الحظر الجوي على شمال العراق وجنوبه
في 23 يناير/كانون الثاني 1980 وقف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر أمام الكونغرس قائلا "إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز سيطرة في منطقة الخليج سوف تعتبر في نظر الولايات المتحدة هجوما على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية". وقد عرف هذا التصريح آنذاك بمبدأ كارتر.
والعراق لم يكن بعيدا عن هذه السياسة، فهو من الناحية الجغرافية يقع على رأس الخليج العربي، ويكوّن مع بقية دول الخليج أكبر منتج للطاقة في العالم، كما أنه يجمع بين النفط وتوافر المياه العذبة من نهري دجلة والفرات، وهي ميزة غير متوافرة في بقية دول الخليج، الأمر الذي أدركته أميركا جيدا.
وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991 فرضت أميركا وحليفتها الكبرى بريطانيا حظرا جويا داخل العراق عامي 1991 و1992 فيما عرف بمناطق الحظر الجوي شمال العراق وجنوبه بحجة حماية الأكراد والشيعة، وهو ما سنتعرض له في هذا التقرير وفق النقاط التالية:
- مبررات إنشاء مناطق الحظر الجوي.
- الأساس القانوني لفرض الحظر الجوي.
- الأهداف الأميركية للحظر الجوي.
- الحظر الجوي والقدرات العسكرية العراقية.
- آثار الحظر الجوي على العراق.
” كادت الصين وروسيا تعترضان على قرار مجلس الأمن رقم 688 لولا أنه عدل لكي يتضمن صراحة عدم المساس بالشؤون الداخلية للعراق ” |
أولا: مبررات إنشاء مناطق الحظر الجوي
في مطلع أبريل/نيسان 1991 قدمت فرنسا مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي تطلب فيه إدانة القمع العراقي للأكراد في الشمال عقب ثورتهم على حكومة بغداد المركزية أثناء العمليات العسكرية لحرب الخليج الثانية، فصدر القرار رقم 688 من مجلس الأمن يوم الخامس من الشهر نفسه يطالب العراق بالكف عن ملاحقة الأكراد واحترام حقوق الإنسان العراقي وحث هيئات الإغاثة الدولية على التجاوب مع احتياجات اللاجئين الأكراد الذين توجه نحو مليون شخص منهم إلى إيران وتركيا، كما حث العراق على السماح للهيئات الإنسانية بالحرية الكاملة في توصيل المساعدة إلى أي عراقي في حاجة إليها.
وكادت الصين وروسيا تعترضان على القرار في مجلس الأمن لولا أن المشروع عدل لكي يتضمن صراحة أنه لا يستهدف المساس بالشؤون الداخلية للعراق، إلا أن بغداد رفضت القرار واعتبرته تدخلا صارخا في شؤونها الداخلية.
فرض الحظر الجوي في الشمال
وفي أعقاب صدور القرار قامت فرنسا وبريطانيا وأميركا بإنشاء منطقة آمنة شمالي العراق بالقوة في الفترة من 17 – 23 أبريل/نيسان 1991 عرضها 15 كم على الحدود التركية العراقية، وفي وادي نهر دجلة لمسافة 40 كم وطول 60 كم على الحدود بمساحة قدرها 2400 كم2. كما فرضت حظرا جويا عراقيا عليها عند خط عرض 36 شمالا، وتمركزت الطائرات المنفذة للحظر في قاعدة أنجرليك التركية، وأكدت واشنطن أن هذه المنطقة مؤقتة تنتهي بمجرد عودة اللاجئين وتولي الأمم المتحدة مسؤولية معسكراتهم. لكن بغداد رأت في ذلك إعلانا جديدا للحرب عليها، وسعت من خلال مجلس الأمن إلى اعتبار ذلك خروجا على القانون الدولي، إلا أن واشنطن رفضت اعتراضات العراق.
فرض الحظر الجوي في الجنوب
قررت الولايات المتحدة بالتنسيق مع بريطانيا وفرنسا في أغسطس/ آب 1992 وضع خطة لحماية الشيعة جنوبي العراق عقب اتهام الحكومة العراقية بالهجوم عليهم في مطلع الشهر نفسه، وتضمنت هذه الخطة إنشاء منطقة حظر طيران جنوبي خط عرض 32 تعدلت عام 1996 إلى خط عرض 33 جنوبا بمساحة إجمالية تزيد على 150 ألف كم2، أي ثلث مساحة العراق تقريبا، وتصدت الدول الغربية الثلاث لمحاولات العراق المتكررة رفضه إنشاء هذه المنطقة.
” استناد واشنطن وحلفائها إلى القرار 688 لا يقوى دليلا على مشروعية إنشاء مناطق الحظر، لاشتمال القرار على التزام الدول الأعضاء بسيادة العراق واستقلاله السياسي ” |
ثانيا: الأساس القانوني لفرض الحظر الجوي
استندت واشنطن وحليفتاها بريطانيا وفرنسا إلى قرار مجلس الأمن رقم 688 لإنشاء مناطق الحظر في الشمال والجنوب، غير أن هذا القرار لا يقوى دليلا على فرض مثل هذا الحظر الذي اعتبره الكثير من المحللين خرقا واضحا واحتلالا لأراضي العراق ومنعه من مزاولة سيادته على أرضه، فالقرار المذكور أكد في ديباجته بالفقرة السادسة التزام جميع الدول الأعضاء تجاه سيادة العراق واستقلاله السياسي.
واستشعرت واشنطن ضعف الاستناد في إنشاء المنطقة الآمنة إلى هذا القرار، فاتخذت قرار وقف إطلاق النار رقم 687 أساسا بديلا عنه، ثم رأى البعض في الغرب أن إنشاء تلك المناطق يستند إلى مجمل القانون الدولي لحقوق الإنسان بصورة عامة، وهذا ما أكده قائد القوات البريطانية البحرية في الخليج الجنرال رايان فوريس عندما قال "إن مناطق الحظر أقيمت لأسباب إنسانية وتشارك في مراقبتها طائرات بريطانية وأميركية". كما اعتبر بعض المراقبين أن مراجعة فرنسا لسياستها تجاه هذا الحظر ومدى مشروعيته الدولية هو ما جعلها تقرر الانسحاب من هذا التحالف بعد سنوات من إنشائه.
ثالثا: الأهداف الأميركية للحظر الجوي
اكتسب استمرار حظر الطيران شمالي العراق وجنوبيه أهمية كبرى في الوقت الذي تفكر فيه إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في غزو العراق. ويمكن تحديد الأهداف العسكرية لواشنطن من هذا الحظر في النقاط التالية:
أ – حرمان القوات الجوية العراقية من 40% من سيادتها الجوية على أراضيها.
ب- استمرار حصولها بشكل دائم على معلومات مصورة عن دفاعات العراق ومدى تطوير قواته المسلحة.
ج- توفير الإنذار المطلوب عن أي تحركات عسكرية عراقية كبيرة.
د – استمرار التعاون العسكري بين القوات الجوية الأميركية مع حليفتها القوات البريطانية.
وأضاف قائد عملية المراقبة الشمالية الجنرال إدوارد أليس هدفا آخر هو إضعاف القدرة العسكرية العراقية باستمرار، ودلل على ذلك بأن العراقيين توقفوا تماما عن تشغيل أجهزة الرادار لرصد الطائرات الأميركية والبريطانية المشاركة في تنفيذ الحظر، خوفا من صواريخ "هارم" التي تسعى نحو الموجات التي تصدرها شبكات الرادار.
ويتخوف بعض المحللين من أن تؤدي مناطق الحظر هذه إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب، وهو ما يحقق بدوره سيطرة الولايات المتحدة على منابع ومخزون النفط العراقي في الشمال حيث مناطق الأكراد. إضافة إلى أن تفتيت العراق بهذه الطريقة سيمنع أي حكومة مستقبلية في بغداد من أن تشكل خطرا على جيرانها من دول الخليج أو من تهديد إسرائيل الحليف الإستراتيجي الأول لأميركا في الشرق الأوسط، كما حدث في حرب الخليج الثانية عام 1991.
رابعا: الحظر الجوي والقدرات العسكرية العراقية
اعترفت القوات العسكرية الأميركية والبريطانية المشاركة في تنفيذ الحظر الجوي على شمالي العراق وجنوبيه في أكثر من مناسبة، بأن العراقيين عززوا قدراتهم على الهرب وعرفوا الكثير عن القدرات الجوية الأميركية والبريطانية، كما أنهم طوروا دفاعاتهم ليصل مداها إلى ارتفاع الطائرات المغيرة عليهم، وهو ما شكل تهديدا جديا لطائرات التحالف الأميركي البريطاني دفع بعض المسؤولين العسكريين الأميركيين إلى أن يوصوا بإنهاء الدوريات الجوية أو تقليص عدد طلعاتها، الأمر الذي رفضه كبار المسؤولين العسكريين قائلين إن مهمة تطبيق الحظر تكتسب أهمية كبرى في الحد من العدوان العراقي.
” استغلت واشنطن منطقتي الحظر لعزل الحكومة العراقية في بغداد والاتصال بالمعارضة الكردية والشيعية وتقوية نزعتها الانفصالية ” |
خامسا: آثار الحظر الجوي على العراق
حرصت واشنطن منذ فرض الحظر الجوي شمالي العراق وجنوبيه على الاتصال الدائم بالمعارضة العراقية الكردية في الشمال والشيعية في الجنوب، وعمدت إلى تذكية روح الانفصال لديهما مستغلة التاريخ السيئ في تعامل حكومة بغداد معهما، فتوسطت بين الفصيلين الكرديين المتنافسين في الشمال وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني وقربت بينهما إلى أن شكلا معا حكومة مشتركة شمالي العراق بمركزين الأول في مدينة السليمانية معقل الاتحاد الوطني والآخر في مدينة أربيل معقل الحزب الديمقراطي. كما رعت في سبتمبر/أيلول 2002 اتفاقا يقضي بتسوية الخلافات بينهما وخاصة فيما يتعلق بتشكيل البرلمان الموحد، إلى أن عقد أولى جلساته في أكتوبر/تشرين الأول 2002 وصادقا فيه على اتفاق السلام الموقع بينهما.
وفيما يتعلق بشيعة الجنوب فقد رصد الكونغرس الأميركي 97 مليون دولار لدعم هذه المعارضة وتقويتها، ورغم نفي الشيعة صلتهم بالولايات المتحدة ورفضهم تلقي أي مساعدات منهما، فإن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الشيعي المعارض في العراق رحب بالمساعي الأميركية للتخلص من الرئيس العراقي صدام حسين.
وبهذا فإن من أشد الآثار سلبية على العراق -نتيجة الحظر الجوي وإنشاء ما سمي بالمناطق الآمنة في الشمال والجنوب والتي أدت إلى تحجيم سيطرة الحكومة المركزية في بغداد عليها- تقوية شوكة المعارضة وإحياء روح الانفصال بين صفوف الشعب العراقي الذي يشهد بطبيعته تباينا قوميا ودينيا وطائفيا كبيرا.
إضافة إلى ذلك فقد تعرض العراق لغارات جوية كثيرة قادتها طائرات التحالف التي تنفذ حظر الطيران في الشمال والجنوب، ولحق به الكثير من الخسائر العسكرية والمدنية، فقد ذكر العراق أن أكثر من 1500 عراقيا قتلوا وأصيب 1400 آخرون منذ تطبيق الحظر. وقد بلغ عدد الطلعات الجوية البريطانية والأميركية فوق العراق منذ تطبيق الحظر عام 1991 أكثر من 199541 طلعة جوية وفقا للتقرير الصادر من منظمة التفاهم العربي-البريطاني المعروفة اختصارا باسم هيئة كابو ومقرها لندن.
وختاما، فإن العديد من المراقبين والمحللين ينظرون إلى مسألة الحظر الجوي شمالي العراق وجنوبيه على أنها البداية الفعلية في معركة تمزيق الدولة العراقية وتفتيتها، ويربطون بين ما يدبر للعراق وبين الأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط وما تشهده من تفاعلات، كجزء من الترتيبات التي تسعى لإقامة نظام إقليمي جديد في المنطقة، الأمر الذي جعل البعض يطالب الدول العربية بالالتزام بما أعلنته فرادى في تصريحات عدة ومجتمعة من خلال الجامعة العربية، برفض أي محاولة لتقسيم العراق أو المساس بوحدته وسلامة أراضيه.
_______________
* قسم البحوث والدراسات، الجزيرة نت
المصادر:
1- د. عبد الحليم المحجوب، مستقبل العراق.. المتجددات والخيارات، كراسات إستراتيجية
2- د. عبد الله الأشعل، الوضع القانوني لمناطق الحظر الجوي بالعراق، الأهرام بتاريخ 10/1/1999
3- عبد المجيد فريد، الإستراتيجية الأميركية تجاه العراق.. لا تتغير، الأهرام بتاريخ 29/12/2001
4- أرشيف موقع الجزيرة نت
5- موقع المؤتمر المؤتمر الوطني العراقي
http://209.50.252.70/p_ar/news/archives/00001429.htm
6- حامد الحمداني، صفحات من تاريخ العراق الحديث http://www.safahat.150m.com/fasel1_1.htm