شعار قسم ميدان

الإعجاز العلمي بالقرآن.. حقيقة أم ترويج خاطئ للإسلام؟

استمع للتقرير

 "يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم كي نُفسِّرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها"

(مصطفى المراغي – شيخ الأزهر)

في فبراير/شباط 2008 بثت "كلير فورستير" مذيعة قناة "BBC" حلقات حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، عرضت "فورستير" مكتشفات علمية مذكورة في القرآن ولم يعرفها العالم سوى في العصر الحديث. نظريات تتصل بالطفو والحركة ودورات النبات والقصور الذاتي وحساب الكواكب وعدد المجرات والسنين الضوئية وغير ذلك من المكتشفات الحديثة، وهو ما يدعو بما لا يدع مجالا للشك -بحسب تعبير فورستير- للقطع بأن القرآن أنزله إله الكون وخالقه وأنه كلام الله حقا، إذ لا أحد غير الله يعلم هذه الحقائق قبل ألف وأربعمئة سنة!

المفارقة تكمن في أن "فورستير" لم تؤمن هي نفسها بالإسلام، ولم تُعلن شهادتها بعد درايتها بهذه المكتشفات التي بثتها على متابعيها، بيد أن العجب سيزول حين يعلم المشاهدون أن "فورستير" ما هي سوى مذيعة، عصرية الملبس، استأجرتها مؤسسة إسلامية تسمى "لا يُوجد تعارض" والتي تدعو لمحاولة التوفيق الكامل والنهائي بين المكتشفات العلمية وبين القرآن، ودعوة غير المسلمين بالمكتشفات العلمية، وأن "فورستير" تتقاضى راتبا نظير برنامجها، والذي يهدف إلى الترويج للإسلام من خلال المكتشفات العلمية، وأن نجاح برنامجها هو ما يهم "فورستير" وليس المعلومات الدينية التي تبثها فيه.

لاقت حلقات "فورستير" هجوما من علماء دين وطبيعة على حد السواء، على الرغم من الإنتاج المرئي القوي لهذه الفيديوهات، فقد وصفها على سبيل المثال د. باسل الطائي -أستاذ الفيزياء النسبية- بأنها تُفسر القرآن بمعلومات غير دقيقة علميا، وكان ذلك تعليقا على زعم البرنامج أن القرآن أخبر بالنظرية النسبية قبل أينشتاين، وذكر الطائي أن مثل هذا النوع من الدعوة إلى الإسلام ما يلبث أن يعود بالسلب على الإسلام ذاته حين تزداد قناعات الإنسان العلمية أو الدينية.

هذا الجدل حول الإعجاز العلمي في الإسلام ليس الأول من نوعه، فقضية الإعجاز العلمي هيمنت على عقول عدد من الباحثين المسلمين في القرن الماضي، وهو ما جعل تعامل البعض مع القرآن باعتباره كتابا في الجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والكيمياء والفيزياء والفلك، أكثر من كونه منهج هداية.

هذا الاهتمام بالإعجاز العلمي وتتبعه في القرآن لم يشغل مثل هذا الحيز في وعي المسلمين والمتدبرين لكتاب الله على مدى اثني عشر قرنا، حيث كان تعاملهم مع القرآن باعتباره وحي السماء والهداية الروحية والقيمية في الأرض، لا باعتباره موسوعة علمية ينبغي التنقيب في فروع العلوم التطبيقية بداخلها ودعوة غير المسلمين إليها [أ].

هذا الاهتمام والحديث المتزايد حول الإعجاز العلمي يطرح سؤالا هاما: لِمَ تضخمت فكرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في هذا القرن لهذا الحد؟! وهل لذلك اتصال بالمَدنية الأوروبية وتقديس العصر الحديث للعلم التجريبي؟ وكيف شغلت هذا الحيز الكبير في الخطاب الإسلامي المعاصر؟! وهل يمكن قبول أصول هذه الدعوة مع مُحكمات العلم أو القرآن جميعا؟!

"كانت عملية الإحياء لمدرسة محمد عبده تتم تدريجيا تحت تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي، فأدت تدريجيا إلى تفسير جديد للمفاهيم الإسلامية، فعُمران "ابن خلدون" تحول تدريجيا إلى تمدن "غيزو"، ومصلحة الفقهاء المالكيين وابن تيمية تحولت إلى منفعة "جون ستوارت ميل"، واجتماع الفقه الإسلامي تحول إلى الرأي العام في النظرية الديمقراطية، وأهل الحل والعقد تحولوا إلى أعضاء المجالس النيابة"

(ألبرت حوراني)

 ألبرت حوراني (مواقع التواصل)
ألبرت حوراني (مواقع التواصل)

في عام 1616م من الميلاد أصدرت الكنيسة مرسوما ببطلان المذهب القائل بحركة الأرض لمناقضته الكتاب المقدس، وهو ما اضطر العالم الإيطالي جاليليو لأن يُقسم أمام محكمة التفتيش بالبراءة من اكتشافه وتكذيب ما تُظهره الشياطين في تلسكوبه قائلا: "أنا جاليليو وقد بلغت السبعين من عمري، سجين راكع أمام فخامتك والكتاب المقدس بين يدي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الخاطئ الإلحادي بدوران الأرض، وأتعهد مع هذا بتبليغ محكمة التفتيش عن كل ملحد يوسوس له شيطانه بتأييد هذا الزعم المضلل!"[1].

كان هذا الجو العدائي في القارة الأوروبية هو السائد حينها، لتشهد أوروبا فيما بعد ثورة الحداثة والتي كان من نتاجها تعظيم قدر العقل والإيمان بقدرة العلم على العطاء المستمر للبشرية حتى بات كالمقدس في حدّ ذاته وحَل محل المُقدس الديني، لتشهد أوروبا بذلك تغيرا في مفاهيم العصور الوسطى للعلم والدين كليهما إلى غير رجعة؛ ومن ثم إعادة تأويل الدين ليوافق هذه المكتشفات.

وبحسب قانون ابن خلدون المضطّرد بأن "المغلوب مُولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ودينه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده"   فقد تم تبني الموقف الأوروبي في المسافة بين العلم والدين، والتي اكتست ثوب الشقاق منذ نشأة المدنية الأوروبية، حيث انتقل هذا الشقاق إلى ديار الإسلام، وكتب المستشرق والفيلسوف الفرنسي "أرنست رينان" مقالته في ذم موقف الإسلام من العلم ورأى أنه موقف متحجر مثل باقي الأديان، وهو ما دعا السيد جمال الدين الأفغاني لمناقشته في كتابه الشهير "مناظرة الإسلام والعلم"[2].

رينان وجمال الدين الأفغاني (مواقع التواصل)
رينان وجمال الدين الأفغاني (مواقع التواصل)

مع تزايد الإيمان والولع بالمكتشفات العلمية وقدرة الإنسان اللانهائية على المعرفة، أدى ذلك إلى محاولة بعض مفكري الإسلام إعادة تفسير الإسلام في ضوء الثقافة الأوروبية والتي تمثل المكتشفات العلمية جزءا أصيلا منها، وهو ما انعكس على عدد من رواد الاتجاه الذي يعود لمركزية العمل في التفسيرات، وقد مثل الشيخ"محمد عبده" أحد رواد هذا الاتجاه، حيث وسع دلالات آيات الجن -على سبيل المثال- لتشمل أنواع البكتيريا والميكروبات غير المرئية.

كانت هذه هي الحفريات الأولى لمحاولات التأليف المستقل في التفسير العلمي للقرآن الكريم والعلوم الدينية، وهو ما سيتحول مع الوقت عند أربابه من مجرد كونه تفسيرا إلى إعجاز لا يقبلون أن يناقشهم فيه أحد، ولو لم يثبت تجريبيا!

"إن الشريعة ليست علوما طبيعيّة، والقرآن ليس كتاب علم، وقد بُيّنت الإشارات العلمية بصورة إجمالية يُدركها الراسخون في العلم لأن القرآن ليس بصدد بيان هذه المواضع، وإنما هي تشير إلى عظمة العلم الإلهي غير المتناهي"

(آية الله معرفة)     

تحت وطأة العلم واستيراد مفاهيم المدنية الأوروبية؛ اقتنع عدد من المصلحين أن تطويع الدين للمكتشفات العلمية سيعزز من مكان الدين في النفوس، وقد حدا هذا بعدد من الكُتاب الإسلاميين إلى إعادة الكتابة العلمية بصورة دينية، وكان من هؤلاء أحد تلاميذ مدرسة الشيخ محمد عبده وهو الأستاذ "محمد فريد وجدي". عمل وجدي على إنشاء دائرة معارف علمية تهتم بالإسلام ومساحات التكامل بينه وبين العلوم الحديثة، وأصدر كتابه "الإسلام والعلم" والذي هدفه -بحسب وجدي- "إقامة صرح مشيد للدين الإسلامي في هذا العصر الذي اشتهر بزعزعة أركان الأديان وهدم صروحها وتقويض أساطين المعتقدات ونسف قصورها"[3]، لكن أغرب كتب وجدي في محاولة الدفاع عن الإسلام في ضوء العلم كان كتابه "السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة"، وقد بحث فيه بحوثا عن الوحي وإمكانيّته والنبوة وتصور أحوال النبي، كل ذلك بمحاولات للتدليل العلمي على النبوات من أبحاث الاتصال الروحي، وأضاف أبحاثا من العلوم الروحانية، وكان غرض وجدي عرض السيرة ببرهان يؤيده العلم، "فكل قول لا يؤيده العلم الحقيقي فهو خيالات لدى مفكري اليوم، فوجب أن تُدرس السيرة تحت ضوء العلم".

 محمد فريد وجدي (مواقع التواصل)
محمد فريد وجدي (مواقع التواصل)

في محاولة أكثر جرأة، كانت محاولة الشيخ طنطاوي جوهري، أحد شيوخ الأزهر الشريف ومن مدرسة الأستاذ محمد عبده، والذي كانت له تجربة جديدة في محاولة تفسير القرآن في ضوء مكتشفات العلم والتوفيق بين الدين والمدنية الحديثة، حيث يقول عنه تشارلز آدمز: "واحد من تلاميذه في مدرسة التوفيق بين المدنية الغربية والإسلام"[4]. وقد كان جوهري -بحسب صديقه رشيد رضا- "مغرما بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا ويثوروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي، فألف أولا كتبا صغيرة في الحث على هذه العلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسع بهذا التفسير (تفسير الجواهر) الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم".

كتب طنطاوي جوهري تفسيره الجواهر [ب]، وقد كان غرضه أن يستخرج الإشارات القرآنية التي أشار لها القرآن فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية والفنون العلمية، فتحدث في الفلك والطب والهندسة والفلاحة والموسيقى والتنويم المغناطيسي وغيرها من المعارف المختلفة، وحمّل الآيات فوق دلالتها لمحاولة التوفيق بين هذه المعارف وبين القرآن الكريم، وهو ما يعتبر تفسيرا جديدا للقرآن الكريم، مما حدا عددا من العلماء للرد عليه. ففي سنة 1346 من الهجرة أرسل الشيخ عبد الرحمن السعدي، صاحب تفسير"تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن" رسالة إلى الأستاذ رشيد رضا وطالبه بأن ينصر الإسلام ويدفع الباطل الذي ينشره صديقه طنطاوي جوهري في تفسيره، وقال عن هذه الطريقة في التفسير إنها تؤدي إلى "الذهاب لمعانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها، ويلومهم على إهمالها، وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب إهمال علمها وعملها. وَيْح من قال ذلك!". وقد أجاب رشيد رضا الشيخ السعدي بأن جوهري "ما نعرفه إلا مسلما يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع بعلوم الكون"[5]، وإنما تفسيره أقرب منه إلى إشارات قرآنية. لكن تفسير الجواهر كان بمنزلة حلقة جديدة في عالم التفسير، وإن كان أغلب العلماء الطبيعيين والشرعيين كانوا على نقد أفكاره، وهو ما ذكره شيخ الأزهر الشيخ الذهبي في كتابه "التفسير والمفسرين" قائلا: "يظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف رحمه الله لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذي سلكه في تفسيره، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلقَ قبولا لدى كثير من المثقفين"[6].

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد انسحب الحال من مجرد محاولة التفسير العلمي للآيات، وهو ما قد يُقبل إذ إن التفسير قابل للقبول والرد، إلى التحدي واعتبار أن هذا من الاكتشافات العلمية ودخوله تحت نطاق الإعجاز العلمي، وهو ما كان غريبا على العقل المسلم أن يذهب إلى أن الآيات الكونية إنما هي من إعجاز القرآن، حتى عند من أجاز التفسير العلمي للآيات من السابقين مثل الإمام الغزالي والسيوطي، فإنما أنزلوه منزلة التفسير المحتمل وليس الإعجاز القطعي.

undefined

"وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الإعجاز العلمي للقرآن الكريم"

(زغلول النجار) 

زغلول النجار، يعتبر النجار هو الأيقونة التي نقلت فكرة الإعجاز بين الناس وقربها لعموم الناس عن طريق برامجه في الفضائيات والتي بلغت المئات من البرامج المختلفة "أولو الألباب"، "الإعجاز العلمي"، "تفسير الآيات الكونية"، "الإعجاز العلمي في السنة النبوية".

النجار هو أحد الحاصلين على الدكتوراة في الجيولوجيا من جامعة "ويلز" البريطانية، وقد عمل في عدد من المؤسسات البحثية في مجالات طبقات الأرض والجيولوجيا، ثم انتقل إلى الوطن العربي ليؤسس عددا من أقسام الجيولوجيا في السعودية والكويت وغيرها من البلدان العربية. بيد أن النجار سيتحول مع الوقت من مُدرس أكاديمي إلى منافح عن القرآن من خلال المكتشفات العلمية وبرهنة صدق القرآن من خلالها، ولم يتوقف النجار عند الحقائق الكونية الثابتة [ج] مثل سابقيه من مفسري الآيات الكونية، وإنما وسع الدائرة لتشمل أي إشارة علمية ولو ظنية ما دام القرآن قد يحتمل الإشارة لها، يقول زغلول النجار: "فإننا نرى أنه لا حرج على الإطلاق في فهم الإشارات الكونية الواردة بالقرآن الكريم على ضوء المعارف العلمية المتاحة‏، حتى ولو لم تكن تلك المعارف قد ارتقت إلى مستوى الحقائق الثابتة؛‏ وذلك لأن التفسير يبقى جهدا بشريا خالصا"[7].

د.زغلول النجار (مواقع التواصل)
د.زغلول النجار (مواقع التواصل)

كان طرح النجار على الشاشة جديدا بعض الشيء، إذ إنه لم يُشر إلى الآيات الكونية في القرآن ولم يحاول استخراج الإشارات الكونية من القرآن مثل سابقيه، وإنما صَدّر حديثه عن القرآن بلغة الإعجاز، أي التحدى الجازم بصدق هذا الخبر أو ذاك، بيد أن هذا هو ما تأباه العلوم الطبيعية لأنها شديدة الظنية والنسبية في الوقت نفسه، بينما القرآن إلهي المصدر وليس في إعجازه نسبية، وهو ما تحدثت عنده مؤلفات إعجاز القرآن القديمة في اللغة مثل كتب الإعجاز للجاحظ والفراء والرُوماني والخطابي والباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم.

عُرف زغلول النجار ببرامجه الفضائية التي قدم فيها مئات الحلقات حول "الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" والتي يذكر فيها المكتشفات التي توصل إليها العلماء في المعامل ثم اكتشف المسلمون ذكرها في القرآن، وأن القرآن تحدى بها البشر قبل 1400 سنة. وجعل النجار مثل هذا العمل من مهام المسلم كلٌّ بحسب تخصصه، أي إنه -وبحسب النجار- "يُفرض على المتخصصين من أبناء المسلمين أن يفهموا القرآن -كلٌّ في حقل تخصصه- على ضوء ما تجمع له من معارف"، وقد عمل النجار مع آخرين على تأسيس عدد من المؤسسات المهتمة بالإعجاز العلمي مثل الهيئة العالمية للإعجاز العلمي.

المأخذ الأول على الدكتور زغلول النجار كان في دقة المعلومات التي يطرحها في عدد من القضايا التي يُصدّرها على أنها دلائل علمية على صحة القرآن الكريم، كان أشهرها إخبار النجار بحكاية سمعها من أحد الناس دون الرجوع لمصدر علمي بأن وكالة ناسا أقرّت بانشقاق القمر، وأن القرآن أخبر بهذا الانشقاق قبل 1400 سنة، ليخرج النجار على الناس ويحكي هذه القصة على أنها مما أيّد القرآن فيه العلم، بيد أنه وبتتبع وكالة ناسا نجد أنها لم تخبر أن القمر قد انشق، والذي غاب عن الدكتور النجار أن انشقاق القمر الوارد في القرآن هو معجزة من الله لنبيه وسط المشركين، ولا يلزم أن يبقى آثار هذا الانشقاق بعد زوال المعجزة[8].

أما الشيء الثاني الذي يقع فيه النجار والمتحدثون في الإعجاز العلمي فهو توسيع دلالات الألفاظ القرآنية حتى تشمل الدلالات العلمية الحديثة وإن اختلف المعنى، ففي قوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"، يرى النجار بأن القرآن اكتشف الذرة التي تدور حولها الإلكترونات قبل ألف سنة، بيد أن الذرة هنا ليست تلك الذرة الكيميائية أو الفيزيائية وإنما دقيق العمل كما قال الإمام الطبري في تفسيره: "ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر يرى جزاءه هنالك"، وليس الذرة بمعناها المتبادر لفهم الفيزيائي أو الكيميائي.

أما فيما يتعلق بإشكالات الدكتور زغلول النجار فيما يتصل بعلم التفسير ذاته، ومعاني حمل الآيات، فقد ناقشها وفنّدها الدكتور مساعد الطيار، أستاذ الدراسات القرآنية، في كتابه "التفسير العلمي إلى أين؟!".

"لو توصلنا إلى ظاهرة كونية على أنها حقيقة ثابتة، فإنّ رَبْطنَا لها بالقرآن، وجعلنا لها تفسيرا لآية، فإن هذا جهد ظني بشري احتمالي، وهو كأي تفسير اجتهادي آخر، ومن ادعى أن قوله هو "إعجاز علمي" فقوله يدل على خطأ علمي في فهم التفسير"

(مساعد الطيار – أستاذ الدراسات القرآنية) 

ركّز علماء الإسلام منذ القرن الثاني الهجري على بيان الإعجاز القرآني والذي كان غالبه في الجانب اللغوي، إذ كان تحدي القرآن للعرب بأن يأتوا بآية منه في الفصاحة والبلاغة والبيان والنظم، وقد كتب الجاحظ رسالته "نظم القرآن" في إعجاز القرآن اللغوي ليتبعه في ذلك عدد من أئمة الإسلام الذين تكلموا في الإعجاز القرآني، مثل الفراء والرُوماني والخطابي والباقلاني وعبد القاهر الجرجاني، واتخذت مؤلفاتهم أسماء مثل: "بيان إعجاز القرآن"، و"إعجاز القرآن"، و"دلائل الإعجاز". ولم يكن من المألوف أن يتم التطرق للإعجاز العلمي في ضوء المكتشفات العلمية، إذ إن هذا ليس مقصد القرآن الأساسي، وإن حوى إشارات إلى ذلك فإنها لا ترقى لأن تكون إعجازا، لأن العلم نسبي بينما الإعجاز القرآني مطلق، وقد كانت الجهود التي بُذلت في بيان الإعجاز القرآني عظيمة جدا، يقول د. محمد موسى الشريف: "إن كل الجهود التي بذلت في إظهار الإعجاز ما هي إلا غرفة في بحر، وقليل من كثير، وهذا فيه أعظم دليل على أن القرآن عظيم".

أما في العصر الحديث، فيُرجّح بعض الباحثين أن انتشار الإعجاز القرآني ما هو إلا من هيمنة العلم التجريبي على العقول، وهو أثر من آثار التغريب، إذ "من آثار التغريب الفكري هذه التسمية للإعجاز العلمي، فهي منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة"، لذا لا يتم التطرق لقضايا الإعجاز اللغوي بالقوة نفسها.

 أ. د. مساعد الطيار - المشرف على مركز تفسير للدراسات القرآنية (مواقع التواصل)
أ. د. مساعد الطيار – المشرف على مركز تفسير للدراسات القرآنية (مواقع التواصل)

في كتابه "الإعجاز العلمي إلى أين؟!" يتتبع د. مساعد الطيار، أستاذ الدراسات القرآنية والمشرف على مركز "تفسير"، ظاهرة الإعجاز العلمي بمقالات تقويمية تخص مصطلح الإعجاز ذاته، وطريقة السلف في التفسير، والإشكالات التي تواجه فكرة الإعجاز. فيقول الطيار بأن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله قد وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله، بيد أن "كثيرا ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلا عن علم التفسير، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلا يُحكم به القرآن، وتُؤوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات"[9].

يستطرد الطيار أن أصحاب الإعجاز العلمي لا يهتمون بالمصطلحات العلمية ومصطلحات اللغة والشريعة، وإنما يحاولون تطويع النصوص الشرعية لتوافق التجارب العلمية، "ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشا وكرسيِّا وقمرا وشمسا وكواكب ونجوما وسموات سبع، من الأرض مثلهن، إلخ. ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه، وذُكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرف في لغة القرآن ولا العرب، فحملوا ما جاء في القرآن عليها، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى الحد الذل لم يوافق حتى ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين. فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبعة السيارة، وجعل الكرسي متصلا بالمجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية، والعرش هو كل الكون. وقد ضرب الطيار في كتابه عددا من الأمثلة التي خالف فيها أصحاب الإعجاز العلمي تفسيرات علماء المسلمين السابقين للآيات بدعوى الإعجاز العلمي، مخرجين الآيات عن مدلولاتها.

يزداد الأمر سواء حين يدّعي البعض بأن الصحابة والسلف لم يكونوا على علم بمعاني هذه الآيات حتى أتت المكتشفات العلمية وأخبرت بمعانيها، إذ في ذلك تجهيل للصحابة وعلماء التفسير على مرّ القرون، يقول الطيار: "ومن ذلك قول بعضهم هناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتُفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية، وأن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه، ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم، وبقي بعض القرآن غامضا لا يُعرف حتى جاء "التقدم العلمي!" فكشف عن هذه المعاني، وهذا خطأ محض"، ولذلك يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها.

ويخلص الشيخ مساعد الطيار من هذا بأن الذي ينبغي للمشتغلين بهذا الباب ألا يُسموه إعجازا لمخالفته لمفهوم الإعجاز المتقرر عند علماء الإسلام السابقين، وأن "ينطلق الحديث عن هذه الأمور من باب بيان عظمة الله في خلقه، وإن جاءت الآيات في البحث عن عظمة الله فمجيئها على سبيل الاستشهاد لا على سبيل تقرير ما فيها من أمور متعلقة بالبحوث التجريبية"[9].

———————————————————–

الهوامش

أ) ينبغي التنبيه هنا على الفروقات بين الإخبار الغيبي الذي جاء في القرآن مثل الإخبار بهزيمة الروم، وهو ما وقع ويُعتبر من دلائل نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحة القرآن، وبين النبوءات العلمية والتي ليست مذكورة صراحة في القرآن وإنما تعتمد على اجتهادات واشتراكات لفظية فحسب.

ب) لمطالعة النقد الذي وُجّه إلى "تفسير الجواهر" راجع:
"قراءة نقدية في منهج طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر" لحازم محيي الدين
https://vb.tafsir.net/tafsir17831/#.W8GB62gzaM8

ج) أي الذي يميل العلماء إلى الجزم بصحتها، وإلا فالحقائق العلمية ظنية وقد يُكتشف خطأ تفسيرها بعد آلاف السنين مثلما حدث مع تفسير النظام البطليمي لحركة الكواكب.

______________________

المصادر

  1. الصراع بين الدين والعلم.. هل ينجح أحدهما بإلغاء الآخر؟
  2. الإسلام والعلم، مناظرة رينان والأفغاني – المجلس الأعلى للثقافة
  3. الإسلام والعلم – محمد فريد وجدي
  4. الإسلام والتجديد في مصر – تشارلز آدمز
  5. مجلة المنار – محمد رشيد رضا
  6. التفسير والمفسرون – الشيخ محمد حسين الذهبي
  7. موقف المفسرين من الآيات الكونية في القرآن الكريم – زغلول النجار
  8. هذا ما أوهمنا به زغلول النجار
  9. الإعجاز العلمي إلى أين – مساعد الطيار
المصدر : الجزيرة