كارل بولاني

الاقتصادي كارل بولاني carle Polanyi - الموسوعة

كارل بولاني اقتصادي وأكاديمي مجري، بحث في التاريخ والأنثروبولوجيا الاقتصادية، وأنتج نقدا علميا رصينا لاقتصاد السوق معتمدا في ذلك على الكثير من الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية التي أثمرت العديد من المؤلفات، من أهمها على الإطلاق كتابه الموسوم بـ"التحول الكبير".

المولد والنشأة
ولد كارل بولاني يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 1886 بالعاصمة النمساوية فيينا، وكانت النمسا والمجر حينئذ جزءا من دولة واحدة، وينحدر من أسرة برجوازية نالت حظها من التعليم، تحولت من اليهودية إلى المسيحية الكالفينية على يد والده ميهالي بولاشيك الذي غير اسمه العائلي إلى بولاني.

وكان الوالد يعمل مهندسا ومقاولا في صناعة السكك الحديدية، ولقيت أعماله نجاحا كبيرا بفضل ازدهار هذه الصناعة في عصره، لكن الأسرة عانت من مشاكل مالية بعد وفاته سنة 1905 وكساد أعمال الشركة المملوكة للعائلة.

أمضى بولاني جزءا من طفولته وسنوات شبابه في بودابست بعد أن رحلت إليها العائلة في 1890، وبرع في دراسته مما مكنه من الفوز بعدة جوائز أعانته -بالإضافة إلى الدروس الخصوصية التي كان يقدمها- على مساعدة أسرته.

الدراسة والتكوين
انتسب بولاني إلى كلية القانون والعلوم السياسية بجامعة بودابست في خريف 1904، وحصل على الدكتوراه في القانون عام 1909 لكن ليس من جامعة بودابست وإنما من جامعة كولوسفا (كلوج نابوكا وتوجد في رومانيا) بعد أن نفته إدارة الجامعة بسبب مشاركته في اشتباكات وقعت بين مجموعات طلابية داخل الحرم الجامعي.

التوجه الفكري
آمن كارل بولاني منذ ريعان شبابه بالديمقراطية وبقيم الحرية، كما تأثر بالأفكار الاشتراكية، لكنه كان يعارض أي شكل من أشكال الفاشية والحكم الشمولي بما في ذلك دكتاتورية البروليتاريا (الطبقة العاملة)، مما جعله يبقى على مسافة من الشيوعيين رغم موقفه الداعم لسياسة ستالين في الاتحاد السوفياتي عام 1938 مبررا ذلك بإكراه الاستعداد لمواجهة النازية. اعترف بولاني في عام 1955 بأنه كان مخطئا بشأن طبيعة النظام الستاليني.

الوظائف والمسؤوليات
اضطلع بولاني خلال حياته بعدة مسؤوليات في إطار التزامه السياسي والاجتماعي، فقد أسس في نوفمبر/تشرين الثاني 1908 مع طلبة آخرين جمعية للمفكرين الأحرار في المجر وسماها "حلقة غاليلي".

وضمت الجمعية زمرة من الطلبة الاشتراكيين والليبراليين الذين اجتمعوا على فكرة التعلم والتعليم، وكان هدفهم محاربة الأمية ونشر الأفكار التقدمية بين الأوساط الشعبية في المجر.

وفي عام 1914 أسهم كارل بولاني في تأسيس الحزب الراديكالي المجري وأصبح سكرتيرا له، لكن نشاطه السياسي داخل المجر توقف مع قيام نظام فاشي بها في 1919، مما اضطره للهجرة إلى فيينا والعمل في ميدان الصحافة كمحرر مختص في الشؤون الدولية.

ومع صعود الفاشية في النمسا وألمانيا اضطر بولاني إلى الهجرة مجددا عام 1933 قاصدا إنجلترا هذه المرة، واشتغل طوال مدة مكوثه بها في التدريس الخصوصي يعطي دروسا مسائية في التاريخ الاقتصادي والعلاقات الدولية.

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها هاجر بولاني إلى الولايات المتحدة عام 1947، وقد سبق له أن زارها من قبل عدة مرات بغرض إلقاء محاضرات وتعرف على أوساطها الأكاديمية، ثم التحق بجامعة كولومبيا (نيويورك) وعين أستاذا للتاريخ الاقتصادي، وقد كان تأثيره على طلبته بالغا للغاية.

لكن بقاءه لم يدم طويلا بأرض العم سام، لأن الحكومة الأميركية وضعت زوجته على لائحة الأشخاص غير المرغوب فيهم على أرض الولايات المتحدة بسبب نشاطها السابق داخل الحزب الشيوعي المجري.

هاجر بولاني مرة أخرى عام 1950 مع زوجته إلى كندا قريبا من مدينة تورنتو عاصمة ولاية أونتاريو، وبها أمضى بقية سنوات حياته مواصلا نشاطه باحثا في التاريخ الاقتصادي والأنثروبولوجيا.

التجربة الفكرية
يعد بولاني من أهم الاقتصاديين الذين قدموا نقدا علميا للاقتصاد القائم على السوق ذاتية التنظيم وبينوا وجه التعارض بين الرأسمالية والديمقراطية.

وأثبت بولاني من خلال دراساته التاريخية والأنثروبولوجية أن نظام السوق المعمم لم يكن إفرازا طبيعيا وعفويا للحياة الاجتماعية وإنما بناء سياسيا شيدت أركانه برعاية من الدولة، وأن هذا النظام لم يكن سائدا في كل المجتمعات وفي كل الأزمان وإنما هو استثناء تاريخي.

ويرى بولاني أن الاقتصاد في ظل جميع المجتمعات الإنسانية كان دائما في خدمة المجتمع ما عدا ما يصفه بالمجتمع السوقي (القائم على نظام السوق)، فالمجتمع هو من يكون في خدمة الاقتصاد وتابعا له، حيث يتم تسليع كل شيء من أجل ضمان سير هذا النظام بما في ذلك الأرض والعمل والنقود التي كانت خارج منظومة السوق وأصبحت سلعا في ظل نظام السوق خاضعة لمنطق التبادل التجاري مثل غيرها من بقية السلع، ولأن هذه "السلع" الثلاث ليست سلعا حقيقية لأنه لم يقع إنتاجها، أو لم يقع إنتاجها بغرض تسويقها فإن بولاني يسميها السلع المزيفة.

هذه "النزعة التسليعية" التي تجاوزت كل حد عرضت المجتمعات البشرية للكثير من الابتلاءات تمثلت في تنامي الفقر، وتحول أعداد غفيرة من المزارعين إلى بروليتاريين في المدن، وانهيار المنظومة النقدية الدولية، ونشوب الحرب العالمية الأولى ثم الثانية.

ومن ناحية أخرى، ربط بولاني بين شيوع دكتاتورية السوق ذاتية التنظيم في أوروبا وظهور الفاشية والشيوعية، شارحا وجه العلاقة بينهما بأن الدولة الشمولية هي وحدها التي كانت قادرة على الحد من الاضطرابات التي تسببت بها الرأسمالية، ويستنتج من ذلك أن الرأسمالية تشكل خطرا على فكرة الديمقراطية وليس من الممكن المواءمة بينهما.

حماية الديمقراطية وفقا لرؤية بولاني تستدعي إذن تدخل المجتمع عبر الدولة من أجل ضبط الأسواق وكبح جماحها، كما تتطلب إعادة توزيع الثروة التي يتم إنتاجها وتوفير الحماية الاجتماعية لكل أفراد المجتمع.

المؤلفات
ترك كارل بولاني عدة مؤلفات في مجالي التاريخ الاقتصادي والأنثروبولوجيا الاقتصادية، ونذكر منها العناوين التالية: "التحول الكبير.. الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر" (1944)، و"التجارة والأسواق في الإمبراطوريات الأولى" (1957) وشارك في تأليفه آخرون، و"داهومي وتجارة الرقيق" وتم نشره بعد موته عام 1966.

الوفاة
توفي كارل بولاني يوم 23 أبريل/نيسان 1964.

المصدر : الجزيرة + وكالات