شعار قسم ميدان

القابلية للانتحار.. هكذا تتسلل الأفكار الانتحارية لعقلك

ميدان - الانتحار
 اضغط للاستماع

    

بات من غير الممكن أن ننكر تفاقم ظاهرة الانتحار في العالم العربي، فحالات الانتحار لم تعد مجرّد حالات فردية فحسب، وإنما امتدّت لتشمل قطاعات مختلفة ومتباينة من المجتمع العربي، تارة كتعبير عن الاحتجاج، وتارة كنهاية مأساوية لحياة خالية من المعنى، وتارة كهروب من الشعور بالعجز أمام ألم الواقع. في بعض الحالات يُعلن المقبلون على الانتحار نيّتهم المبدئية للإقدام على قتل أنفسهم، إلى حدّ تسجيل رسائل انتحارية مصوّرة ورفعها على موقع "يوتيوب" قبل الانتحار.

 
 ورغم ذلك لا يتم السعي تجاه علاج هذه الحالات نظرا لثقافة المجتمع العربي التي لا تأخذ فكرة الانتحار على محمل الجدّ. وتُعتبر حالة طبيب الأسنان المصري شريف قمر خير مثال على ذلك، إذ إنه ترك رسالة عن أهم الأسباب والدوافع التي دفعته إلى الانتحار وقد وضعها على موقع "يوتيوب" قبل ستة أيام من انتحاره، بل إنه كتب منشورا على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك يسأل أصدقاءه عن أفضل وسيلة للانتحار(1)، ومع ذلك أخذ أصدقاؤه الرسالة على محمل الهزل والاستهتار، إلى أن فوجئ معارفه بأنه أردى نفسه قتيلا.

 

ولم تصبح حالات الانتحار في الوطن العربي مجرّد حالات فردية كما كان الحال قديما، فقد شهدت الدول العربية ارتفاعا مفاجئا في نسب الانتحار منذ الألفية الجديدة، فمثلا: بلغ عدد المنتحرين في مصر عام 2002م حوالي ألف مصري(2)، ثم تصاعد الرقم بشكل مخيف عام 2009م حيث شهدت مصر 104 ألف محاولة للانتحار نجحت فيها أكثر من 5000 حالة في إنهاء حياتها بالفعل(3). أما في الجزائر فقد ارتفعت نسبة المنتحرين من 0.74% لكل 100 ألف نسمة عام 1991م إلى 2.25% للنسبة نفسها عام 2003م ثمّ إلى 3.1% للنسبة نفسها عام 2015(4).

 

 
كيف نفهم إذن ظاهرة مثيرة للقلق كظاهرة الانتحار؟ ما طبيعة السلوك الانتحاري ومستوياته؟ وهل كل الأفكار الانتحارية يتم التعامل معها بنفس الطريقة؟ وما دورنا إزاء أصدقائنا الذين يصرّحون برغبتهم في الانتحار؟!

  

كيف تبدأ الأفكار الانتحارية؟

من الصعوبة بمكان أن نتوصل إلى نظرية شاملة وعامة لتفسير الانتحار كسلوك إنساني نظرا لتعقّد النفس البشرية من جهة ولكثرة المتغيّرات التي تؤثر فيها من جهة أخرى(5)، لكن هذا لا يمنعنا من السؤال: ما الذي يدفع شخصا ما إلى التفكير في الانتحار؟! ففي مقابلات أُجريت على 128 شخصا حاول الانتحار أقرّ 52% منهم أنهم حاولوا عبر الانتحار أن يتخلصوا من حالتهم النفسية البائسة، بينما اعترف 42% منهم أنهم حاولوا الهرب من الموقف النفسي السيئ الذي يعانون منه(6). ومع توالي الدراسات بات من المتفق عليه أن السبب الأكثر شيوعا للانتحار هو الألم النفسي(7)، العامل الذي اعتبره الباحثون جذر قرار الانتحار(8).

 

لكن تتساءل الطبيبة النفسية الفرنسية إميلي أولي: "إذا كان البشر جميعا يعانون في لحظات ما من حياتهم ألما نفسيا جرّاء مرض معضل، أو علاقات رومانسية فاشلة، أو نبذ اجتماعي، فما الذي يدفع البعض إلى الانتحار دونا عن البقية الأخرى؟"(9). يقدّم الأستاذ بقسم الدراسات العائلية راندولف ويجل الإجابة قائلا إن العوامل التي تؤدي إلى الانتحار: "مركّبة، ومتعدّدة الأبعاد، وتراكمية في طبيعتها.. وتتضمن أغلب حالات الانتحار اضطرابا نفسيا مثل الاكتئاب الحاد، أو القلق، أو تعاطي المواد المخدّرة، جنبا إلى جنب مع اليأس الشديد الذي ينشأ كنتيجة لأحداث حياتية"(10).
 

undefined

 

ولا تستقل هذه العوامل بمفردها في اتخاذ قرار الانتحار، كما يؤكد أستاذ علم النفس الأميركي جون ريتشارد(11)، إذ إنه لا الاضطراب النفسي ولا اليأس ولا ضغوط الحياة كلٌّ على حدة يؤدّون إلى الانتحار بمفردهم، ولكن عندما تجتمع هذه العوامل في وقت واحد، ويكون الألم النفسي غير محتمل، فمن الممكن أن تظهر الأفكار الانتحارية، وتتحول هذه الأفكار إلى سلوك فعلي عندما يتخطى الألم النفسي حاجز التحمل لدى الإنسان وقدرته على التعامل مع الضغوط.

  

هل الأفكار الانتحارية نوع واحد؟!

يرصد بعض الباحثين أن الانتحار إذا تم تفعيله في محيط اجتماعي معيّن فإن هذا يكسر المحظور ويعتبر "إذنا" لبقية الأفراد في المحيط أن يفكّروا في نفس الأمر(12). ويُعتبر مجرّد التفكير في الانتحار عامل خطر، وإن كان غالب مَن يفكّرون في الانتحار لا ينتحرون بالفعل(13). ولكن السؤال هنا: هل جميع الأفكار الانتحارية التي يُصرّح بها الناس تقع على مستوى واحد من الحدّة والخطورة؟

 

يقول أستاذ الطب بجامعة شيكاجو ألكس ليكرمان إنه في بعض الأحيان عندما يلوّح المرء بالانتحار فهو في الحقيقة لا يرغب في قتل نفسه بالفعل وإنما يفعل ذلك كصرخة استغاثة أو كنداء لطلب المساعدة(14). ووفقا لليكرمان لا يمتلك هذا الصنف من الناس رغبة ذاتية في الانتحار قدر ما يريدون إبلاغ معارفهم أن هناك شيئا ما خطأ بشدّة، الأمر الذي يتطلب منا التنبه إلى وعلاج الخطأ الذي يريد هؤلاء الإشارة إليه لا النظر إلى الفاعل على أنه يريد الانتحار بالفعل.

 

 
 

 
في أحيان أخرى ربّما يصرّح أحدهم برغبته (أو رغبتها) في الانتحار، لكن لا تصحب هذه الرغبة تخطيطا لكيفية الانتحار من حيث وقت الانتحار ووسيلته وكيفيته وإعداد المشهد ومراجعة الخطة، وبالتالي توصينا جمعية علم النفس الأميركية (APA) ألا نتعامل مع مثل هذه الأنواع "البسيطة" من الأفكار الانتحارية كما نتعامل مع الأفكار الانتحارية العميقة التي تصاحب الأمراض النفسية الحادّة(15).

 

القابلية للانتحار والمعنى للحياة

تتفاوت القابلية للانتحار بين الناس وفقا لمتغيّرات عدّة، وحسب أستاذ الطب النفسي فيليب كورتيت(16) يمكن اعتبار ثلاثة عوامل أساسية في مدى قوة أو ضعف القابلية للانتحار: مدى المعاناة والألم النفسي، وميكانزمات (آليات) الدفاع النفسي أمام الضغوط الحياتية، وقوّة حدّ التحمّل النفسي (Psychological Threshold).

 
أما بالنسبة للمعاناة فلا تشمل الأمراض العضوية أو الألم الجسدي فحسب، وإنما تشمل جوانب أخرى كذلك، على سبيل المثال تذكر الطبيبة النفسية الفرنسية إميلي أولي أن الألم الاجتماعي مكوّن أساسي من دوافع الانتحار، ويشمل الألم الاجتماعي فقدان الشعور بالانتماء، وغياب التقدير الذاتي (Self-esteem)، وعدم الشعور بأهمية الوجود.

 

أمّا ميكانزمات الدفاع النفسي، ففي كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى" يوضح لنا عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل أن النفس البشرية لا تستطيع أن تحيا بشكل سليم أمام القسوة والضغوط التي تتعرض لها إلّا إذا طوّرت النفس آليات دفاعية تستجيب من خلالها لهذه الضغوط لتعطي مبررا وطريقا للإنسان ليتعامل مع هذه الضغوط(17).

 

الدين يؤثر في سلوكيات ومعتقدات الناس وخبراتهم مع الآلام والأمراض، بالإضافة إلى أنه يعطي للناس المعنى والقدرة على التعامل مع المشكلات النفسية
الدين يؤثر في سلوكيات ومعتقدات الناس وخبراتهم مع الآلام والأمراض، بالإضافة إلى أنه يعطي للناس المعنى والقدرة على التعامل مع المشكلات النفسية
 

وهو ما مكّنه من علاج الأزمات النفسية بما سمّاه العلاج بالمعنى، لأن حسب فرانكل فإن إحدى كبرى أزمات المقبلين على الانتحار هو فقدان المعنى في حياتهم. يشير أستاذ علم النفس أنتوني مارسيلا إلى مركزية المعنى في رحلة حياة المرء منا قائلا: "هؤلاء الذين يفتقدون إلى المعنى في حياتهم لا يكملون حياتهم" ثمّ يؤكد: "إن غياب المعنى يؤدي إلى اليأس، والاغتراب، والانتحار"، ويضيف: "يبدو لي أن كثيرا من المشقّات والاضطرابات والأمراض في زمننا مرتبطة بغياب المعنى وبغياب البحث عن المعنى"(18).

 

هل يمكن أن يكون الدين وقاية وعلاجا ضد الانتحار؟

وفقا لأستاذة علم النفس بجامعة جنيف أولفا ماندهوج فإن الدين "يؤثر في سلوكيات ومعتقدات الناس وخبراتهم مع الآلام والأمراض، بالإضافة إلى أنه يعطي للناس المعنى والقدرة على التعامل مع المشكلات النفسية". وتشير أولفا إلى أهمية اعتبار الدين في العملية العلاجية لذوي الأفكار الانتحارية قائلة: "في الحالات التي تُقدم على الانتحار ينبغي على الدين أن يكون جزءا من العلاج، لأن الدين يتناول مسائل أخلاقية ورؤى لما بعد الموت، كما أنه يوفر للإنسان المعنى والأمل والغاية في الحياة، في مقابل الشعور بالفراغ والضياع وفقدان المعنى الذي يعاني منه أغلب المقدمين على الانتحار"(19).

 

ويؤكد عالم الاجتماع المرموق الفرنسي إميل دوركايم هذا الدور المهم للدين في توفير المعنى والغاية والقدرة على تحمّل الآلام والمصاعب، ويتحدث -على سبيل المثال- عن سبب ندرة حالات الانتحار في المجتمعات الإسلامية قديما قائلا إن: "الإنسان في التصوّر الإسلامي كما يقول نبيهم محمد (صلى الله عليه وسلم) لا يموت إلا بإرادة الله، وطبقا للكتاب [الأجَل] الذي يُحدد نهايته، ويقول: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}، والواقع أنه ما من شيء أشد تعارضا مع الروح العامة للحضارة المحمدّية من الانتحار". ثمّ يشرح دوركايم سبب هذا التعارض قائلا: "لأن الفضيلة التي تسمو على جميع الفضائل الأخرى [في التصوّر الإسلامي] هي الخضوع المطلق للإرادة الإلهية، والاستسلام الطيّع الذي يجعل الإنسان يصبر على كل ما أصابه. وهكذا فإن الانتحار بوصفه عصيانا وتمردّا لم يكن من الممكن إلا أن يكون إخلالا فادحا بالواجب الأساسي للإنسان في الحياة"(20).

 

التوعية بمسألة الانتحار

undefined

يبدو إذن أن التفكير في الانتحار، أو الإعلان عنه، أو الشروع فيه، هي مستويات معقدة تحمل مضامين عميقة في نفسية حامليها، فالميول الانتحارية لا تظهر بشكل فجائي وإنما هي اجتماع لعدة عوامل، منها الأمراض النفسية، ومنها الشعور الحادّ باليأس والعجز، ومنها فقدان المعنى والأمل والشعور المطلق بالفراغ واللاشيء.
 

وتُوصي جمعية علم النفس الأميركية(21) أفراد العائلات والمقرّبين من ذوي الميول الانتحارية أن يتعلّموا ماهية الأفكار الانتحارية، وتشير إلى ضرورة نشر الوعي بأن الاضطرابات النفسية هي أمراض حقيقية تحتاج إلى برنامج وخطط علاجية ومتابعة مع أطباء نفسيين، وتنقد في الوقت ذاته إهمال الأسر والأصدقاء للاضطرابات النفسية بدعوى أنها عوارض مؤقتة.

 

كذلك تشير الجمعية(22) إلى خطأ المفهوم الشائع بأن مَن يُعلن رغبته في الانتحار هو مجرد شخص يريد لفت الانتباه فحسب، وتقول إنه من المهم توعية أفراد العائلة والأصدقاء كيفية الاستجابة للأفكار الانتحارية بشكل إيجابي وصحي ينعكس بشكل سليم على نفسية المقبل على الانتحار، حتى لا تنتهي أفكاره بالمأساة وتضيع حياته.

المصدر : الجزيرة