أول مديرة إقليمية للصحة العالمية تحاور "الجزيرة نت" بعد 100 يوم في المنصب
عادة ما يكون الصحفي مشغولا في الفترات الأولى من تقلد أي مسؤول لمنصبه، باستشراف رؤيته لمعالجة تحديات الحاضر، وخططه المستقبلية التي يسعى من خلالها لترك بصمة تشير إلى إنجازات تحققت إبان توليه المسؤولية.
ولكن مع الطبيبة السعودية حنان بلخي المدير الإقليمي الجديد لشرق المتوسط بمنظمة الصحة العالمية يبدو الوضع مختلفا، فقبل استشراف رؤيتها الفنية في القضايا الصحية التي تهم الإقليم، سيكون من الصعب تجاهل أنها أول سيدة تتقلد هذا المنصب الرفيع، وهو ما يفرض العديد من التساؤلات عن تمكين المرأة في مجال العلوم والصحة.
وخلال مقابلة خاصة مع "الجزيرة نت" بعد مرور 100 يوم على تقلدها المنصب، كان هذا الجانب الاجتماعي حاضرا، إلى جانب السياق الزمني لتقلدها هذه المسؤولية، وما يفرضه هذا السياق من تحديات كبيرة تتعلق بالتعامل مع طارئة صحية غير مسبوقة في قطاع غزة، وأنظمة صحية تسعى للتعافي من تبعات جائحة "كوفيد 19"، وتحذيرات دائمة من وباء قادم سُمي "الوباء إكس".
وتحدثت الدكتورة بلخي باستفاضة عن كل هذه القضايا، كما تحدثت أيضا عن طموحاتها وخططها المستقبلية.. وإلى نص الحوار.
- بعد تعيينك مديرة إقليمية لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، وأنت أول سيدة تتولى هذا المنصب، هل تَرَيْن أن الشكوى الدائمة للسيدات في مجال الصحة والعلوم من عدم وجود المساواة لم يعد لها وجود؟
أنا أعتبر انتخابي وتقلُّدي منصب المدير الإقليمي شرفا كبيرا لي، وهو خطوة جيدة في طريق ترقِّي السيدات وحصولهن على ما هن أهلٌ له في مجال الصحة والعلوم، بعد أن أثبتن نبوغا وتميزا على الصعيد الوطني في معظم بلدان الإقليم إن لم يكن كلها، وخارجه كذلك. ولكن هذا لا يعني بأي حال أن مسألة عدم المساواة في هذا المجال انتهت، فهناك العشرات بل المئات اللاتي يحق لهن الحصول على فرص متساوية في قيادة العمل الصحي والعلمي، دون أن تقف اعتبارات النوع وغيره حائلا وعائقا، وآمُل أن يأتي قريبا اليومُ الذي تستفيد فيه الدول والمجتمعات من الطاقات الخلّاقة للمرأة في كل المجالات بعد أن فُتحت لها مجالات التعليم والتدريب والعمل والإنتاج.
خطوات التمكين
- يرى البعض أن ما تأملين في تحقيقه بات واقعا بشكل كبير في المملكة العربية السعودية، بدليل ترشيح المملكة لك، ومن ثَم فوزك بالمنصب، وهذا يعكس في رأيهم ترجمة لتغيير حقيقي في فِكر المملكة نحو تمكين المرأة، فإلى أي مدى تتفقين مع هذه الرؤية؟
أقول بكل صدق: إن دعم المملكة لي لم يبدأ من الترشح لهذا المنصب، بل كان تتويجا لدعمها المستمر ولما تبذله من جهود، لم تكن لي وحدي، بل شملت المرأة السعودية جميعا في كل المجالات. لقد آمَنت المملكة بأهمية تعليم الفتيات، وفتحت لهن المجال، وأنشأت الكليات والجامعات، وأرسلتهن للدراسة في الخارج للوصول إلى أعلى مستويات التعليم، فكان لكل ذلك نتائج رائعة وثمار طيبة.
- أرى أنك تركزين على التعليم، فهل هناك خطوات أخرى يمكن اتخاذها لتحسين تمثيل المرأة في الأدوار القيادية داخل المنظمات العلمية والصحية؟
كما ذكرتُ سابقًا، تبدأ أُولَى الخطوات من التوسع في تعليم المرأة، وفتْح آفاق أرحب لالتحاقها بالمجالات التي كانت حكرا على الرجل فقط، ثم مساعدتها على تخطِّي العقبات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تُحجِّم دورها، ثم منْحها الفرص المختلفة للتدريب والتطور والترقي، وتوسيع قاعدة التحاق النساء والفتيات بالعمل في الهيئات العلمية والمنظمات الصحية. كل ذلك من شأنه أن يُعظِّم فُرَص المرأة في تقلُّد المناصب القيادية، واسمح لي أن أقول إن الكثير من هذه الأمور أراها تحدث الآن، ولكن بنِسَب ومستويات متفاوتة.
- وما هي طموحاتك خلال مدة توليك للمنصب؟
طموحاتي لهذا الإقليم وسكانه لا حدود لها، لكنها تتمحور حول هدف رئيسي ألا وهو تمكين كل فرد في الإقليم من التمتع بأفضل مستوى صحي يمكن بلوغه. وهو كما ترون هدف طَموح يتطلب تخطيطًا علميًّا وعملًا دَؤوبًا وتضامنًا وشراكةً من جميع المعنيين.
وفي اعتقادي أن نقطة البداية لتحقيق هذا الهدف هي الربط بين الصحة واقتصاد البلدان، بمعنى وجود نسبة وتناسب بين الموازنة العامة للدولة وموازنة القطاع الصحي فيها، فزيادة الإنفاق الصحي هو أفضل استثمار يمكن لدولنا القيام به، وقد أثبتت التجارب والخبرات والدراسات العلمية أن عائدات الاستثمار في القطاع الصحي عالية المردود وتتجاوز القطاع الصحي لتشمل كافة المجالات.
ويرتبط بهذه النقطة دمج القطاع الخاص مع القطاع العام في العمل الصحي في إطار التخطيط العلمي، وبناء الشراكات، وإرساء القواعد المنظمة، وبناء القدرات، ووضع جدول أعمال مشترك، بما يضمن تحويل القطاع الصحي لقطاع منتج قادر على تدبير موارده وتحقيق الربح، وفي الوقت نفسه يضمن أفضل مستوى من الخدمات الصحية للسكان.
- وما هي المجالات ذات الأولوية التي ستركزين عليها لتحقيق هذا الهدف؟
هناك ثلاث أولويات أو مبادرات رئيسية كنتُ قد أعلنتها ضمن برنامجي الانتخابي، وازددتُ يقينًا بحتمية العمل من أجل تحقيقها بعد مُضيِّ أول 100 يوم من ولايتي، والتي أمضيتُ جانبًا كبيرًا منها في زيارات على أرض الواقع لتسعة بلدان من إجمالي 22 من بلدان ومناطق الإقليم تشهد أوضاعًا ذات خصوصية واضحة.
وهذه المبادرات الرئيسية الثلاث هي:
- ضمان الإتاحة وسلاسل الإمداد المُنصِفة، فأنا أوقن أن الاستثمار في إتاحة المنتجات الطبية عالية الجودة هي خطوة حاسمة نحو سد الفجوة القائمة حالياً في إتاحة الرعاية الصحية في إقليم شرق المتوسط. وكما هو ملموس، هناك تحديات عديدة مثل ضعف نظم الحوكمة ونفاد المخزون على نحو متكرر وغيرها من التحديات التي تعرقل وصول الخدمات الصحية لمن يحتاجونها في الإقليم. وهذه المبادرة تهدف إلى تأمين وصول سريع وعادل للأدوية واللقاحات المنقذة للحياة إلى الجميع، بما في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً وأقل قدرة مالية. وسبيلنا إلى ذلك هو العمل مع البلدان من أجل تحسين نظم شراء الأدوية واللقاحات واللوازم الطبية المختلفة، وتدعيم سلسلة التوريدات، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتطوير الإنتاج المحلي، وتعزيز القواعد التشغيلية المنظمة.
- الاستثمار في قوى عاملة صحية قادرة على الصمود، فقد كشفت الجوائح والأوبئة المختلفة وخاصة كوفيد 19، التحديات الملحة المتعلقة بالعمالة الصحية في الإقليم، فلدى بلداننا نقص في القوى العاملة الصحية، وسوف يصل هذا النقص إلى 2.1 مليون طبيب وممرضة وقابلة بحلول 2030، أي 20% من النقص العالمي ما لم نبادر بعمل جاد في هذا الصدد. وهناك 6 من دول الإقليم على قائمة الدول التي تواجه أكثر التحديات إلحاحاً فيما يتعلق بالعمالة الصحية اللازمة للمضي قدماً على طريق التغطية الصحية الشاملة، وتهدف هذه المبادرة إلى ضمان وجود عمالة صحية عالية الكفاءة وملائمة ومستدامة، ويتطلب ذلك الاستثمار في إعداد الكوادر الطبية في مجال الرعاية الصحية الأولية، وبناء القدرات المؤسسية، وتعزيز أوجه التعاون والشراكة.
- تسريع وتيرة مكافحة تعاطي مواد الإدمان، فالاستثمار في المعالجة الفعالة لاضطرابات استخدام المواد المسببة للإدمان له عوائد عظيمة على عدة مستويات، فمقابل كل دولار يخصص لدعم هذه الأولوية هناك عوائد مرتفعة تتراوح بين 4 و12 دولارا. والمؤسف أن تبلغ نسبة انتشار الاستخدام غير القانوني للمواد المسببة للإدمان 6.7%، بينما تظل معدلات التغطية العلاجية من هذه الاضطرابات محدودة للغاية، وتهدف المبادرة إلى خفض المراضة والوفاة والتكلفة الاجتماعية المرتبطة باضطراب استخدام المواد المسببة للإدمان من خلال تطبيق حزمة من تدخلات الصحة العامة المسندة بالأدلة والبراهين.
- وكيف تضمنين تنفيذ هذه المبادرات في ظل التحديات التي يواجهها الإقليم؟
أود أن أوضح أن تفعيل المبادرات الثلاث ونجاحها يستلزمان مشاركة فعالة من الدول الأعضاء ووجود شراكات قوية لدعمها. وقد اغتنمنا مناسبة انعقاد الدورة الأخيرة لجمعية الصحة العامة الشهر الماضي وعقدنا اجتماعاً للشركاء الدوليين والإقليميين، استعرضنا فيه المبادرات الثلاث وسبل المضي قدماً لتفعيلها على أرض الواقع.
ونحن مدركون للتحديات التي يمر بها إقليمنا وعلى رأسها الأعداد الهائلة للنازحين جراء الصراعات والطوارئ الصحية، فضلاً عن الحاجة الماسة لتطوير القدرات الابتكارية في التعامل مع المشكلات طويلة الأمد والملحة على السواء، والتي تؤثر سلباً على فرص تحقيق الأهداف الصحية العالمية، لذلك نضع في اعتبارنا تحقيق الاستفادة القصوى من مكاتبنا القُطرية في الإقليم والبالغ عددها 21 مكتباً قُطرياً، لتعزيز الشراكات وتطوير القدرة على الصمود في التعامل مع الأوضاع الجيوسياسية التي يمر بها الكثير من بلدان الإقليم، وصولاً إلى هدفنا الطموح وتعزيز فرص النجاح لهذه المبادرات.
المرأة والرعاية الصحية
- بوصفك أول سيدة تتقلد هذا المنصب، هل في جعبتك مبادرات لتعزيز مكانة المرأة في الرعاية الصحية؟
مما يُؤسَف له أن المرأة هي الأكثر استهدافًا وعرضةً للخطر في الظروف الاستثنائية من صراعات وحروب وكوارث طبيعية وسائر أشكال الطوارئ، وحتى في الظروف العادية تشير المعطيات إلى أن النساء هن الأكثر فقرًا في المجتمعات الفقيرة، والأقل فرصًا للحصول على الخدمات الصحية، والأشد تأثرًا بالمحدِّدات الاجتماعية للصحة. فنحن لدينا برامج لتعزيز صحة المرأة والفتاة، مثل البرامج المعنية بالصحة الإنجابية وصحة الأمهات والمراهقات، ولدينا كذلك مبادرات تركز على الأمراض التي تصيب النساء خاصة، مثل مكافحة سرطان عنق الرحم، وبرامج لمكافحة كل أشكال العنف ضد المرأة، ولا سيما في المناطق التي تمر بطوارئ صحية، ونسعى إلى تقوية تلك البرامج وتعزيز وضْع المرأة كي تتمكن من الحصول على حقوقها الصحية مع أشقائها من الرجال.
- هل تعتقدين أن الخدمات الصحية الموجهة للرجال والنساء في المنطقة تشهد وجوها من عدم المساواة، وما مدى رضاك عن صحة النساء في الإقليم؟
عدم الإنصاف الصحي حالة قائمة في أقاليم عديدة ويعاني منها إقليمنا، وهي لا تقتصر على التفاوت في فرص الحصول على الرعاية الصحية بين الرجال والنساء فقط، وإن كان هذا أكثر الأوجه وضوحا، بل تمتد لتشمل التفاوت بين قطاعات السكان المختلفة داخل البلد الواحد، وبين المناطق الحضرية والمناطق النائية، وبين البلدان المنخفضة الدخل والمرتفعة الدخل.
وتحقيق الإنصاف الصحي بكل صوره وبين مختلف الفئات أحد اهتماماتنا في المنظمة عامة، وفي المكتب الإقليمي لشرق المتوسط خاصة، إذ تتمثل الرؤية العالمية للمنظمة في تحقيق الصحة للجميع أينما كانوا، وبغضِّ النظر عن النوع أو العِرق أو السِّن أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
ولا يمكن القول إن الوضع الصحي للنساء في الإقليم مُرضٍ، فعلى الرغم من أوجه التحسن التي طرأت على صحة المرأة والانخفاض النسبي لمعدلات وفيات الأمهات في عدد من البلدان، لا تزال الأوضاع الصحية للمرأة في معظم البلدان متردية، ومعدلات الوفيات مرتفعة ولا نزال بعيدين عن تحقيق الأهداف العالمية والإقليمية في هذا المجال.
تحدي حرب غزة
- بعد أن تولَّى المدير السابق للمكتب الإقليمي الدكتور أحمد المنظري هذا المنصب، وقعت جائحة كوفيد 19، وكانت تحديا كبيرا حينئذ، وجاء توليك للمنصب كذلك وسط أزمات وتحديات صحية خطيرة، أبرزها الأوضاع المتردية في غزة، فأي التحديين أشد وأخطر في تقديرك؟
كلاهما تحدٍّ كبير وخطير، فقد دهمت جائحة كوفيد 19 العالَم كله، وكان لها تداعيات هائلة على الصحة والاقتصاد، ونال إقليمُنا ما ناله من هذه الجائحة. لكنّ المنحة تأتي من المحنة، فقد تعلمنا منها كثيرًا من الدروس المستفادة. وما زالت التحديات مستمرة، وآخرها هذه الأزمة الإنسانية التي سببتها الحرب في غزة، فقد أكملت شهرها الثامن، وأودت بحياة عشرات الآلاف من الضحايا، وتسبَّبت بموجة نزوح هائلة بين سُكان القطاع المهدَّدين بالمجاعة، وأدت لدمار البنية التحتية تدميراً شاملاً، وهدم النظام الصحي بالكامل. وكان علينا التعامل مع كل هذه الأوضاع وإنقاذ الأرواح وإغاثة السكان المعرَّضين في كل لحظة لأشد المخاطر، بعد أن دُك قطاع غزة بحيث لم تعد أي بقعة فيه تصلح للحياة. ويتعاظم التحدي لأننا كمكتب إقليمي نستجيب في الوقت نفسه لعدد كبير من الأزمات الإنسانية في السودان والصومال وأفغانستان وسوريا واليمن وغيرها من البلدان التي عانت ولا تزال من صراعات طويلة الأمد.
- وما هي خطتكم لاستعادة كفاءة القطاع الصحي في غزة بعد انتهاء الحرب بمشيئة الله، وما تقديركم لحجم الدمار في القطاع الصحي بالقطاع وحجم التمويل المطلوب للإنقاذ؟
أود بداية أن أوضح أن فرقنا موجودة على الأرض من خلال مكاتبنا في الأرض الفلسطينية المحتلة، وسنواصل عملنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح ودعم المرضى والمصابين. إلا أن أية خطة لإعادة بناء القطاع الصحي في غزة لن تفلح إلا بعد وقفٍ فوري لإطلاق النار وإيجاد حلول دائمة للسلام. ولو افترضنا أن العمليات العسكرية ستتوقف الآن وأن السلام سيحل فورا، فيمكننا البدء بوضْع تقديرٍ دقيقٍ لحجم الاحتياجات والتمويل اللازم لإعادة بناء القطاع الصحي، والذي يتطلب في أكثر التقديرات تواضعا عشرات المليارات من الدولارات لإعادة النظام الصحي لما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. نحن نتحدث عن نظام صحي كان يتسم بالكفاءة النسبية، ثم وصل إلى مرحلة الانهيار التام بعد تعرُّضه لمئات الهجمات وتوقُّف 75% من مراكز الرعاية الصحية، ناهيك عن تدمير البنية التحتية وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء تدميراً شاملاً يتطلب إعادة البناء من نقطة الصفر بل مما دونها.
ويجب أن لا ننسى في تقييمنا الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية التي لا تقدر بثمن وإهدار الكرامة الإنسانية بأفظع الصور، كما لا ننسى عواقب ما يجري في غزة على النظم الصحية في البلدان المحيطة خاصة النظم الهشة منها أو التي تتحمل في الأساس عبئاً يفوق قدرتها على الاستيعاب. إننا نناشد المجتمع الدولي ومجتمع المانحين مواصلة بذل كل الجهود الممكنة لوقف الحرب وتقديم أوجه الدعم والتمويل للشروع في إعادة البناء.
- أعلمُ أن طبيعة المنصب تتطلب منكم البقاء قدر الإمكان على الحياد حتى تتمكنوا من تحقيق رسالتكم، لكنْ لاحظتُ أن تصريحات قيادات المنظمة في الأزمة الأخيرة بغزة خرجت عن هذا الخط.. فهل كان حجم القتل والتدمير أكبر من أن يُبقِيكم في دائرة الحياد؟
كما هو معلوم نحن منظمة يقوم عملها على العلم والتزام الحياد العلمي وإعلاء قيم الأدلة والبراهين العلمية، ولكننا في الوقت نفسه لدينا تعهد وميثاق لا نحيد عنه فضلاً عن التزامنا بالمواثيق الدولية. والحياد لا يجوز بحال أن يمنعنا من التعامل مع الواقع، فمنظمة الصحة العالمية تلتزم في كل وقت وفي كافة الظروف بتعهدها الأساسي، وهو إنقاذ الأرواح وإسعاف الجرحى وحماية الصحة وتيسير سُبل الوصول بالمساعدات الصحية لمن يحتاجونها، وتقييم أوضاع المنشآت الصحية وما تتعرض له من اعتداءات وما ينجم عنها من أضرار تؤثر في وظائفها، وتحديد لوازم التشغيل والعمل على توفيرها. ونحن نؤكد دائما أن المدنيين والمرافق الصحية ومقدِّمي الرعاية الصحية ليسوا أهدافا حربية، بل يحميهم القانون الدولي الإنساني، ولا يجوز الاعتداء عليهم أو استهدافهم في أي صراع. وكما نعلم جميعا فإن السلام شرط أساسي لتحقيق الصحة.
- وما هي أكثر المشاهد إيلاما في تلك الحرب التي لا يمكنك شخصيا نسيانها؟
جميع المشاهد التي رأيتها وما زلت أراها في غزة شديدة الإيلام، فلا يزال 2.2 مليون إنسان في غزة يعايشون كارثة إنسانية مروعة. لقد بلغ عدد الضحايا أكثر من 36 ألف قتيل، وقرابة 82 ألف جريح، وأكثر من عشرة آلاف مفقود لا يزالون تحت الأنقاض، كما قُتل أو شوه عشرات الآلاف من الأطفال الأبرياء. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام، هؤلاء بشر كانت لهم -مثلنا جميعا- حياتهم وأحلامهم وتطلعاتهم لمستقبل أفضل. كيف يتحمل الضمير الإنساني أن يرى طفلا يجمع أشلاء أخيه ليلتقط معه صورة أخيرة قبل أن يواريه الثرى، وآخر يتيما قَطَّعتِ الحربُ أوصالَ عائلتِهِ أو قضت عليها بالكامل، وامرأة حامل جائعة تحاول الفرار لإنقاذ حياتها وحياة جنينها الذي لم ير النور، ووالداً كسير الفؤادِ وهو يشاهد الوَهَنَ يعتري جسدَ طفله الذي تغيَّر شكله بسبب نقص الطعام حتى يكاد لا يتعرف على طفله الذي رباه.. هذه المشاهد المروعة لم أر لها مثيلاً على مدى حياتي العملية الطويلة.
الاستعداد للوباء "إكس"
- تحدَّث المدير العام لمنظمة الصحة العالمية كثيرا عن الوباء القادم "الوباء إكس"، فإلى أي مدى أنتم مستعدون في المكتب الإقليمي لهذا الخطر المحتمل؟
"الوباء إكس" أو المرض المجهول، مصطلح يُستخدَم افتراضيا لتذكير العالَم بأن أمراضا لسنا على دراية بها سوف تظهر في المستقبل ويجب علينا التأهب لها، إلى جانب تأهبنا للتهديدات المعروفة. وفي جميع أنحاء العالم هناك عدد لا حصر له من مسبِّبات الأمراض المحتملة، في حين أن الموارد المخصصة للبحث والتطوير في مجال الأمراض محدودة. ولضمان تركيز الجهود وإنتاجيتها، تضع المنظمة قائمة بالأمراض ومسبِّباتها التي ينبغي إعطاؤها الأولوية للبحث والتطوير في سياقات طوارئ الصحة العمومية.
وتعمل منظمة الصحة العالمية باستمرار مع العلماء والباحثين وواضعي السياسات والمجتمعات المحلية والشركاء الآخرين للتأهب للتهديدات المستقبلية.
ويواجه إقليمنا عدداً غير مسبوق من الطوارئ الصحية بمختلف أنواعها، وتعاني النظم الصحية من الهشاشة خاصة في البلدان التي تعاني من صراعات طويلة الأمد، وثمة ضعف في الموارد التقنية والمالية ونقص في القوى العاملة الصحية. وأسعى من خلال المبادرات الثلاث الرئيسية التي أشرت إليها آنفاً إلى معالجة هذه التحديات وخاصة ما يتعلق بالاستثمار في تعزيز القوى العاملة الصحية وإتاحة الموارد. إن نجاح استعدادنا وتأهبنا للمرض إكس أو الجائحة القادمة يكمن في تكوين الكوادر الصحية المدربة، والقدرة على الوصول لمن يصعب الوصول إليهم بالخدمات الصحية المناسبة في الوقت المناسب، والمرونة في إتاحة الرعاية الصحية.
لقد حسّنت جائحة كوفيد 19 معرفتنا بحجم الكوارث التي تنجم عن الجائحة، ولكن سيظل عنصر المفاجأة قائماً وسيتوقف حجم تأثيره وتداعياته على التخطيط المسبق ودرجة الاستعداد والتأهب وجودة الاستجابة.
- هل هناك من جديد في مجال تصنيع اللقاحات في الإقليم، وزيادة عدد المعامل المتخصصة في ترصُّد العدوى واكتشاف أي عامل مُمرِض جديد؟
إنتاج اللقاحات عملية معقدة تنطوي على حتمية ضمان السلامة والفعالية والجودة والاتساق على مدار دورة حياة اللقاح. وفي إقليم شرق المتوسط، تواجه معظم البلدان تحديات جمة نظراً لندرة القدرات التصنيعية للقاحات.
وتاريخياً اعتادت أربعة بلدان منتجة للقاحات وهي باكستان وإيران وتونس ومصر، على تصنيع اللقاحات التقليدية التي تمثل جزءاً أساسياً من برنامجها الموسع للتمنيع، وارتفع العدد إلى ثمانية بلدان خلال جائحة كوفيد، لكن أغلبها اقتصر على استيراد اللقاحات بكميات كبيرة وإجراء عمليات صيدلانية تتمثل في التعبئة ووضع المنتج في شكله النهائي.
وهناك أيضاً أربعة بلدان تنخرط في مشاريع نشطة لتطوير تصنيع اللقاحات في الإقليم، وهي المغرب والإمارات والسعودية والبحرين. وتدعم منظمة الصحة العالمية مساعي البلدان للحصول على منصة تكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال التي يمكن استخدامها لتصنيع اللقاحات والمنتجات البيولوجية للوقاية من الأمراض.
وتقوم المنظمة بتقديم الدعم للدول الأعضاء، مع إعطاء الأولوية للبلدان المنتجة للقاحات والبلدان التي تقدم خدمات تطوير اللقاحات، لتقوية الهيئات التنظيمية الوطنية وبناء القدرات وتقديم المساعدة التقنية اللازمة لتطوير صناعة اللقاحات.
دروس مستفادة للمواجهة القادمة
- وما هي أبرز الدروس المستفادة من جائحة "كوفيد 19" في تقديرك، وهل تُرجمَت تلك الدروس إلى إجراءات عملية تجعل مواجهة أي وباء قادم سهلةً؟
هناك العديد من الدروس المستفادة من الاستجابة لجائحة كوفيد 19 ولكن أهمها التأكيد على أهمية التآزر العالمي والتضامن بين البلدان المختلفة، لقد كانت الجائحة كاشفة لضعف التآزر والتضامن إلى درجة أثرت بالتأكيد في إتاحة اللقاحات للبلدان غير المنتجة لها أو البلدان الفقيرة التي لا تملك التمويل اللازم لشرائها، ومن الدروس أيضا الحاجة الماسة لتحقيق الاستقلالية في الإقليم، تلك الاستقلالية هي الكفيلة بتأمين قدرة بلدان الإقليم على تلبية احتياجاتهم في إطار مفهوم "من الإقليم وبالإقليم".
هذا بالتأكيد علاوة على تقدير أهمية التخطيط والتأهب واستكمال الموارد وتقوية النُّظم الصحية، بحيث تكون قادرة على الاستجابة بسرعة وكفاءة لأي من الأوبئة، فالأوبئة تحدث بلا سابق إنذار، والاهتمام بالكوادر الصحية كجزء أساسي من بنية النُّظم الصحية كونها خط الدفاع الأمامي للمجتمع كله.
لقد كانت هذه الدروس المستفادة من بين الأسباب التي دفعتني لتحديد المبادرات الرئيسية الثلاث التي تمثل برنامج عملي خلال مدة ولايتي الحالية لضمان الإتاحة وسلاسل الإمداد المُنصِفة والاستثمار في قوى عاملة صحية قادرة على الصمود إلى جانب تسريع وتيرة مكافحة تعاطي مواد الإدمان.
- يخشى بعض الناس أن يؤثر اللغط الذي أُثيرَ عن لقاح أسترازينيكا الخاص بكوفيد 19 على ثقة الناس في اللقاحات، وهو ما قد يؤثر في فرص مواجهة أي وباء قادم.. فإلى أي مدى تشعرين بتأثير ذلك، وما خطتكم لاستعادة تلك الثقة حال فقدانها؟
لقد تعاملنا بكل جدية مع كل ما أُثيرَ عن لقاح أسترازينيكا في حينه. واللجنة الاستشارية العالمية المعنية بمأمونية اللقاحات -وهي فريق من الخبراء يقدم إرشادات مستقلة وموثوقا بها إلى منظمة الصحة العالمية بشأن موضوع الاستخدام المأمون للقاحات- تلقَّت تقارير عن هذا الأمر ودرستها وقيَّمت الوضع وأكدت أن لقاح أسترازينيكا آمِن وفعال في حماية الناس من المخاطر الجسيمة للغاية لكوفيد 19، ومنها الوفاة والمرض الشديد، وأن الآثار الجانبية له نادرة جدا.
اللقاحات هي أحد المكتسبات الصحية للإنسانية ولا يجوز التفريط فيها، وهذا العام نحتفل بمرور 50 عاما على إنشاء البرنامج الموسَّع للتمنيع.
وهذه المبادرة حينما أطلقتها منظمة الصحة العالمية في عام 1974، بدأت بسلسلة محدودة من اللقاحات المضادة لستة أمراض فقط من أمراض الطفولة، أما الآن فإن البرنامج الموسَّع للتمنيع يوفر الحماية من 13 مرضا من الأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات، وهو ما يدل على التقدم المذهل الذي أحرزته هذه المبادرة.
وهنا في إقليم شرق المتوسط، أُنقذت اللقاحات أرواح أكثر من 25 مليون شخص. ولا تقتصر فوائد التمنيع المُنقذة للأرواح على مرحلة الطفولة، فقد أدخلت بلدانٌ كثيرةٌ لقاحاتٍ أحدثَ تحمي من الالتهاب الرئوي والإسهال، بل ومن بعض أنواع السرطان.
تأجيل التوافق على معاهدة الأوبئة
- في تقديرك، ما الأسباب الحقيقية لفشل الوصول إلى اتفاق بشأن معاهدة الأوبئة، وهل يمكن أن تعطينا تصورا لرؤية الإقليم لهذه المعاهدة؟
لا أرى فشلًا في هذا الشأن، فقد اتفقت البلدان خلال انعقاد الدورة السابعة والسبعين لجمعية الصحة العالمية على مواصلة التفاوض بشأن الاتفاق المقترح، وقررت الدول الأعضاء في المنظمة تمديد ولاية هيئة التفاوض الحكومية الدولية لإنهاء عملها للتفاوض بشأن اتفاق يتعلق بالجائحة في غضون عام، أو بحلول جمعية الصحة العالمية في عام 2025، أو قبل ذلك إن أمكن في دورة استثنائية لجمعية الصحة في عام 2024.
ولاحظ المشاركون أن جميع الدول الأعضاء كان بينها توافُق واضح في الآراء بشأن الحاجة إلى صيغة جديدة لمساعدة العالم على مكافحة جائحة كاملة بشكل أفضل.
وفي الوقت نفسه، فإن موافقة الدول الأعضاء خلال انعقاد الدورة السابعة والسبعين لجمعية الصحة العامة على إدخال التعديلات على اللوائح الصحية الدولية توفر الزخم الذي نحتاجه لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية مكافحة الجائحة.
ورؤيتنا الإقليمية للاتفاقية أنها هي السبيل لتحسين التنسيق والتعاون والإنصاف على الصعيد الدولي للوقاية من الجوائح في المستقبل والتأهب لمواجهتها والاستجابة لها، ومن ثَم ينبغي لنا نحن الدول والأقاليم؛ المشاركة الفعَّالة في التفاوض للخروج بأفضل صيغة للاتفاقية وإدخالها موضع التنفيذ.
- أخيرا، يرى البعض أن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، رغم ما له من دور في دعم عمليات الاستجابة الصحية الحرِجة في الإقليم، فإن الدعم السخي الأخير من المركز للمنظمة (19.4 مليون دولار أميركي)، يرتبط بكون مديرة المكتب الإقليمي سعودية الجنسية.. فكيف تردين على ذلك؟
اسمح لي أن أختلف مع هذا الطرح تماما، فمن المعلوم أن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية قد أُسِّس عام 2015، ومنذ إنشائه يعتمد على ثوابت تركز على إغاثة المنكوبين في كل مكان في العالم بآلية رصد دقيقة، وطُرق عمل متطورة وسريعة، كل هذا يجري بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة، وبينها بالطبع منظمة الصحة العالمية، والمنظمات غير الربحية الدولية والمحلية. ومركز الملك سلمان شريك دائم وداعم قوي لبرامج منظمة الصحة العالمية، خاصة في مناطق الصراع والطوارئ العاجلة. وسبق للمركز أن قدَّم أكثر من 45 مليون دولار لكل من الأونروا ومنظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر والفاو، لدعم برامج الإغاثة العاجلة لأهل غزة فور اندلاع الحرب هناك، كما قدم التمويل لبرامج مماثلة نطبقها في بلدان أخرى من الإقليم وخارجه.
وبالطبع هذا يعني بأنني كمواطنة سعودية أفخر بدور المملكة العربية السعودية الرائد في مجال الصحة العامة بشكل عام، وفي مجال العمل الإنساني بشكل خاص، بل وأفخر بكون المملكة من ضمن أكثر الدول الداعمة لمنظمة الصحة العالمية، وأتطلع إلى استمرار بل وتكثيف التعاون مع المملكة.