من بيروت إلى رام الله.. قصة مطاردة "الأشباح" بين شارون وعرفات

(FILES) A picture provided by the Israeli Government Press Office (GPO) dated 21 October 1998 shows Palestinian leader Yasser Arafat passing Israeli Prime Minister Ariel Sharon during the Wye River Peace talks in Wye Mills, MD. Palestinian leader Yasser Arafat was Thursday "brain dead" and breathing only thanks to artificial life support systems, a French medical source said 04 November 2004 after conflicting reports as to whether he was alive or dead. AFP PHOTO/GPO/AVI OHAYON (Photo by AVI OHAYON / GPO FILES / AFP)
صورة طولية داخلية خاصة بالنماذج الطويلة يمنع استخدامها بالمقالات او الأخبار
الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون خلال محادثات السلام "واي ريفر" في أكتوبر/تشرين الأول 1998 (الفرنسية)
صورة طولية داخلية خاصة بالنماذج الطويلة يمنع استخدامها بالمقالات او الأخبار (REUTERS)

بدا كل شيء جاهزا بالملعب الأولمبي في بيروت مساء الأول من يناير/ كانون الأول 1982 لتنفيذ واحدة من أكثر عمليات الموساد عنفا ودموية لاغتيال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات () ومعظم قيادات منظمة التحرير الفلسطينية. في اللحظة الأخيرة ألغى رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن (1977-1983) العملية التي خطط لها وزير دفاعه أرييل شارون (1928-2014).

قضت العملية التي أطلق عليها الاسم الرمزي "أولمبيا 2" -نسبة إلى مطعم شهير في تل أبيب- بزرع كمية ضخمة من القنابل يتم التحكم فيها عن بعد تحت منصة لكبار الشخصيات في ملعب بيروت، حيث كانت المنظمة تزمع الاحتفال بذكرى تأسيسها بحضور عدد كبير من قياداتها وضيوفها، بعضهم دبلوماسيون أجانب.

كانت الخطة الإسرائيلية الممعنة في الدموية تقضي أيضا بإحاطة الملعب وطرق الخروج بسيارات مفخخة ومتفجرات لقتل من ينجو من الانفجار الرئيسي، وفق ما ورد في كتاب "انهض واقتل أولا.. التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية المستهدفة" الصادر عام 2018 للصحفي رونين برغمان، الذي يعد تسريبا "منضبطا" لعمليات الموساد.

عُدّلت خطة "أولمبيا 2" عن أخرى لا تقل دموية سميت "أولمبيا 1"، وقضت أيضا بوضع شاحنات مفخخة محملة بنحو طنين من المتفجرات حول مسرح في شرق بيروت، حيث كان من المفترض أن تقيم منظمة التحرير الفلسطينية مأدبة عشاء احتفالية أواخر ديسمبر/كانون الأول 1982، وكان من شأن الانفجار الهائل أن يقضي على عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بأكملها، وفق المخطط.

اعتمدت إسرائيل في ذلك الوقت على وحداتها الاستخباراتية "أمان" والموساد، التي كانت الذراع الطويلة لتنفيذ عملياتها، وعلى جيش من العملاء والمتعاونين خصوصا من منظمة أنشأها الموساد في لبنان باسم "جبهة تحرير لبنان من الأجانب" حيث كانت تتولى زرع الفوضى وتفخيخ كل شيء من السيارات إلى الدراجات النارية"، وفق رونين برغمان.

ISRAEL - OCTOBER 1, 1955: (ISRAEL OUT) In this handout from the Israeli Governmental Press Office (GPO), Israeli army officer Tamir Messer, left, converses with Defense Minister Ariel Sharon, center, and Prime Minister Menahem Begin after the army's battle with Palestinian gunmen June 7, 1982 at Beaufort Castle in southern Lebanon. (Photo by GPO via Getty Images)
شارون (وسط) ومناحيم بيغن (يمين) خلال غزو لبنان في السابع من يونيو/حزيران 1982(غيتي)

"اقتلوهم جميعا"

كانت الاغتيالات المستهدفة خطة رئيسية في صلب العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وقد استهدف الموساد بالتصفية عشرات القادة والناشطين من مختلف التنظيمات الفلسطينية ولم تستثن المفكرين والأدباء والفنانين، كما تعرض "الختيار" نفسه إلى محاولات اغتيال أعوام 1967 و1968 و1973.

عام 1974، حذف الرجل الذي اكتسب سمعة دولية -خصوصا بعد خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤقتا من لوائح الاغتيالات بعد ضغوط أميركية. يتحدث عرفات نفسه عن تعرضه لـ 14 عملية اغتيال على الأقل نجا منها جميعا، بينما استشهد العشرات من رفاقه وكبار قادة فتح والفصائل الفلسطينية الأخرى بعمليات اغتيال غادرة.

شكلت عملية نهاريا التي نفذها فدائيون فلسطينيون في 22 أبريل/نيسان لعام 1979 ذريعة جديدة لتوسيع خطة التصفيات، إذ أصدر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي -آنذاك- رفائيل إيتان، تعليمات إلى القائد العسكري لمنطقة الشمال أفيغدور بن غال تقضي بقتل جميع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قائلا: "اقتلوهم جميعا".

وي عام 1980، بات مئير داغان قائد منطقة جنوب لبنان (تولى رئاسة الموساد منذ عام 2002)، مسؤولا عن تنفيذ التعليمات الجديدة، بينما كان شارون، الذي أصبح وزيرا للدفاع عام 1981، بنزعته الدموية من أكبر المتحمسين لتصفية القيادات الفلسطينية، وجعل من عرفات هدفا شخصيا له، بل كان يضمر اقتلاع منظمة التحرير من لبنان عبر حرب واسعة.

اعتقد شارون أن تصفية ياسر عرفات برمزيته وقدراته القيادية وشخصيته الكارزمية ستمثل ضربة قاسية للقضية الفلسطينية وللكفاح المسلح والوجود الفلسطيني في لبنان، فالرجل الذي بات نجما حتى في الإعلام الغربي، اكتسب قدرة هائلة على التأثير، وأثبت مهارة على المستوى السياسي أو الإعلامي.

لم تنفذ خطة "أولمبيا 2" نتيجة خلافات داخلية وتحفظ مناحيم بيغن وتخوفات كان أهمها إمكانية مقتل سفير الاتحاد السوفياتي في لبنان آنذاك ألكسندر سولداتوف في العملية، وما قد يجره ذلك من غضب وعواقب خطيرة على إسرائيل من دولة عظمى.

لاحقا، يبدي مئير داغان أسفه لعدم إتمام تلك "المجزرة" حيث يقول: "لو سمحوا لنا بشطب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لكنا وفّرنا على أنفسنا حرب لبنان التي وقعت بعد ستة أشهر، كما وفّرنا على أنفسنا عددا لا يحصى من المشاكل التي أعقبت ذلك".

LEBANON - JUNE 21: Yasser Arafat organized the resistance in besieged area by Israeli Army in Beirut, Lebanon on June 21, 1982. (Photo by Laurent MAOUS/Gamma-Rapho via Getty Images)
ياسر عرفات (يسار) حاملا سلاحه في بيروت عام 1982(غيتي)

"البلدوزر" والسمكة المالحة

كان " البلدوزر" -الاسم الذي أطلق على شارون في إسرائيل- مصمما "بشكل جنوني" على اغتيال عرفات، حسب الكاتب رونين بيرغمان، معتقدا أن العملية "ستغير مسار تاريخ الشرق الأوسط".

يقول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في إحدى لقاءاته، إن أرييل شارون اعترف بتدبير 14 محاولة لاغتياله حتى 1982، حصلت معظمها في بيروت، بخلاف محاولات أخرى كثيرة جرت لاحقا.

ويذكر بيرغمان في كتابه "انهض واقتل أولا" أن وزير الدفاع شارون أقال قائد المنطقة الشمالية (جبهة لبنان) أفيغدور بن غال في ديسمبر/كانون الأول 1981، "فذلك الذي كان يخطط لقتل العشرات من القيادات الفلسطينية وشن حربا لا هوادة فيها ضد الفلسطينيين في لبنان، كان في نظر شارون طيب القلب ويفتقد للرؤية الجذرية"، وفق تعبيره.

جاءت الإقالة أيضا ضمن خطة مضمرة من شارون لغزو شامل للبنان من أجل القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما حصل في السادس من يونيو/حزيران 1982. لكن عرفات لم يكن هدفا سهلا، فقد اكتسب براعة فائقة في التخفي، وغريزة أمنية قوية ومرونة في الحركة، مكنته من تفادي مصير الكثير من القيادات المقربة منه.

بأوامر من شارون، شكل كل من إيتان ومئير داغان، فرقة خاصة من جنود وحدة "سيريات ميتكال" بقيادة المقدم أوزي دايان، وكانت مهمتها العثور على عرفات في بيروت واغتياله بأي ثمن، وأطلق على العملية اسم "السمكة المالحة" (التسمية التي أطلقت على عرفات)، وشاركت فيها أيضا وحدة التنصت في المخابرات العسكرية (أمان) وجيش من المخبرين في بيروت.

استطاعت وحدة "سيريت متكال"، بمساعدة عملاء الموساد على الأرض، وعبر التنصت على اتصالات منظمة التحرير الفلسطينية واعتراض وتعقب مكالمات بعض مرافقي عرفات، الحصول على معلومات عن الأماكن التي كان يفترض أن يكون فيها في بيروت المحاصرة، واستهدفته عدة مرات.

باءت محاولات عديدة لاغتيال "الختيار" بالفشل، بعضها بشكل لا يصدق بحسب أوزي دايان: "إذ تمكن عرفات من النجاة مرة تلو الأخرى". ويورد رونين برغمان في كتابه أن وحدة "سيريت ميتكال" التقطت في إحدى المرات مكالمة من عرفات نفسه، فأُرسلت مقاتلتان لقصف المبنى المكون من 6 طوابق في بيروت الغربية مصدر المكالمة، وبعد أن سوّي المبنى بالأرض، اتضح أن عرفات كان قد غادره قبل ثوان قليلة.

كانت وحدة "سيريت متكال" وفريق عملية "السمكة المالحة" محبطين من الإفلات المستمر لهدفها "الأغلى" في بيروت، فقد أدرك "أبو عمار" أن القصف المتكرر لمواقع كان فيها أمر مخطط وممنهج، فاتخذ إجراءات أمنية أكثر صرامة، وغير نمط حركته وأماكنه باستمرار، كما بات يحدد عدة اجتماعات في آن واحد وينثر المعلومات بشأنها على مساعديه للاشتباه بأن يكون أحدهم عميلا.

ويقول رونين بيرغمان إن يأس فريق وحدة "السمكة المالحة" بعد فشل الكثير من العمليات والأفكار "لاصطياد" عرفات قادهم إلى تغيير تكتيكاتهم، بما فيها ملاحقة مجموعة من القتلة المحترفين لـ3 صحفيين إسرائيليين كانوا سيجرون مقابلة مع عرفات في بيروت الغربية (الصحفي يوري أفنيري والمراسل ساريت ييشاي والمصور يدعى أنات سارغوستي)، لكن عرفات وفريقه الأمني نفذوا خطة تمويه وخداع محكمة جعلت قتلة وحدة "السمكة المالحة" يفقدون آثار الصحفيين الثلاثة في أزقة بيروت ومتاهاتها.

The Palestine Liberation Organization (PLO) chairman Yasser Arafat attends a ceremony marking the end of a military training, August 17, 1970. Yasser Arafat founded the Palestine Liberation Movement or Fatah in Kuwait in 1959 and gained control over the PLO in 1969. (Photo by AFP)
ياسر عرفات اكتسب قدرة فائقة على كشف خطط الاغتيال ومرونة في الحركة والتخفي (الفرنسية)

صيد "السمكة الذهبية"

رغم محاولات مستميتة دامت أشهرا، لم يعثر للسمكة المالحة (نسبة إلى عرفات) على أثر، كان شارون شديد الحنق حين يظهر عرفات بين مقاتليه في بيروت حاملا السلاح ويستقبل ضيوفا ويدلي بتصريحات لوسائل الإعلام العالمية دون أن ترصده أجهزة إسرائيلية كثيرة تسعى وراءه، فأوعز لاستهدافه بأي طريقة كانت، وتغيرت عملية استهدافه من "السمكة المالحة" إلى "السمكة الذهبية".

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1982، وبناء على معلومات من الموساد بوجود عرفات في طائرة مدنية متجهة من العاصمة اليونانية أثينا إلى القاهرة، أصدر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي (رفائيل إيتان في ذلك الوقت) أمرا بإسقاطها، وأقلعت طائرتان من طراز "إف-15" لتنفيذ المهمة قبل أن يتبين عدم وجود عرفات ضمن ركابها، وألغيت العملية في اللحظة الأخيرة.

كان على متن تلك الطائرة أكثر من 30 طفلا أصيبوا في مجزرة صبرا وشاتيلا وممرضين وأعضاء من الهلال الأحمر الفلسطيني، يشير رونين بيرغمان إلى أن "شارون قرر إسقاط تلك الطائرة فوق المياه الدولية رغم علمه بطبيعة ركابها في منطقة لا تغطيها رادارات أي بلد، وفضّل أن يتم ذلك فوق المياه العميقة حتى يصعب تحديد سبب تحطمها والوصول إلى حطامها".

اعتبر شارون أن الطائرات المدنية التي تقل عرفات هدفا مشروعا دائما، وفي الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني 1982 ويناير/كانون الثاني 1983، أقلعت المقاتلات الإسرائيلية 5 مرات على الأقل بأوامر من شارون، لإسقاط طائرات كان يفترض أن عرفات على متنها، وألغيت العمليات في آخر مراحلها، بحسب بيرغمان.

الرئيس الراحل ياسر عرفات يرفع يديه بعلامة النصر في مقر السلطة برام الله (رويترز)

بين تونس ورام الله

في السادس من يونيو/حزيران 1982، اجتاحت إسرائيل  لبنان ضمن عملية "سلامة الجليل"، للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وبنيتها في لبنان. ومع صمود "أسطوري"، رغم المجازر الإسرائيلية المروعة، بينها "صبرا وشاتيلا"، خرج عرفات ومعظم قيادات المنظمة من بيروت إلى تونس في 30 أغسطس/آب 1982.

بقي عرفات وقادة المنظمة الكبار هدفا دائما لإسرائيل أينما كانوا -رغم خروج شارون من وزارة الدفاع- ففي غرة أكتوبر/تشرين الأول 1985 هاجمت 6 مقاتلات إسرائيلية اجتماعا مفترضا للقيادات بمقر منظمة التحرير الفلسطينية في منطقة "حمام الشط" بالضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية، واستشهد 65 شخصا وجرح 100 آخرون معظمهم من الفلسطينيين.

لم تعلم أجهزة الأمن الإسرائيلية بتأجيل الاجتماع، بسبب تعذر بعض حضور قيادات المنظمة من الخارج إلى تونس. ومرة أخرى نجا ياسرعرفات من الاغتيال المستهدف، لكن الموساد الإسرائيلي تمكن من اغتيال قادة كبار مثل خليل الوزير (أبو جهاد) في 16 أبريل/نيسان 1988، وصلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول)، وفخري العمري (أبو محمد) في 14 يناير/ كانون الثاني 1991‎ في العاصمة التونسية.

توقفت محاولات اغتيال عرفات بداية التسعينيات وبعيد اتفاق أوسلو بعد ضغوط اميركية، لكن شارون لم يتوقف في التفكير في اغتيال غريمه لعقود، خصوصا بعد تسلمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية (2001-2006). وكان اندلاع الانتفاضة (2000-2005)، ودور عرفات فيها السبب والذريعة.

أضمر شارون مخطط اغتيال عرفات ببطء، وهو محاصر في مقر السلطة برام الله من دون إثارة أي شبهات ودون ترك أي بصمات، حسب الكاتب رونين برغمان، وهو ما يؤكده بسام أبو شريف مستشار الرئيس الراحل في كتابه "السمك المالح" (دار بيسان الطبعة الأولى 2021) مشيرا إلى أن أن شارون قرر تصفية عرفات عام 2000 متجاوزا التعليمات الأميركية، وأشار إلى أنه حاول تحذير عرفات من خطة لاغتياله "بطريقة خبيثة ومتخفية وخسيسة".

رحل ياسر عرفات يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، وتشير معطيات كثيرة إلى أن حصاره بالمقاطعة في رام الله كان تمهيدا من شارون لتصفيته سياسيا ثم جسديا، وكان صراعه المفاجئ مع مرض غامض ناجم عن سم أو مادة إشعاعية يحمل بصمات شارون، الذي لم يستطع تصفية "الختيار" خلال عقود من المطاردة أثناء الحرب من بيروت إلى تونس وظفر به وحيدا في ظل "سلام ملتبس" في رام الله.

المصدر : الجزيرة