تاريخ الصيدلة في بلاد الرافدين
د. سعد الفتال
اشتهرت حضارات وادي الرافدين بالعلوم الطبية، حيث يعتبر الصيادلة العراقيون أول من اشتغل في تحضير الأدوية والعقاقير، فضلا عن الأدوية المركبة الجديدة.
كما أنهم أول من قاموا بإعداد وتأليف دستور للأدوية، وظلوا يعتمدون عليه في البيمارستانات ودكاكين الصيدلة، كذلك هم أول من أنشأ حوانيت للصيدلة، ومن الشواهد على ذلك أسماء العقاقير التي أخذتها الحضارة الغربية عنهم، ولا تزال عندهم بأسمائها العربية والفارسية والهندية.
ولذلك فلا عجب أن يصبح الطب مدينا لصيادلة حضارة وادي الرافدين بفن الصيدلة، ومنها الكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل كالأشربة واللعوق واللزقات والمراهم والمياه المقطرة. وفي نفس الوقت مدين للعراق مهد الحضارات بعقاقير كالتمر الهندي والقرمز والكافور والكحول.
الحضارة السومرية
لقد توّلى طبيب سومري مجهول الاسم، نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، جمع وتدوين أغلى وصفاته الطبية في أول دستور للأدوية (فارماكوبيا) في العالم، لغرض فائدة طلبته وزملائه، وهيأ لذلك لوحا من الطين قياسه 9.5X 15.9 سم ونقش عليه بالخط المسماري اثنتي عشرة وصفة طبية من الأدوية المفضّلة لديه، حيث تعتبر هذه الوثيقة الطينية أقدم كتاب موجز في الطب معروف لدى الإنسان.
وقد بقي مطمورا في آثار نفّر طوال أكثر من أربعة آلاف سنة حتى عثرت عليه بعثة التنقيب الأميركية، وجاءت به إلى متحف الجامعة في فيلادلفيا.
واعتمدت تلك الوصفات على المصادر النباتية والحيوانية والمعدنية في تهيئة وتحضير العقاقير الطبية، وكان من بين المعدنيات المفضلة لديه ملح الطعام وكلوريد البوتاسيوم.
ومن المملكة الحيوانية استعمل اللبن وجلد الحيّات وصدف السلحفاة، وأما من عالم النبات فقد استخدم الثّاء والآس والزعتر وغيرها كثير، كما ساهمت مجموعة الأشجار مثل الصفصاف والكمثرى والتين والتمر، حيث استخدمت موادها من البذور والفروع والصموغ لتحضير الأدوية.
والأدوية التي ذكرت في الوصفات الطبية في اللوح الطيني كانت على شكلين إما بهيئة مراهم أو مقطرات تستعمل خارجيا أو داخليا بشكل سوائل.
وكانت الطريقة المألوفة لتحضير المراهم هي أن يسحق عقار واحد أو أكثر ثم يخلط المسحوق في نوع من النقوع المسمى كوشما، ويضاف إليه زيت الشجر الاعتيادي وزيت شجر الأرز.
وفي إحدى الوصفات كان مسحوق طين النهر هو أكثر العقاقير المستعملة في الوصفة العلاجية.
وقد استعملت طريقة أخرى أكثر تعقيدا، وهي التقطير لتحضير الأدوية، ولذلك ذكرت معها الإرشادات في كيفية استعمالها للتداوي.
كما أنّ هناك طريقة أخرى لإعداد الدواء، وذلك بإضافة المواد الطبية إلى الماء المغلي والأملاح، ثم تفصل المواد العضوية بطريقة الترشيح بالرغم من عدم ذكرها نصا.
وتتم معالجة الجزء المريض من الجسم بالدواء المقطر أو الرش أو الغسل، ويعقب ذلك دلكه بالزيت ثمّ يوضع عليه الدواء المطلوب إن كان واحدا أو أكثر.
ويستفاد مما ورد بأن طرق تركيب الأدوية ودساتيرها في العهد السومري قد بلغت مرحلة متقدمة من التطور، كما عبّرت عن معرفة واسعة بالطرق الكيميائية لتحضير الأدوية، حيث ذكرت في عدد منها الإرشادات بلزوم تنقية المواد الغريبة الداخلة في الدواء قبل السحق.
الطبيب السومري قد أخفى قصدا تفاصيل المقادير ربما حفظا لأسراره، ومن أن يمنع استخدامها أحد من غير أهل المهنة وأنه من المستطاع معرفة مقاديرها أثناء التجربة عند تحضير الأدوية |
وغفلت تلك الوصفات الطبية تعيين المقادير المراد استعمالها في تركيب العقاقير الطبية، ولربما يعود السبب إلى أنّ الطبيب السومري قد أخفى قصدا تفاصيل المقادير حفظا لأسراره، من أن يمنع استخدامها أحد من غير أهل المهن الطبية، وأنه من المستطاع معرفة مقاديرها أثناء التجربة عند تحضير الأدوية.
كذلك لم تنص تلك الوصفات على تسمية الأمراض التي وضعت من أجلها، ولذلك كان من الصعب الحكم على نتائجها.
الحضارة البابلية
لقد تطورت المفاهيم العلمية أثناء العصر البابلي، حيث عثر علماء الآثار على عدد كبير من الوثائق الطبية وهي منقوشة على ألواح طينية ومكتوبة بالحروف المسمارية.
وقد اشتملت هذه الوثائق على ثلاثة أقسام من البيانات:
الأولى: قوائم من الأعشاب الطبية، وتحتوي هذه المجموعة على نصوص ذات شأن كبير في دراسة الطب البابلي، وهي مرتّبة على ثلاثة أعمدة، في الأول اسم العشب، والثاني اسم المريض الذي يعالج بهذا العشب، والثالث طريقة استعماله. والملاحظة المهمة في هذا النص هي أنّ الأمراض كانت من الناحية الفسيولوجية السريرية وليست ظاهرة سحرية.
الثانية: مجموعة من الوصفات العلاجية المختلفة، مرتبّة حسب الجزء المريض من الجسم، وهي أيضا مرتبة على ثلاثة أقسام أساسية:
-
سرد أعراض المرض وأحيانا تشخيصه.
-
الأدوية التي يجب استعمالها وطريقة تحضيرها وإعطائها للمريض.
-
نتيجة العلاج.
الثالثة: مناقشة تشخيص الأمراض والتنبؤ بسيرها.
وإذا نظرنا إلى بعض الوصفات البابلية من ناحية الطب الحديث، وجدنا فيها ما يبررها على الرغم من بدائية الوصفة وبُعدها من الدواء الحديث.
كما تعمّد الأطباء مزج بعض العقاقير بمواد غريبة، وذلك لطرد الأرواح الخبيثة المسببّة لذلك المرض، وقد أطلق على ذلك الفرع اسم الصيدلة الوحلية.
وقد ورد في كتاب تاريخ الطب العراقي للأستاذ عبد الحميد العلوجي عن استخدام العقاقير ما نصه "وكان الهدف الأساسي للطبيب البابلي ترضية الآلهة أو خداعها وطرد الشياطين من البدن العليل. وتتم هذه بالصلوات من تضرّع ودعاء، واستنزال اللعنات والاستغفار وذبح القرابين وإجراء الطقوس السحرية. فإذا كشفت إجراءات العرافة عن طبيعة المرض أمكن استعمال العقاقير السحرية أو العقاقير المضادة للشياطين والعفاريت، أو أمكن دفع الخطر بحمل التعاويذ والطلاسم".
وقد وردت في النصوص البابلية مجموعة من الأدوية والمفردات أمثال الخردل، قشر الرمان، بذر الكتان، اللوتس، الزيتون، الخروع، النعناع، الزعفران، الخشخاش، الكبريت، الشب.
الحضارة الآشورية
تشابهت المعتقدات في حضارات وادي الرافدين، ولا سيما الحضارة الآشورية في أسباب المرض وعلاجه، وعرف الأطباء الآشوريون خصائص الأعشاب والنباتات، وكذلك المعادن، وصنّفت في الأدوية المسهلة، الصبر والخروع والسوس، وفي النباتات السامة وأمثالها الشقائق والشوكران والقنب والخشخاش، ورف خصائصها كمنومة ومسكنة ومخدرة. واعتمدت أكثر الوصفات في تحضير الأدوية على المملكة النباتية.
الحضارة العباسية الإسلامية
لقد أحرز العرب في ظل الحضارة العباسية إنجازات باهرة، حيث كان التقدم العلمي في الصيدلة تابعا لتقدمهم في الكيمياء والطب، وذلك من خلال تجاربهم ومستحضراتهم.
وفي هذا العهد، اشتهر العلماء جابر بن حيان والكندي وابن سينا وأبو بكر الرازي وغيرهم ممن اكتشفوا الكثير من المركبات الكيميائية التي شيّدت علم الكيمياء الحديث، فمنهم من استخدم ماء الفضة (حامض النتريك) وزيت الزاج (حامض الكبريتيك) وماء الذهب (حامض النتروهايدروكلوريك) ناهيك عن اكتشافهم للبوتاس وروح النشادر وملحه وحجر جهنم (نترات الفضة) والليماني (كلوريد الزئبق) وملح البارود (نترات البوتاس) والكحول، الزرنيخ، وغيرها كثير.
كما كان للعرب السبق في طرق التحضير، فهم أول من وصف التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور والتذويب.
كان للعرب السبق في طرق التحضير، فهم أول من وصف التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور والتذويب |
وبرعوا في تقسيم الأدوية إلى مفردة ومركبة، ثم قسمّوا المفردة إلى أولى وثانية تبعا لتركيبها الطبيعي، من عنصر واحد أو عدة عناصر، بالإضافة إلى تقسيم الأدوية المركبة وتسميتها تبعا لخواصها إلى حارة وباردة ورطبة ويابسة.
كذلك أطلق العرب على الدواء باعتبار آثاره الأسماء التالية: ملطّف، مسخّن، هاضم، لاذع، قاشر، مبرّد، مقوّ، رادع، مخدّر، مرطّب، مجفف، قاتل، سام، ترياق، مدرر، معرّق، مرخّي، مخشّن، جاذب، عاصر، وغيرها من الأسماء.
ومن أشهر المؤلفين في علم الأدوية، الذين ورد ذكرهم في العصر العباسي، حنين بن إسحق، علي بن العباس المجوسي، ومحمد بن زكريا الرازي.
وواكب ازدهار صناعة الأدوية وازدياد عدد الصيادلة عمليات الغش في العقاقير، وانتساب البعض إلى هذه المهنة الشريفة، حيث أصبحت الحاجة إلى إجراء الامتحانات وإعطاء الإجازات من ولاة الأمر إلى الذين يحسنون صناعة الصيدلة قصرا.
وقد ذكرت المصادر بأن أول امتحان للصيادلة حصل في زمن المأمون، كما كان امتحان آخر للصيادلة في زمن الخليفة المعتصم.