عباس الجراري.. مستشار وعالم عاصر 3 ملوك مغاربة

العالم المغربي عباس الجراري المصدر: https://www.abbesjirari.com
عباس الجراري يعد من الأسماء المغربية التي كرست جهدها للنهوض بالشأن الثقافي والفكري والأدبي (الموقع الرسمي لعباس الجراري)

عباس الجراري مفكر وعالم من أعلام المملكة المغربية وخزّان معرفي بصم بمؤلفاته حضورا أكاديميا تجاوز حدود بلده. ولد عام 1937 وشغل عدة مناصب سياسية ودبلوماسية بينها مستشار الملك. توفي بداية عام 2024 إثر وعكة صحية.

كرّس حياته للبحث العلمي والأكاديمي وللدفاع عن الأدب العربي عموما، والأدب المغربي على وجه الخصوص، حتى أصبح يلقب بعميد الأدب المغربي. عرف بدفاعه الشرس عن اللغة العربية وآدابها، علما أنه يتقن لغات أجنبية منها الفرنسية والإنجليزية والإسبانية.

عاصر 3 ملوك مغاربة هم محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، ويعد قامة من القامات العلمية. عاشق لفن الملحون، وكتب عن القدس والقضية الفلسطينية وعن حوار الحضارات والثقافات وقضايا الفكر الإسلامي.

وذكرت بعض التقارير أنه كان بصدد إصدار أجزاء أخرى من سيرته الذاتية "رحيق العمر"، وإلى آخر أيام حياته كانت لديه أنشطة ثقافية عديدة منها أنه كان سيحضر تقديم كتاب له ترجم للغة الصينية.

المولد والنشأة

وُلد عباس الجراري في 15 فبراير/شباط 1937 في العاصمة المغربية الرباط. ونشأ في عهد الحماية الفرنسية على المغرب (بداية فترة الاستعمار)، وترعرع وسط أسرة تتكون من 3 إخوة و5 أخوات.

عاش بعض أطوار مرحلة مقاومة الاستعمار الفرنسي، وتشبع بروح الوطنية وبالدفاع عن الهوية الدينية والثقافية لبلده، وتجسد هذا الهمّ في كتاباته المتنوعة التي مزجت بين الثقافة والأدب والنقد والشعر والترجمة.

تشير مصادر تاريخية إلى أن أصله ينحدر من عائلة اشتهرت بعلمائها وفقهائها، واشتهر أبناؤها بالنبوغ في ميادين العلم والتدريس والتأليف، وتنتسب إلى عرب "بني جرّار" الذين قدِموا إلى المغرب في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري.

والده عبد الله الجراري، المتوفى عام 1983، كان من المقاومين للاستعمار الفرنسي، وأحد أعلام الدين والثقافة والتعليم، ويعتبره ابنه عباس أستاذ حياته الأول، إذ تأثر به كثيرا فكان له الفضل في صقل شخصيته فسار على نهجه في مجال التأليف ونهل من اهتماماته العلمية.

الدراسة والتكوين العلمي

تميّز مساره التكويني بالتنوع والاختلاف ليس في المؤسسات فحسب، بل في البلدان التي اختار أن يتابع فيها تعليمه، ولم يكن هذا الانتقال، بالنسبة إليه، عبثا بل بدوافع معلومة.

حرص الوالد على تلقي ابنه عباس تعليمه في الكُتّاب القرآني، وبعدها ألحقه بمدرسة الليمون في العاصمة الرباط، وكانت مدرسة تابعة لفرنسا.

وبسبب مواقفه الوطنية التي جلبت عليه صعوبات جمة، اضطر إلى الانتقال لمتابعة تعليمه في ثانوية اليوسفية المفتوحة في وجه أبناء المغاربة، والتي كان لها فضل في تكوين الخبرات والقيادات الوطنية وإعدادها لفترة ما بعد الاستقلال للمساهمة في بناء المغرب الحديث.

اختار أن يشد الرحال إلى العاصمة المصرية القاهرة، حيث حصل على شهادة الثانوية العامة عام 1957، ثم ولج جامعة القاهرة وحصل منها على البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها عام 1961.

استكمل مساره التعليمي بالحصول على الماجستير عام 1965، ثم دكتوراه الدولة في تخصص الآداب عام 1969. ويتذكر كيف كان مستواه الدراسي في هذا البلد وكيف كان يتلقى تشجيعات من رئاسة الجمهورية.

وبعد تجربته الدراسية في مصر، اتخذ فرنسا وجهته العلمية الثانية، حيث سجل شهادة دكتوراه ثانية من جامعة السوربون وحصل عليها في موضوع "مسلمو إسبانيا ورحلاتهم إلى المشرق"، وهو الأمر الذي دفعه إلى تعلم اللغة الإسبانية ليضيفها إلى رصيده اللغوي.

ثم في عام 1981، شارك في برنامج التعاون المغربي الأميركي "فولبرايت" للتميز في التدريس بأميركا، والذي يتعلق بالتربية والثقافة، فساعده هذا التنوع لنماذج التحصيل العلمي في كل من مصر وفرنسا وأميركا على توسيع دائرة اهتماماته العلمية والأكاديمية.

الوظائف والمسؤوليات

خلال مساره المهني، تولى وظائف إدارية كثيرة ومناصب عديدة، دشنها بالتحاقه بالمجال الدبلوماسي من خلال عمله في سفارة المغرب في القاهرة عام 1962.

إلا أنه فكر في العودة إلى المغرب والتحق بهيئة التدريس في جامعة محمد الخامس في الرباط عام 1966.

وفي عام 1973، انتخب أول رئيس لشعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس.

وفي عام 1979، عيّنه الملك الحسن الثاني أستاذا في "المدرسة المولوية" (مدرسة تابعة للقصر الملكي يدرس فيها الأمراء وبعض الطلاب المتفوقين المنتقين من عامة الشعب)، وتكلف بتدريس الأمراء التربية الإسلامية والتربية الوطنية وبعض المواد مثل الفكر الإسلامي والنصوص الأدبية.

عُين عميدا لكلية الآداب في جامعة القاضي عياض بمراكش في مارس/آذار 1980، وكلفه الحسن الثاني بمهمة في الديوان الملكي في يناير/كانون الثاني 1999، كما عينه الملك محمد السادس في 29 مارس/آذار 2000 مستشارا له مباشرة بعد توليه الحكم.

التجربة العلمية والثقافية

انتخب عضوا في اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي وفي مكتبها التنفيذي (1969-1973)، كما تم تعيينه مديرا للدراسات الجامعية العليا لتكوين المدرسين في الجامعة عام 1982.

وفي عام 1983 انتزع العضوية في أكاديمية المملكة المغربية وفي المجلس العلمي الإقليمي لولاية (محافظة) الرباط. وعُيّن عام 1998 رئيسا لوحدة أدب الغرب الإسلامي للدراسات العليا في جامعة محمد الخامس.

إلى جانب تجربة علمية غنية من خلال عضويته في مجمعات علمية وهيئات استشارية وطنية وعربية ودولية، وخبرته لدى منظمات دولية من قبيل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، والمنظمة الأفريقية والمنظمة العربية للثقافة (الألسكو).

يعتبر عباس الجراري من الأسماء المغربية التي كرست جهدها للنهوض بالشأن الثقافي والفكري والأدبي، واهتم كثيرا بقضايا الحوار بين الحضارات والأديان والتقريب بين المذاهب الإسلامية.

التحق باتحاد كتاب المغرب عام 1962، وعمره لا يتجاوز 25 سنة، وانتخب عضوا في مكتبه التنفيذي خلال مؤتمره الثالث المنعقد في ديسمبر/كانون الأول 1970.

شغفه بالمجال الثقافي جعله يفكر في استكمال مشروع والده الثقافي الخاص بعائلة الجراري الذي أسسه عام 1930، المعروف بـ"النادي الأدبي الجراري"، وهو عبارة عن منتدى يلتقي فيه رجال العلم والأدب مغاربة وأجانب بعد عصر كل يوم جمعة.

بعد وفاة الوالد عبد الله الجراري، أخذ ابنه عباس المشعل وتابع أنشطة النادي بتنظيم ندوات وحلقات نقاش لمختلف القضايا، محافظا على الميعاد نفسه، لكن في منزله، فاتحا الباب للجامعيين والشباب وضيوف المغرب من عرب وعجم، ومتوجا أشغاله بإصدار بحوث ومقالات علمية.

يوم 27 يونيو/حزيران 2009 كان تاريخيا بالنسبة للجراري، ففيه أطلق "جائزة عبد الله الجراري في الفكر والأدب"، وتنظم كل سنتين، لاختيار أحسن المواضيع ذات الصلة بالتراث الفكري والأدبي وتلك التي تتناول علاقة الفكر والأدب بالقضايا الراهنة للأمة.

العالم المغربي عباس الجراري المصدر: @ICESCO_Ar عبر منصة x
عباس الجراري ختم سلسلة مؤلفاته بكتاب "رحيق العمر" الذي تناول فيه سيرته الذاتية (صفحة إيسيسكو على موقع إكس)

المؤلفات والإنجازات

تميزت مسيرته العلمية الطويلة والغنية بعطاء فكري لافت، وبحث أكاديمي متنوع. له رصيد ثمين من الكتب والمؤلفات التي توزعت بين الدراسات المغربية والتراث الشعبي والأدب العربي الإسلامي. كما خصص جزءا من كتاباته للدراسات الأندلسية وقضايا الفكر والثقافة والفكر الإسلامي.

قاربت الكتب التي ألفها 100 مؤلف، ومن أبرزها:

  • النضال في الشعر العربي بالمغرب من 1830 إلى 1912.
  • قضية فلسطين في الشعر المغربي حتى حرب رمضان.
  • عاشوراء عند المغاربة.
  • النغم المطرب بين الأندلس والمغرب.
  • القدس الشريف والإصلاح المنشود.
  • الذات والآخر.

وغيرها من الكتب التي ختمها بـ"رحيق العمر" (2021)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية قال عنها خلال حفل تقديمها إنها محاولة لكشف الغوامض والإجابة عن بعض علامات الاستفهام.

الجوائز والأوسمة

بفضل عطائه العلمي كرمته عدة مؤسسات علمية وجامعية مغربية وعربية ودولية، وحاز على ما لا يقل عن 50 وساما ودرعا وأزيد من 40 تكريما، ومن أبرزها:

  • في مصر حصل على وسام الاستحقاق عام 1965.
  • وسام العرش من درجة فارس في المغرب عام 1980.
  • وسام المؤرخ العربي عام 1987.
  • وسام العرش من درجة ضابط (المغرب 1994).
  • وسام الكفاءة الوطنية من درجة قائد (المغرب 1996).
  • وسام العرش من درجة ضابط كبير (المغرب 2016).
  • ميدالية أكاديمية المملكة المغربية (1990).
  • جائزة الاستحقاق الكبرى (المغرب 1992).
  • وسام الجمهورية من الطبقة الأولى من تونس عام 2000.
  • وسام الإيسيسكو من الدرجة الأولى عام 2006.
  • وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى عام 2010.

الوفاة

توفي عباس الجراري مساء السبت 20 يناير/كانون الثاني 2024 في مسقط رأسه العاصمة الرباط، تاركا خلفا رصيدا علميا وأكاديميا وازنا.

المصدر : الجزيرة