عز الدين القسام.. شيخ سوري قاد ثورة فلسطين

أحد كبار المقاومين للاحتلال البريطاني لفلسطين، استطاع بقدراته على التعبئة والتوعية والتجنيد والتنظيم، ثم باستشهاده، أن يشعل ثورة عام 1936 في فلسطين، ويظل رمزا للمقاومة.

المولد والنشأة

ولد محمد عز الدين بن عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام عام 1882 في قرية جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية السورية.

والده يعد مع جده من المقدمين في الطريقة القادرية المنسوبة إلى القطب الصوفي عبد القادر الجيلاني، وقد بقي الناس يفدون من العراق -مسقط رأس مصطفى القسام- لزيارة مقاميهما في جبلة ردحا من الزمن، حتى ناضل ابنهما عز الدين نفسه في التحذير من الحرمة في ذلك.

تلقى محمد عز الدين -وهو سابع إخوته- تعليمه الأول في كتاب الشيخ محمود وزاوية الإمام الغزالي بقريته جَبَلة، التي كانت في تاريخ بلاد الشام قلعة تدافع عن الثغور، وعاشت منذ تأسيسها بين أخذ ورد حصنا للمرابطين ومقصدا للمغيرين.

عام 1904 عاد عز الدين القسام إلى جبلة وتزوج السيدة أمينة نعنوع، التي أنجب منها محمدا وعائشة وميمنة وخديجة.

The Arab village of Miar, near Haifa, being blown up during a period of unrest in the British mandate of Palestine. This is a punishment and warning to rebels, by the British. (Photo by Fox Photos/Getty Images)
استشهاد عز الدين القسام كان نواة لقيام الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 (غيتي)

الدراسة والتكوين العلمي

وبعد تعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم، تتلمذ على يد الشيخين سليم طيارة وأحمد الأورادي، ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر عام 1896 وهو ابن الـ14 عاما، وأمضى هناك 8 سنوات بين حلقات مشايخ الجامع العتيق.

درس بالنظام الحر في تحصيل العلوم، قبل أن تقسم الدراسة في الأزهر إلى مراحل عام 1911، كما عايش ما كانت تموج به الساحة السياسية والثقافية في القطر المصري حينذاك من أحداث ومشاريع تحديثية كبيرة، إذ بقيت أصداء الثورة العربية في الآذان والأذهان كلما شوهد الإنجليز يجوبون شوارع القاهرة.

وكانت مجالس الشيخ الإمام محمد عبده ملء السمع والبصر، وبقي ذكر مبادرات ومقالات شيخه جمال الدين الأفغاني يحرك النفوس لمشروع الجامعة الإسلامية.

التوجه الفكري

كان عز الدين القسام يعتبر الاحتلال البريطاني هو العدو الأول لفلسطين، ويدعو أيضا إلى محاربة النفوذ الصهيوني الذي كان يتزايد بصورة كبيرة، وظل ينادي الأهالي إلى الاتحاد ونبذ الفرقة والشقاق حتى تقوى شوكتهم.

وكان يردد دائما أن الثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الانتداب البريطاني والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين، في وقت لم يكن فيه أسلوب الثورة المسلحة أمرا مألوفا للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، حيث كان نشاطها يتركز في الغالب على المظاهرات والمؤتمرات.

انطلاق مسيرة التعليم والإصلاح

وفي الأيام الأولى من عودته بدأت تتضح معالم نهجه الإصلاحي والنضالي، فاستفتح ذلك برفض مقترح بزيارة الأفندي ديب، الذي تعمل أسرة القسام في ضياعه، لأن الواجب أن يأتي المقيم لتهنئة العائد لا العكس، وبهذا بدأ حربا مبكرة ضد "الأفنديات" الذين كانوا يسيطرون على الأراضي بأحكام ونظم جائرة، ويأكلون من جهد الفلاحين ولا يعطون أصحاب الثمار الحقيقيين إلا ما يسد جوعهم.

ومع هذا الشعور المتقد في صدر طالب العلم الثائر انطلق عز الدين في عمل لا يتوقف لتوعية الجماهير وتبصيرهم بدينهم وحقوقهم، يدرس الصغار نهارا والكبار ليلا، ويلقي الخطب وينظم الدروس، ويزور القاصي والداني والقريب والغريب، وهو عازم على تبديد الجهل الذي رآه مرتع الظلم وأداة الإقطاع.

وحينها تألبت عليه القوى الإقطاعية في الساحل السوري وضاق به الأفندية ذرعا، فأرادوا نفيه إلى إزمير، لكن الفتى كان قد عزم على الرحلة إلى عاصمة الخلافة ليشهد في إسطنبول ثمار القرائح في الأساليب الحديثة في التعليم، ولكنه لم يمكث هناك كثيرا، إذ إن روح الواعظ النشط والمدرس الهمام لم تستروح حياة البطالة والخمول حين اكتشف أنه غير قادر على التواصل مع الجماهير التركية بسبب حاجز اللغة.

عاد الفتى سريعا إلى جبلة محملا بما وقف عليه من أفكار في التعليم وما عرفه من مناهج في التدريس، ففتح مدرسة في قريته عام 1913 وقسمها إلى نشاط نهاري للأطفال ومسائي للكبار، مع تدريس التفسير والحديث في جامع إبراهيم بن أدهم، وإلقاء خطبة الجمعة في جامع المنصوري، الذي توافدت عليه الجموع لسماع خطب من نوع جديد توقظ الهمم وتلهب المشاعر وتتحدث في القضايا الجديدة والمشاكل اليومية، ولم يشغله عن ذلك تعيينه موظفا بشعبة التجنيد في جبلة.

وبهذا تميز نهج عز الدين القسام الإصلاحي، الذي قام على الانتشار بين العمال والفلاحين، والتوعية برفض الظلم الاجتماعي، والتعريف بمفهوم الأمة الواحدة.

بدء مسيرة النضال

في 30 سبتمبر/أيلول 1911 بدأت إيطاليا حصار مدينة طرابلس الليبية بعد تنسيق مع فرنسا لتقسيم المستعمرات، وما إن وصل الخبر إلى مسامع أهل الشام حتى ثارت ثائرتهم، فنشط فتى جبلة وخطيب الشمال في إثارة المشاعر وإيقاظ الجماهير لدفع الصائل عن بلاد العرب وأراضي المسلمين.

جمع القسام مئات الشباب وتواصل مع الحكومة التركية وأخذ موافقتها على نقل المتطوعين عبر ميناء إسكندرون، فمكثوا 40 يوما ولم تأتهم الباخرة للإبحار، لكن القسام أصر على النجدة فانتقل سرا إلى الأراضي الليبية، وأنجز جزءا من المهمة بإيصال التبرعات ولقاء الشيخ عمر المختار.

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 تطوع عز الدين القسام للخدمة في الجيش التركي، وأرسل إلى معسكر جنوب دمشق، والمرجح أنه اعتزل القتال حين أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك، وعاد إلى بلده عام 1916، لأنه رفض أن يرفع السلاح في وجه أخيه العربي، مع تمسكه بالولاء للسلطان العثماني.

نأى عز الدين بنفسه عن التأثر بالنزعات العرقية التي تخطط لانفصال العرب عن الترك بقيادة الجمعية العلمية السورية، التي تأسست عام 1868، كما رفض مساوئ الاتجاه القومي الطوراني، الذي كان يسعى لطمس الهوية العربية ومحاصرة لغة الضاد.

وظهرت صحة نهج الإصلاحيين، ومنهم القسام، حين تسببت ثورة الشريف حسين على الدولة العثمانية في سقوط فلسطين بيد بريطانيا بعدما صمد 40 ألفا من جنود العثمانيين، ونجحوا في منع القوات البريطانية من التقدم حتى وضعهم الشريف حسين بين نارين، ولم يوقظه نشر البلاشفة نص اتفاقية سايكس بيكو، التي تقسم بلاد العرب بين المحتلين، حتى نطق الواقع بما أنكرته بريطانيا فاحتل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري.

وهنا ظهرت روح القسام المقبلة بلا تردد على النضال والفداء، فسارع إلى بيع بيته لتجهيز نفسه للمواجهة من أول لحظة داس فيها الاحتلال تراب بلاده، وأعلن التحدي ورفض التفاوض، ورد لجنة كراين الأميركية للاستفتاء على تقرير المصير، وأخذ في التعبئة من المساجد، وتدريب المتطوعين والخروج إلى جبال صهيون للتخفي، واصطياد معسكرات الفرنسيين المحتلين، لتكون هذه النقطة مع جبال العلويين وحلب مراكز الانطلاق الثلاثة التي أقضت مضاجع قوات الاحتلال.

ولما اشتدت وطأة المقاومين على معسكرات المحتلين حاولت فرنسا استمالة القسام بالعفو والمال والمنصب، فرفض كل شيء وقال للوسيط: عد من حيث أتيت، فصدر حكم بإعدام عز الدين وبعض رفاقه، ورصدت قوات الاحتلال جائزة كبيرة لمن يدل عليه.

وبعد اشتداد المطاردة وارتكاب الاحتلال مجازر في القرى بحثا عن القسام لم ير بدا من الفرار إلى حيفا وبدء مرحلة جديدة مع احتلال آخر.

بداية جديدة في حيفا

في مستهل عام 1921 وصل عز الدين القسام إلى فلسطين، وترجح لديه الإقامة في حيفا، لأنها مركز العمل والعمال الذين كانوا دائما عدته في مقاومة المحتل، ومعهم عشرات الآلاف من الفقراء سكان الخيم الذين سلبت قراهم، كما كانت حيفا قاعدة للأسطول البريطاني وواحدة من قواعد التهويد.

كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني على أثر الحرب العالمية الأولى وما آلت إليه، وفي 11 سبتمبر/أيلول 1922 أقرت عصبة الأمم رسميا وضع فلسطين وشرق الأردن تحت إدارة بريطانيا، التي اتخذت سياسة ناعمة لأن غرضها الأساسي كان تنفيذ وعد بلفور عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وأدخلت العامة والخاصة في حوارات وجدالات ومفاوضات لا نهاية لها، كما شغلتهم من قبل بوعودها في مناصرة ما سمته الثورة العربية.

ولهذا شاع الالتباس بين الناس، وساير حكومة الانتداب خلق كثير لم يصدقوا أن بريطانيا جادة في تنفيذ وعد بلفور، فقد دعاهم الخليفة العثماني محمد رشاد إلى جهاد الإنجليز وهو يناصر الألمان، ووجدوا من جهة أخرى علماءهم يعلنون الثورة على من أعلن الجهاد.

لكن عز الدين القسام حسم خياراته من أول الأمر، وبدا أنه قد اكتسب خبرة في مقامه في مصر مما رآه من ممارسات الاحتلال البريطاني وقسوته على المصريين، ومن بقايا الثورة العرابية التي أشاعت روح المقاومة ورفض وعود المحتل عند المصريين.

ومثلما أطلق الشرارة الأولى لمقاومة الاحتلال الفرنسي في سوريا، عزم منذ وصوله أرض فلسطين على مقاومة الاحتلال الإنجليزي، ولكنه لم يعلن ذلك تصريحا بل كان في شكل تحذيرات كثيرة من الثقة بوعود الإنجليز وتحذيرات أشد من الهجرات اليهودية التي تتدفق على عربات الانتداب البريطاني.

اتخذ نضال القسام في حيفا 3 مسارات:

النشاط الاجتماعي: بالتدريس ومحو الأمية والخطابة والوعظ والتواصل المستمر مع عموم الناس، فدرّس في مدرسة الإناث الإسلامية، ثم مدرسة البرج الإسلامية. وكان مع ذلك يجمع العمال في مدرسة أخرى أسسها بنفسه لمحو الأمية.

النشاط الدعوي: عبر إلقاء المواعظ في مساجد حيفا الكبرى الثلاثة، جامع الجرينة وجامع السوق وجامع عبد الله أبو يونس، فلما بني جامع الاستقلال عام 1925 تولى الشيخ عز الدين القسام الإمامة والخطابة فيه، وتزامن ذلك مع استقالته من العمل في مدرسة البرج.

مقاومة الغزو الفكري: بالكلمة والمناظرة، حيث كانت حيفا مركزا للبهائية والقاديانية، وشهدت تزايد الأنشطة التبشيرية، ولهذا دعم افتتاح فرع لجمعية الشبان المسلمين في حيفا وترأسه منذ تأسيسه عام 1928.

كما أنشأ العصبة القسامية في صورة مجموعات سرية لمحاربة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وحرص فيها على السرية، حيث كان يختار الأفراد بعناية كبيرة، ويؤكد لهم ضرورة التخفي عن عيون الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية.

ظلت هذه المجموعات تشن هجماتها على الإنجليز لسنوات دون أن تعرف سلطات الاحتلال البريطاني ومخابراته حقيقتها، حتى أعلنها القسام نفسه عام 1935. ولم يوجه الاحتلال إلى القسام أي اتهامات أكثر من التحريض، ولم تعرف النخب المقربة منه ما يقوم به، حتى عندما اندلعت ثورة البراق في 15 أغسطس/آب 1929 لم يلحظ وجود هذه التجمعات، ولم يؤد تصاعد الأحداث التي انتهت بمقتل 116 فلسطينيا و133 يهوديا إلى حركة غير معتادة من هذه المجموعات تشي بوجودها وتنظيمها.

كما توجه بها نحو العمال والفلاحين، وكانت هذه سمة غالبة في حركة القسام عموما، فقد أعطى هذه الفئات كل اهتمامه وتوجه لتجمعاتها وتعهدها بالعناية واختار منها أعوانه، وقد تأثر في ذلك بثورة عرابي في مصر. وكان يجمع في ذلك بين دوره الإصلاحي واندفاعه في المقاومة، فكان يتواصل مع مجموعات لا تعرف بالالتزام الديني ويحاول وعظها وإرشادها إلى المراجعة والتوبة وتوجيهها إلى الانخراط في مقاومة المحتل.

وقد نشطت المجموعات القسامية في تنفيذ عملياتها ضد الاحتلال البريطاني منذ عام 1928، وحافظت على سريتها حتى عام 1935، ومع كثرة العمليات في حيفا وملاحظة إصرار عز الدين القسام على الدعوة إلى جهاد المحتل شكت السلطات البريطانية فيه، فاستدعته الشرطة للتحقيق ولكنها لم تدنه لعدم كفاية الأدلة.

إعلان الثورة

ولاحظ القسام تزايد متابعته وملاحقة كل من له صلة به منذ أوائل 1935، فقرر إعلان الحركة القسامية مخافة أن تختفي قبل أن تظهر، ومع تزايد معدلات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين رأى أنه من الواجب إعلان الثورة.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1935 ألقى آخر خطبه في جامع الاستقلال وجاء فيها "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون". ثم اختفى فلم يشهده أحد بعدها في حيفا.

توجه عز الدين القسام إلى جنين، وكانت خطته التخفي والاستمرار في العمليات مع عصبته، ولكن خطأ لأحد الأفراد أدى إلى مقتل جندي بريطاني بقرية زرعين في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، فأخذ القسام وعصبته يتنقلون بين القرى، وأخذ الاحتلال يشدد الحصار في مكان ضيق، ونشرت قواته جواسيسها في كل مكان، كما نشرت جنودها في ثوب المدنيين.

الاستشهاد

وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 عرفت قوات الاحتلال البريطاني مكان عز الدين القسام، فهاجمته بعشرات الجنود بينما كان مع 10 من أنصاره، فرفض الاستسلام لهم وواجههم، وبعد قتال من الصباح حتى العصر استشهد الشيخ برصاصة في جبينه ومعه 3 من عصبته وأصيب اثنان منهم وأسر أربعة.

وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 خرج الآلاف في جنازة كبيرة لتشييع عز الدين القسام ورفاقه الثلاثة، وأطلقت الدعوات من العامة والخاصة إلى متابعة سيرهم والنسج على منوالهم، وبقيت هذه الدعوات تتوالى حتى اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في أبريل/نيسان 1936، واستمرت 4 سنوات، ومثلت انتفاضة كبيرة ضد مخطط وعد بلفور، الذي تحول إلى انتداب بريطاني هدفه إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

المصدر : الجزيرة