هيئة الحقيقة والكرامة.. ملجأ تونس لتضميد جراحها

الموسوعة - هيئة الحقيقة والكرامة، تونس

هيئة الحقيقة والكرامة هيئة حقوقية دستورية مستقلة وذات بعد قضائي؛ أنشئت بقانون خاص أقره البرلمان، وتتلخص مهمتها في توثيق ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بتونس الحديثة (1955- 2013). ورغم التحديات والتعقيدات التي تكتنف عملها فإنها تعتبر إحدى أبرز ثمار الثورة التونسية، باعتبارها أهم آلية رسمية لتحقيق العدالة الانتقالية سبيلاً لتكريس مصالحة وطنية راسخة.

النشأة والتأسيس
في يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2013 أقر المجلس التأسيسي بتونس "قانون العدالة الانتقالية" الذي يضم 71 فصلا، ويهدف لرفع الأضرار التي لحقت بضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في عهديْ الرئيس الحبيب بورقيبة (1957- 1987) وخلفه زين العابدين بن علي (1987- 2011)، وذلك "بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية".

وقد نص هذا القانون على تأسيس "هيئة الحقيقة والكرامة" لتكون جهازا حقوقيا "مستقلا ومحايدا"، يتولى رصد وتوثيق "الانتهاكات الجسيمة" لحقوق الإنسان خلال فترة ما بعد استقلال البلاد، ويقرر بشأن تحديد مقترفيها وإحالتهم إلى العدالة -حتى ولو كانوا على رأس هرم السلطة- وتعويض الضحايا ورد الاعتبار لهم.

وقد عرّف القانون المذكور الانتهاكاتِ المقصودة بأنها: "كل اعتداء جسيم وممنهج على حق من حقوق الانسان تقوم به مجموعات منظمة، مثل القتل العمد والاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي والتعذيب والإخفاء القسري والإعدام دون توفر ضمانات المحاكمات العادلة".

وفي 19 مايو/أيار 2014 صادق المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) على تشكيل "هيئة الحقيقة والكرامة" -التي تضم 15 عضوا من نشطاء حقوق الإنسان- بتزكيته جميع أعضائها، رغم أن كتلاً برلمانية وأحزابا سياسية اعترضت بقوّة على ترشيح بعض الأعضاء، وأبدت أحزاب ومنظمات خشيتها من "تسييس" الهيئة مما سيمنعها من "تفكيك منظومة الاستبداد وفضح الانتهاكات الماضية ومحاسبة الجلادين".

وفي 9 يونيو/حزيران 2014 أطلقت تونس في حفل رسمي عمل "هيئة الحقيقة والكرامة"، على أن تستمر ولايتها أربع سنوات قابلة للتمديد بعام واحد بموافقة البرلمان، وحضر حفل انطلاقتها رئيس البلاد آنذاك منصف المرزوقي ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر، وشارك فيه ممثلون عن الأمم المتحدةودول لها تجارب سابقة في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية.

الأهداف والصلاحيات
تنحصر أهداف "هيئة الحقيقة والكرامة" -التي تترأسها الحقوقية سهام بن سدرين– في تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في تونس منذ 1 يوليو/تموز 1955 وحتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2013، بما يشمل في الأساس حقبتيْ الرئيسين بورقيبة وبن علي.

فطوال هذه الفترة -الممتدة نحو ستة عقود- خضع آلاف النشطاء من الإسلاميين واليساريين للتعذيب أثناء فترات سجنهم الطويلة، إضافة إلى تشريد آلاف آخرين وحرمانهم من الحقوق بسبب معارضتهم للسلطة، ومقتل ما لا يقل عن 320 محتجا وإصابة مئات الأشخاص خلال الثورة التونسية 2011.

ويتمحور دور الهيئة أساسا في كشف وتحديد طبيعة الانتهاكات الماضية ومعرفة أسبابها وظروفها ومرتكبيها، والأضرار المترتبة عليها من تعذيب واغتصاب وإعدام، واختفاء قسري، وفساد مالي وإداري، وتحديد مسؤولية الدولة في هذه الانتهاكات، ومطالبة مرتكبيها بالاعتذار ورد الحقوق، لترسيخ المصالحة الوطنية وتيسير الانتقال نحو دولة القانون.

وتقول الهيئة إنها ستحيل ملفات الانتهاكات التي سيُكشف عنها إلى دوائر قضائية مختصة من أجل محاسبة مرتكبيها سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وجبر أضرار ضحايا القمع والفساد وتعويضهم، مؤكدة أنها تسعى بذلك إلى القضاء على دوائر الاستبداد والفساد السابقة "حتى لا تعيد إنتاج نفسها"، ولضمان مصالحة ماضي البلاد مع حاضرها من أجل حماية مستقبلها.

وأوضحت الهيئة أنها ستنجز مهمتها بالاستناد إلى الذاكرة الوطنية والملفات الكبرى التي اشتغلت عليها منظمات المجتمع المدني ويمكن أن تساعد على كشف الانتهاكات.

انطلاقة وعوائق
في 27 مايو/أيار 2015 بدأ عمل هيئة الحقيقة والكرامة فعليا بعد أن شكلت جهازها التنفيذي وعينت مكاتبها الجهوية وصاغت نظامها الداخلي، وتمكنت من مقابلة ممثلي المجتمع المدني في أنحاء البلاد، من أجل تحديد سبل التعاون بين الطرفين، والاتفاق على الوسائل العملية التي من شأنها أن تساعد على كشف الانتهاكات.

وأعلنت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين -خلال مؤتمر صحفي عقدته في نفس اليوم بمقر الهيئة المركزي في تونس العاصمة– بدء تنظيم هيئتها لجلسات استماع فردية لضحايا الانتهاكات الحقوقية المشمولة بالقانون الأساسي للعدالة الانتقالية، ومرتكبيها والمشاركين فيها والشهود عليها.

وأضافت أن "المرحلة الأولى من العمل ستتواصل 15 يوما لكنها ستقتصر على من أودعوا ملفاتهم من منطقة تونس الكبرى (محافظات تونس ومنوبة وأريانة وبنعروس) فقط، كما ستشمل هذه الجلسات الأولية الضحايا -سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة- الذين يمثلون مختلف أصناف الانتهاكات…، على أن يتواصل العمل في مرحلة ثانية لمدة سنتين".

وأوضحت بن سدرين أن جلسات الاستماع تتمثل في "تلقي إفادة الضحية والتحاور معه والاستماع إليه، والإجابة على بعض الأسئلة حول الانتهاكات التي تعرض لها وأشكالها". وبعد أن ظلت هذه الجلسات "سرية وخاصة"، فإنها صارت تعقد بشكل علني وبحضور وسائل الإعلام بدءا من يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

وأكدت الهيئة -عند لحظة انطلاق عملها- أنها تلقت 12 ألفا وسبعمئة ملف تتعلق بالانتهاكات "وينتمي أصحابها إلى جميع العائلات السياسية والحقب التاريخية من يوليو/تموز 1955 إلى 31 ديسمبر/كانون الأول 2013″، مشيرة إلى أنها عقدت لأصحابها جميعا جلسات استماع "في سرية تامة" أعطيت فيها مدة 30-45 دقيقة لكل ضحية.

لكن هذا الرقم قفز بعد ذلك حتى وصل بحلول منتصف عام 2016 إلى أكثر من 65 ألف شكوى وملف حقوقي (25 % منها تقدمت بها نساء)، قرابة 60% منها تتعلق بحقوق الإنسان (مثل الإخفاء القسري والاعتداء البدني ومنع حرية التعبير والقتل العمد والانتهاكات الجنسية)، و40% منها تتعلق بالفساد المالي بكل أشكاله وفي كافة مؤسسات الدولة وهياكلها، وفي طليعتها البنك المركزي وإدارة الجمارك.

كما تلقت الهيئة شكاوى من ثلاثين جهة وحزبا تشتكي من تعرضها لاضطهاد أو تمييز، ومن أبرز هذه الجهات: الاتحاد العام التونسي للشغل، والأقلية اليهودية، والأقلية السوداء، والأقلية الأمازيغية.  و30 ملفا قدمتها مناطق تعرضت للتهميش التنموي والإقصاء الممنهج.

وقد تعددت طبيعة الانتهاكات المقدمة، إلا أن أبرزها الفساد المالي والمحاكمات السياسية والتعذيب وقمع المظاهرات السلمية وحرية التعبير. وأفاد عدد من ضحايا الانتهاكات بشهادات وُصفت بأنها صادمة حول التعذيب الذي تعرض له سجناء خلال فترة الاستبداد.

وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أعلنت الهيئة أنها تحقق تقدما في التعامل مع مرتكبي الانتهاكات في فترة الاستبداد خاصة من كان منهم في أعلى سلم المسؤولية، وقالت إن بعضهم يأتون إلى الهيئة ويدلون باعترافاتهم "لأنهم يدركون أن الاعتراف هو سبيل النجاة".

وأكدت أن اعتراف مرتكبي الانتهاكات هو "الطريق الوحيد أمامهم للمصالحة"، وفي حال لم يدل هؤلاء باعترافاتهم أمام الهيئة، فإن ملفاتهم ستحال إلى هيئات قضائية متخصصة وستُطبق حينها القواعد القضائية.

ودعت الهيئة بشكل خاص موظفي الدولة الذين شاركوا في تمرير أو دعم عمليات فساد للحضور إليها للإدلاء بشهاداتهم حول آلية عمل ماكينة الفساد في البلاد، مقابل وقف الدعاوى القضائية بحقهم.

ورغم تفاؤل الهيئة بشأن سير عملها؛ فإن مهمتها "التاريخية" تبدو محفوفة بعدد من التحديات والتعقيدات القائمة وسط مشهد سياسي لا يكفّ عن التغير، خاصة أن عملها يشمل ملفات حساسة يتضمن بعضها اتهامات لرئيس البلاد الباجي قايد السبسي بالتورط في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان زمن تقلده مناصب أمنية وسياسية في حكم الرئيس بورقيبة.

ومن الصعوبات الكبيرة التي تواجه عمل الهيئة إتلاف كثير من وثائق الأرشيف الحكومي المتعلق بفترة اختصاصها، ومحدودية تعاون جهات نافذة في "الدولة العميقة" وخاصة وزارة الداخلية، بما فيها دوائر أمنية وقضائية وإعلامية محسوبة على "الثورة المضادة" وتسعى لعرقلة مسار العدالة الانتقالية وتعطيل المحاسبة.

بالإضافة إلى اتهام أصحاب السلطة القائمة بـ"عدم وضوح الإرادة السياسية"، وشحّ في موارد "صندوق الكرامة" المخصص لتعويض الضحايا، وتوجيه تهديدات بالقتل إلى بعض أعضاء الهيئة.

وفي 26 مارس/آذار 2018 رفض مجلس نواب الشعب في تونس (البرلمان) تمديد عمل هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة، ورفض 68 نائبا التمديد، بينما لم يصوت أي نائب بـ(نعم) للقرار، وامتنع اثنان عن التصويت من أصل 70 حضروا التصويت.

المصدر : الجزيرة