الحسيمة المغربية.. ملف مشتعل في انتظار الحل

الصورة 2 ـ مشهد من جنازة محسن فكري لحظة دفنه بمسقط رأسه بإيمزورن بإقليم الحسيمة ـ الجزيرة نت. مصدر الصورة: الحسن أبو يحيى ـ الرباط
لحظة دفن محسن فكري الذي مات داخل شاحنة أزبال مما أجج احتجاجات الحسيميين المطالبين بحقوق قانونية واقتصادية واجتماعية (الجزيرة)

علاقة مدينة الحسيمة ومنطقة الريف بالسلطة المركزية بالرباط لم تكن دوما في وضعها المثالي، حيث شابها التوتر منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1956، وتأجج الغضب منذ بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة، حيث تواصل خروج المحتجين الغاضبين إلى الشارع رافعين مطالب اقتصادية واجتماعية، وقد حذرت الحكومة من أنها ستُعمل القانون ضد أي مطالب انفصالية أو تخريب للممتلكات.

تاريخ
تقع مدينة الحسيمة شمالي شرقي المغرب، وتطل على البحر الأبيض المتوسط، وهي محاطة بسلسلة جبال الريف، وتقع أيضا ضمن منطقة تشهد نشاطا زلزاليا متواصلا، سبق أن تسبب في كارثة كبيرة عام 2004 خلفت مقتل وجرح الآلاف.

وتميزت علاقة السلطة بالمنطقة طيلة عقود بالتوتر الذي اختلفت حدّته من فترة لأخرى. فبعد الإعلان عن استقلال المغرب عام 1956، وبروز الخلافات حول مستقبل المملكة ودور جيش التحرير فيها، وظهور خلافات عميقة بين التيارات السياسية التي هيمن عليها وقتئذ حزب الاستقلال، اندلعت احتجاجات قوية ضد السلطة المركزية وممثليها بمنطقة الريف وبينها الحسيمة وعدد من قراها، اختلفت التحليلات بشأن أسبابها بين من قال إنها نادت بتحسين الأوضاع المعيشية وإصلاح الإدارة وتمكين أهل الريف من حكم ذاتي، ومن قال إنها طالبت بإنشاء جمهورية مستقلة.

وكان قرار الرباط واضحا بإخماد أي محاولات للتمرد ضد النظام، فقاد ولي العهد وقتها الحسن بن محمد (الحسن الثاني لاحقا) والجنرال محمد أوفقير حملة عسكرية ضد المنطقة انتهت بإخماد الاحتجاجات، لكنها تركت جرحا غائرا في نفوس أبناء المنطقة.

علما أن الحسن الثاني، وخلال احتجاجات شعبية حاشدة عام 1984، انتقد بكلمات حادة المحتجين، وخاصة أبناء الريف الذين خاطبهم بقوله "سكان الشمال يعرفون مسبقا ولي العهد، ولا أنصحهم بأن يعرفوا الحسن الثاني من هذا الباب، من الأفضل لهم أن يعرفون الحسن الثاني الآخر".

مطالب
ما انفكت احتجاجات سكان الحسيمة تزداد خلال العقود الأخيرة مطالبة بتحسين الظروف المعيشية، وتوفير بنية تحتية مناسبة لفك العزلة عن المدينة والقرى المجاورة لها، ومحاربة الفساد الذي يحرم أبناء المنطقة من الشغل.

وعقب تجدد الاحتجاجات الشعبية بالمدينة أواخر 2016، نشرت مواقع إخبارية بالمدينة وثيقة قالت إنها تلخص مطالب المحتجين.

وتحدثت الوثيقة المكونة من عشر صفحات عن أن المطلب الأول يتمثل في تقديم جميع المتورطين في وفاة محسن فكري للعدالة والذهاب بالتحقيقات إلى أبعد مدى.

ومحسن هو بائع سمك أثار موته يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016 بطريقة مأساوية سحقا داخل شاحنة لجمع النفايات في الحسيمة أثناء مصادرة شحنة سمك غير مرخصة، موجة كبيرة من الحزن والغضب في مناطق مغربية عدة.

ويطالب المحتجون أيضا بالكشف عن حقيقة وفاة خمسة أشخاص داخل أحد بنوك المدينة بعد خروج المغاربة في مدن مختلفة بينها الحسيمة يوم 20 فبراير/شباط 2011 إبان موجة الربيع العربي، حيث تم اكتشاف الجثث المتفحمة داخل البنك في ظروف غامضة، في حين يطرح المحتجون علامات استفهام كثيرة عن سبب الوفاة وعن أداء الأجهزة الأمنية المختصة في القضية.

وفي مجال الصحة يطالبون -بحسب الوثيقة المنشورة- بإنشاء مستشفى إقليمي جديد، وإصلاح البنية الصحية بالمدينة، وتوفير التخصصات والعلاجات والأدوية للمواطنين بالمدينة والقرى التابعة لها.

وفي مجال التعليم، تدعو الوثيقة إلى بناء مدارس جديدة، وبناء جامعة متكاملة التخصصات ومعاهد عليا بالمنطقة.

ولدى المحتجين أيضا مطالب متنوعة بينها تعزيز البنية الثقافية بالمدينة، وإتمام أشغال إنشاء متحف الريف، وإحداث مراكز ثقافية، إلى جانب الحفاظ على الثروة الغابوية والمائية بالمنطقة، وإنشاء ملاعب رياضية يستفيد منها أبناء المدينة.

اقتصاديا، يطالب المحتجون بوقف ما يسمونها سياسة حرمان الحسيمة ومنطقة الريف من مشاريع إنتاجية أساسية، ومحاربة الفساد وخاصة بقطاع الصيد البحري الذي يعد النشاط الاقتصادي الأبرز بالمدينة، بالإضافة إلى وضع ركائز للنهوض الفلاحي بالمنطقة ودعم الفلاحين الصغار.

ويدعو المحتجون إلى تعزيز قطاع التشغيل بالمدينة عبر خلق مصانع وتسهيل مسطرة إنشاء مشاريع اقتصادية منتجة تحتضن اليد العاملة النشطة التي تعاني من البطالة، كما يطالبون بربط إقليم الحسيمة بخط السكك الحديدية، وشبكة الطريق السيار، وتوسيع مطار المدينة، وفتح خطوط جوية بين الحسيمة وأوروبا.

المطالب التي لا تكاد تختلف بين منطقة وأخرى في المغرب، وجدت صدى لها لدى فئات واسعة من أبناء محافظة الحسيمة، حيث خرجت عشرات المسيرات بالحسيمة ترفع المطالب والشعارات نفسها تقريبا، مطالبة الحكومة بالاستجابة لها والابتعاد عن المقاربة الأمنية في التعامل مع الملفات الشائكة بالمنطقة.

وأشادت فعاليات سياسية ومجتمع مدني بسلمية المظاهرات الاحتجاجية، حيث حرص المحتجون على الحفاظ على الممتلكات وعدم الاشتباك مع قوات الأمن.

مشاريع الحكومة
الحكومة المغربية من جهتها نفت التهم التي يوجهها إليها المحتجون، مؤكدة أنها لا تميّز في سياساتها التنموية بين منطقة وأخرى، وأن للحسيمة ممثليها في البرلمان وفي المجالس البلدية من أبناء المدينة وهم مسؤولون عن التنمية المحلية تحت مراقبة المواطنين والسلطة.

كما تؤكد أنها حرصت على فك العزلة عن الحسيمة ومنطقة الريف بإنشاء طريق ساحلية تربط ما بين مدينة طنجة في أٌقصى شمال غرب المملكة ومدينة الناظور في الشرق، كما أن للمدينة مطارا، وأنه تم تجديد الطريق الوطنية التي تربط الحسيمة بالمدن الأخرى.

وتوضح الحكومة أن منطقة الريف والحسيمة تحديدا تحظى بنصيبها من المشاريع الاقتصادية الوطنية، وضربت على ذلك مثلا بتخصيص ميزانية قدرها 25 مليار درهم مغربي (2.5 مليار أورو) لتمويل مشاريع إنتاجية بالمدينة منذ الزلزال الرهيب الذي عرفته عام 2004 وخلف قتلى وجرح ودمر نسبة كبيرة من البنية التحتية.

كما أن الحسيمة والمنطقة -تقول السلطة- ستستفيد من مخطط تنموي كبير دشنه الملك محمد السادس عام 2015، يتضمن إنشاء مشاريع اقتصادية واجتماعية مهمة.

وتؤكد السلطة أنها تتفاعل إيجابيا مع مطالب المحتجين، حيث سبق لها أن أقالت في مارس/آذار 2017 محافظ الحسيمة الذي اتهمه المحتجون بتغليب المقاربة الأمنية في التعامل معهم، وتعمّد الإساءة إليهم واستخدام العنف المفرط ضدهم.

غير أن ممثلي السلطة يشرحون بالمقابل أن عددا من قادة الحراك الاحتجاجي بالحسيمة يتعمدون نشر أخبار زائفة، ويرجون بحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي "لخطاب العنف" والسب والشتم والتخوين، إذ إنهم لا يتورعون عن اتهام كل من يخالفهم الرأي بالخيانة، على حد قول السلطة.

وفي قضية محسن فكري، أعلنت الحكومة على لسان وزير الداخلية وقتها محمد حصاد أنها عازمة على تحديد ملابسات وفاته، مشددة على ضرورة "معاقبة المسؤولين عن هذه المأساة"، ومبرزة أنه "لم يكن يحق لأحد معاملته بهذه الطريقة" وأن التحقيق سيستمر حتى تسليط الضوء على القضية برمتها.

وقد أصدرت محكمة الحسيمة يوم 27 أبريل/نيسان 2017 حكما بسجن سبعة أشخاص لفترات مختلفة تتراوح ما بين خمسة وثمانية أشهر، وأعلنت النيابة العامة أنه تمت محاكمة 11 شخصا في هذه القضية بتهمة القتل غير العمد.

وعلى الرغم من الطابع العام السلمي للمظاهرات، فإن اشتباكات عديدة وقعت بين السلطة وعدد من المتظاهرين الذين اقتحموا -على سبيل المثال- يوم 28 مارس/آذار 2017 مقرا للشرطة في مدينة إيمزورن التابعة لمحافظة الحسيمة، وأضرموا النار في محيطه، كما تم إحراق أربع سيارات وحافلة لقوات الأمن وكذلك سيارة خاصة، مما أدى إلى أضرار مادية في مقر السكن أيضا، وفقا لوكالة الأنباء الرسمية.

مطالب الانفصال
بحسب الحكومة المغربية، فإن المطالب الاجتماعية التي رفعها المحتجون خلال الحراك هي مطالب مشروعة، غير أنها تؤكد أن الإساءة إلى الممتلكات العامة أو الخاصة أمر مرفوض وسيتم التعامل معه بحسب القانون.

ولا يعد تخريب الممتلكات الهم الوحيد الذي تتحدث عنه السلطات المغربية، بل إن مطالب الانفصال التي ما فتئت ترفعها بعض العناصر المنتمية للحراك اعتبرت دعوة مخالفة لثوابت البلاد ومحاولة للإساءة إلى أمنها واستقرارها، خاصة وأنها تزامنت مع تصريحات غاضبة لعدد من المحتجين تهدد بالعنف إذا تم اعتقال أو التعامل بعنف مع بعض من الأسماء التي اشتهرت ضمن الحراك.

فعلى سبيل المثال، نشرت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو قصيرا للناشط الحسيمي ناصر الزفزافي، تحدث فيه عما أسماه تعرضه لمحاولة اغتيال.

ومع استمرار الاحتجاجات بالمدينة وقراها، سارع ائتلاف الأحزاب المشكلة للحكومة المغربية (التي يقودها حزب العدالة والتنمية) يوم 14 مايو/أيار 2017 لعقد لقاء حضره وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت لتناول مواضيع عدة على رأسها ما يقع في الحسيمة.

عقب اللقاء، صرح رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بأن الحكومة اتفقت على تلبية المطالب الاجتماعية للساكنة والاهتمام بها ليس فقط في الحسيمة، "بل في مختلف مناطق المغرب التي تعاني من تأخر في التنمية لأسباب متعددة"، مشددا على أن تعامل السلطة مع الاحتجاجات يجب أن يتم في إطار القانون.

العثماني دعا المحتجين لتفادي الإضرار بالممتلكات العمومية أو الخاصة، و"الحذر من النزعات الانفصالية والحذر من أي علاقة بالخارج أو دعم منه، هذه أمور لا يمكن لبلادنا التسامح فيها"، وتعهد بتسريع تنفيذ البرامج التنموية التي أشرف الملك محمد السادس على إعطاء انطلاقتها.

وحذرت الأحزاب المشاركة في الحكومة من الانحرافات التي بدأت تظهر خلال المظاهرات، متهمة مجموعة مسخرة من الخارج بتوتير الأوضاع والابتعاد عن المطالب التي رفعها المحتجون في البداية.

وأبدى الائتلاف الحكومي وقوفه إلى جانب مطالب المحتجين، موضحة بالمقابل أنه ضد المساس بثوابت المملكة أو بوحدة الوطن وأمن البلاد واستقرارها.

وفي ظل استمرار الاحتجاجات وتزايد وتيرتها، وتشبث المحتجين بمطالبهم الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظل استمرار السلطة في الإعلان أنها تتفهم مطالب سكان الحسيمة وأنها بالمقابل لن تتسامح مع أي مطالب انفصالية أو تخريب للممتلكات الخاصة والعامة، يبقى ملف الحسيمة مشتعلا، في انتظار أن يلوح ضوء في نهاية النفق.

المصدر : الجزيرة + وكالات + مواقع إلكترونية