة حتى بعد أن يعلم القارئ أن الأساطير التي يقصدها مؤلف الكتاب آلان شيبمان، هي تلك المعادية للعولمة وأن القصد من الكتاب هو تكذيب تلك الأساطير. في هذا الإطار يرى الكاتب في الشركات متعددة الجنسيات خير صديق لأطفال المكسيك، قبل أن يشرح المسوغات والأسباب التي يجب أن تدفع الجماهير المسحوقة إلى حب صندوق النقد الدولي.

لكن الكاتب فيما خلا ذلك يتخلى عن راديكالية العنوان ليقدم تصورا يرى في العولمة إيجابيات دون أن يغفل ما فيها من سلبيات، ومثل هذه المعالجة هي أقرب للتقليدية منها إلى "الجذرية" التي يوحي بها العنوان في تفكيك أية أساطير. لكن هذا لا يعيب الكتاب، بل ربما يكون ميزة له إذ تقربه من التوازن والتأمل.

على العموم، من السهل ضم آلان شيبمان إلى قائمة كثير من الكتاب والباحثين الذين يتحرشون بما هو سائد ويجدون في معاكسته طريقا سهلة لجذب الانتباه، خصوصا إذا كانت الأفكار السائدة التي تتم معاكستها تتعلق بالعولمة، وإذا كان الكتاب الذي يتصدى لها صادراً عن دار "آيكون" التي تروج لمطبوعاتها في أوساط أكاديمية معروفة بتحفظاتها على العولمة والأمركة وما تجرانه من تنميط.

لكن شيبمان ليس من ذلك النوع من الراديكاليين المتعصبين على النحو الذي حاول فريق العلاقات العامة المروج للكتاب أن يصوره. فهو راديكالي بطريقة محدودة وذكية لا تبتعد كثيرا عن المشاعر المناوئة للعولمة. ومما يؤسف له أن الثوب الذي خلع على كتاب شيبمان سوف يبعد عنه الكثير من القراء المحتملين.


العولمة الراهنة هي آخر صيغ سلسلة طويلة من "عولمات" سابقة ابتداء من التكامل الطبيعي الأزلي في النظام الكوني البيئي ومرورا بالمشاريع الإمبريالية الكبرى

لكن ما هي أطروحة كتاب "أسطورة العولمة، وما هي أسئلته الأساسية؟". ابتداء سنجد أن العنوان لا ينطبق على الكتاب، حيث أن اللغط الذي يريد أن يتصدى له المؤلف هو -من وجهة نظره- سوء فهم للعولمة وليس أسطورة تلفق عنها. ويعتقد شيبمان أن العولمة كانت موجودة على الدوام على نحو ما، ابتداء من التكامل الطبيعي الأزلي في النظام الكوني البيئي، ومرورا بالمشاريع الإمبريالية الكبرى للإسكندر والملكة فيكتوريا وجوزيف ستالين. فقد كانت هناك الكثير من "العولمات"، وما العولمة الراهنة التي يكثر الحديث عنها إلا آخر صيغ تلك السلسلة الطويلة.

ومن هنا فإن الأسطورة التي تخص العولمة لا تتعلق بوجودها نفسه. كما أنها لا تتعلق بالادعاء الشائع بكون العولمة مضرة لأعداد كبيرة من الناس.

فشيبمان يقر أن الشركات متعددة الجنسيات وتلك المدفوعة برغبات ومصالح حملة الأسهم مرشحة لاستغلال الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة، وللاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال سواء كانوا من الأجانب أو الوطنيين كلما اختلت موازين ربحها. لكنه يبدي تفهما غريبا لهذه الممارسات، ولا يتوقف لحظة للنظر في وسائل أخرى يمكن أن تخفض الكلفة بطريقة أقل ضررا مثل تقليل المخصصات السخية التي يتمتع بها مديرو تلك الشركات.

وبينما يتفهم ممارسات الشركات يمتنع شيبمان عن أي تفنيد جدي للكثير من الطروحات اليسارية بشأن السلوك المؤذي لهذه للشركات. لكنه في الوقت ذاته يناقش ما يراه الأسطورة الكبرى وهي الاعتقاد بأن الشركات متعددة الجنسيات هي مهندسة العولمة التي تعبر عن نفسها من خلال تلك الشركات.

وهنا تتجلى خصوصية راديكالية شيبمان في ادعائه بأن توسع الشركات إلى ما وراء البحار ليس محاولة منهجية لإخضاع الأسواق العالمية، إنما هو محاولة لإسناد الأسواق الداخلية الوطنية لتلك الشركات.

ويشبه المؤلف الحملات التجارية لتلك الشركات بالحملات العسكرية فيقول "كما يتفق الجنرالات المتناحرون على القتال فوق أراضي دول أخرى لتفادي تدمير الثروات التي يقتتلون عليها، كذلك تفعل الشركات المتنافسة حين تنطلق إلى الخارج لكي تجمع لمعركتها الداخلية المزيد من الأرباح والأشخاص والأفكار الإنتاجية".


تقع على عاتق الحكومات مسؤولية إعادة صياغة العولمة بتنظيمها من خلال منظمات مثل الثماني الكبار ومنظمة التجارة العالمية

وتشترك الشركات متعددة الجنسية مع الأميركيين رفاقها في تأييد العولمة، بأن كليهما كيانات غير امتدادية نشأت على ثقافة الانعزال وراء الحدود البحرية. لكن الحكومات في رأي شيبمان، هي التي دفعت إلى التوسع الدولي من خلال محاولتها تقليص قوة السوق التي تتمتع بها الشركات متعددة الجنسيات في الوطن.

وهكذا أرغمت المصالح الشركات الكبرى على البحث عن طرقها الخاصة لحل مشاكل الفائض في الإنتاج والتدني في الاستهلاك التي سببتها السياسات الحكومية. وقد حققت ذلك بأساليب غير تنافسية وشبه شيوعية عندما وضعت خططها المركزية على أساس تجاوز الأسواق التي تنوي العمل فيها، أو التحكم في توجهات تلك الأسواق.

وتعود المسؤولية اليوم إلى الحكومات لكي تعيد صياغة العولمة التي خلقتها على نحو يخدم جميع الأطراف، وعن طريق تنظيم العملية كلها من خلال منظمات مثل الثماني الكبار ومنظمة التجارة العالمية. ويعتقد شيبمان أن هذه المؤسسات لا تقوض دور الحكومات، بل هي في الواقع الأمل الوحيد الذي تملكه تلك الحكومات للبقاء.

المؤلف في جوهره رأسمالي يؤمن بالإمكانات العظيمة الخيرة التي يمكن أن تحققها العولمة، وتميزه يعود للإطار الرصين الذي يطرح ضمنه آراءه وحججه بعيدا عن اللغة المنمقة التي يستخدمها المحافظون الجدد.

وهو يرى أن المؤسسات ما فوق الوطنية إذا ما خضعت لتوجيه الدول الوطنية، ستكون قادرة على جعل الشركات متعددة الجنسيات أداة لجلب الرخاء إلى الدول الفقيرة في نفس الوقت الذي تنقل فيه إلى دولها الثرية أصلا المزيد من التحسس بالتنوع العالمي. وهو طرح يعترف بالحاجة الى التغيير من جانب الشركات، وضرورة إيقاظ الإرادة السياسية لدى الحكومات. ومن شأن طرح كهذا أن يحظى باحترام الكثير من القراء بمن فيهم أولئك الذين يتخذون موقفا مبدئيا معارضا للعولمة.

أما نقطة الضعف الكبرى في أطروحة شيبمان فتتمثل في درجة الثقة العالية التي يضعها في دوافع ونوايا الشركات متعددة الجنسيات. حيث لا يملك حتى أشد اليمينيين تعصبا إلا أن يشعر بالدهشة إزاء إصرار شيبمان على أن جميع الممارسات السيئة التي تصدر عن عالم المصالح الكبرى مفروضة عليه بفعل الظروف وسوء إدارة الحكومات الوطنية.

لكن كتاب شيبمان رغم هذا الانحياز الكامل للرأسمالية، لا يريد أن يكون اعتذاريا عن الشركات متعددة الجنسيات. إنما هو في الأساس مناظرة كلامية ضد المناوئين للعولمة سعى شيبمان من خلالها إلى تصحيح ما يتداولونه من "أساطير". وفي مقدمة تلك "الأساطير" التي اهتم شيبمان بتفنيدها الزعم بأن الحكومات باتت خاضعة للشركات متعددة الجنسيات الأمر الذي جعل منها ضحية لتلك الشركات أو شريكا متواطئا معها.


يحمل هذا الكتاب أفكارا مثيرة وهو إنجاز ليس بالقليل إذا أخذنا بعين الاعتبار الكم الهائل من الكلام الذي استنفد موضوع العولمة

يمكن اعتبار كتاب "أسطورة العولمة" تعقيبا ذكيا على ما يدور حول هذا الموضوع الساخن من آراء. ورغم ابتعاده عن الصيغ التي ابتذلتها كثرة الاستعمال، فانه لا يخلو من أصداء العناوين الصارخة للصحف الصفراء، والصياغات الانفعالية كما في قوله "التركيز على نوع الإيمان الديني الذي تعتنقه، وتحديد الجهات التي يمكن أن تركن لحيازتها أسلحة الدمار الشامل، والتفكير بالكيفية التي يمكن أن تحمي بها البيئة، وغير ذلك من مظاهر الانقسام في الآراء… لم ينطلق إلا من غبار برجي التجارة اللذين تقوضا في نيويورك."

لا شك أن الاقتصاد السياسي الدولي موضوع جاف. وبوسع المحاولات التي يبذلها مؤلفو الكتب شعبية الانتشار لتسويغه أن تحوله إلى مسخرة. لكن كتاب "أسطورة العولمة" بكل ما يحويه من سخف، قد جاء أيضا بقسط لا بأس به من الأفكار المدروسة والطازجة.

ويصف آلان شيبمان نفسه بأنه نوع طريف من الاقتصاديين، وضم كتابه طرحا طريفا للاقتصاد السياسي الدولي. فهو يعبر أحيانا عن تسامح ساذج إزاء جشع المصالح الكبرى، حين يقول "إن عملية جني الأرباح لم تكن مطلقا الدافع الوحيد للشركات الكبرى".

ولنا أن نفترض أن القارئ كان يمكن أن يبتلع مثل هذا الادعاء المنكر لولا كلمة "مطلقا" المثيرة للاستفزاز. لكنه يعود في مواضع أخرى ليؤكد أن "أعداء العولمة يمتلكون كل الحق في اتهام اقتصاد السوق بالإفراط في استنزاف موارد الكوكب والتقتير فيما يقدمونه للناس."

ومن دواعي متعة القارئ أن يتابع الكيفية التي يشق بها شيبمان طريقه الوسط بين هذين الولاءين المتعارضين. قد يكون شيبمان على خطأ، وقد يصبح هذا الكتاب ومؤلفه نسيا منسيا في غضون سنوات قليلة. ولكن هناك احتمالا آخر بأن يتحول كتاب "أسطورة العولمة" إلى واحد من الكتب الكلاسيكية الباقية. وبغض النظر عن الاحتمالين، فإن القارئ يجد في هذا الكتاب أفكارا طازجة ومثيرة، وهو إنجاز ليس بالقليل إذا أخذنا بعين الاعتبار الكم الهائل من الكلام الذي استنفد موضوع العولمة.

المصدر : غير معروف