حصار غزة.. من البداية في انتظار النهاية

A boy cries as he waits with his family for a travel permit to cross into Egypt through the Rafah border crossing after it was opened by Egyptian authorities, in the southern Gaza Strip June 2, 2016. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa
الحصار الإسرائيلي حول غزة إلى سجن كبير (رويترز)
ظل قطاع غزة عرضة للتضييق الأمني والحصار الاقتصادي منذ خضع للاحتلال الإسرائيلي إثر حرب 1967 بين إسرائيل ومصر وسوريا، ولكن أشد فترات حصاره قسوة وأفظعها أثرا هي تلك التي بدأت في النصف الأول من عام 2006.

أسباب الحصار
يمكن تلخيص أسباب الحصار على غزة في مجموعتين مترابطتين من الأسباب، هما:

1- الأسباب السياسية: وفحواها محاولة إسرائيل -ومعها أطراف دولية وعربية داخلية وخارجية- معاقبة أهل القطاع على انتخابهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية المنظمة في يناير/كانون الأول 2006، مما أعطاها أغلبية ساحقة في مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني.

وقد استفادت إسرائيل في تمرير إجراءات حصارها وتبرير إحكامه ليصبح حصارا شاملا (برا وبحرا وجوا) من الانقسام الفلسطيني الذي أعقب هذه الانتخابات، ولا سيما بعد الاقتتال الذي حصل في القطاع بين حركة حماس وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وانتهى بسيطرة حماس السياسية والعسكرية على مقاليد الأمور في القطاع يوم 14 يونيو/حزيران 2007.

وقد جاء في مقال نشِر في صحيفة فايننشال تايمز يوم 6 يوليو/تموز 2006 وكتبه رئيس مجموعة الأزمات الدولية حينها غاريث إيفانس ومدير برنامج الشرق الأوسط فيها آنذاك روبرت مالي؛ أن السبب الأساسي في الحصار هو سعي إسرائيل إلى "حرمان حركة حماس من ممارسة الحكم رغم فوزها في الانتخابات".

وأضاف الكاتبان أن إستراتيجية منظمة فتح وإسرائيل ودول في العالم العربي والغرب "تمثلت منذ فوز حماس في الضغط على هذه الحركة وعزل حكومتها وحرمانها من التمويلات، على أمل إثارة استياء الشارع الفلسطيني من أدائها والتعجيل بإنهاء تجربتها في الحكم".

وفي 30 مايو/أيار 2016 قالت الناشطة الفرنسية ورئيسة جمعية "أورو فلسطين" أوليفيا زيمور إن "الناس بغزة يعيشون في معسكرات اعتقال والأطفال يموتون يوميا..، وهذا الحصار فرضته إسرائيل لأن حركة حماس فازت بالانتخابات بطريقة ديمقراطية 2006، وهي انتخابات كانت انتصارا لكل فلسطين المحتلة…، وهذا العقاب الجماعي سببه فوز حماس غير المحبوبة لدى الدول الغربية".

2- الأسباب العسكرية: وتتلخص في إضعاف قدرات المقاومة وإجهاض جهودها التسلحية، ولا سيما أن قرار إسرائيل بإحكام الحصار على القطاع جاء بعد عملية أسر مقاومين من غزة لجنديها جلعاد شاليط يوم 25 يونيو/حزيران 2006، في عملية عسكرية نوعية أطلقت عليها المقاومة اسم "الوهم المتبدد"، وعُدّت من أكثر العمليات الفدائية الفلسطينية تعقيدا منذ اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية.

وقد ذكرت إسرائيل صراحة هذه الأسباب العسكرية ضمن مبرراتها للحصار حين نشرت -ضمن ما وصفته بـ"سياسة تخفيف الحصار"- قائمة تضم ما يزيد على ثلاثة آلاف مادة حظرت دخولها إلى قطاع غزة، وقالت إنها تخشى أن تستخدمها حركة حماس في تصنيع أسلحة وإعادة بناء منشآت عسكرية تمكن جيشها من تدميرها.

النتائج والتداعيات
أدى فرض الحصار الشامل على غزة إلى تدهور كبير في مستويات المعيشة وخدمات الصحة والتعليم والوقود والكهرباء التي تنقطع بشكل متكرر عن 70% من بيوت ومنشآت غزة. وفاقم سوءَ الأوضاع ما تعرض له القطاع من عدوان عسكري مدمر للإنسان والعمران في أعوام 2006 و2008 و2012 و2014.

فعلى مستوى الوضع الإنساني؛ أكد تقرير حقوقي إسرائيلي أصدره مركز "مسلك" -وهو مركز إسرائيلي للدفاع عن حرية الحركة- يوم 14 أكتوبر/كانون الأول 2010 أن مجمل ما يسمح الاحتلال بدخوله إلى غزة لا يتجاوز 38% من احتياجات سكانه المطلوبة، والتي كانت تلبيها حوالي عشرة آلاف سلعة كانت تدخل إلى القطاع قبل صيف عام 2007.

واستنادا إلى بيانات الوكالة الدولية للمساعدات الإنسانية (أوكسفام)؛ أفاد "مسلك" بأن الاحتلال سمح بدخول 634 شاحنة في الشهور التسعة الأولى من عام 2010، وهذا يشكل 22% فقط من معدل عدد الشاحنات التي دخلت القطاع قبل عام 2007، أما في 2008 فقد كانت نسبة ما يدخل من احتياجات المواطنين -التي تقدر بـ600 شاحنة يومية- تتراوح بين 10% و15%.

ولا يزال تلاميذ غزة التابعون لمدارس وكالة غوث اللاجئين (أونروا) يدرسون داخل "كارافانات" تكون ملتهبة في الصيف وباردة جدا في الشتاء، لأن إسرائيل تمنع دخول مواد بناء أكثر من 100 مدرسة تريد الوكالة تشييدها.

وتتمثل أزمة القطاع الصحي في نقص خطير ومزمن في الأدوية الأساسية يصل أكثر من 40% من الأصناف، وخاصة لمرضى ارتفاع ضغط الدم والقلب والربو والسكري والأمراض المزمنة الأخرى، إلى جانب نقص الأدوية المكملة وخاصة لمرض السرطان والفشل الكلوي والكبدي.

كما يوجد نقص في المستهلكات الطبية والأدوات الجراحية اللازمة للعمليات الطارئة والعادية، ولوازم المختبرات الضرورية لتشخيص كثير من الأمراض، وقطع الغيار واللوحات الإلكترونية، والغازات الطبية اللازمة لغرف العمليات.

وعلى الصعيد الاقتصادي؛ سعت إسرائيل بحصارها إلى ممارسة ضغوط قاسية على المدنيين داخل القطاع لتقليص مداخيلهم المادية ومواردهم الاقتصادية، وتضييق الخناق عليهم وعلى مؤسساتهم التجارية وعرقلة مشاريع التنمية والبنى التحتية، بمنع إدخال البضائع التجارية وحظر تصدير منتجات القطاع، وإغلاق المعابر أغلب الأوقات أمام المسافرين من وإلى القطاع.

وحسب التقارير الاقتصادية الصادرة بشأن تأثير الحصار على الأوضاع في القطاع فإن نسبة الذين يعتمدون على المساعدات تجاوزت 80% من السكان (1.8 مليون نسمة) بعد أن فقد أكثر من ثمانين ألف عامل مصادر رزقهم، وأغلقت 80% من المصانع وتوقفت جميع المشاريع الإنشائية، وما زالت 70% من المنازل مدمرة بسبب جولات العدوان العسكري المتكررة على القطاع.

وتعرض أكثر من 80% من المحاصيل الزراعية للتلف بسبب عدم السماح بدخول الأدوية الزراعية والأسمدة وغيرها من المستلزمات الزراعية، وأصيب قطاع الاستثمار بانتكاسة كبيرة، وتجاوزت الخسائر المباشرة لقطاع المستوردين والتجار 25 مليون دولار، حيث تكبد نحو ألفي مستورد فلسطيني خسائر فادحة بسبب تراكم الحاويات في الموانئ الإسرائيلية.

محاولات الكسر
جرت محاولات كثيرة لكسر الحصار المفروض على غزة ولفت أنظار العالم لحجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكانه. وتنوعت هذه المحاولات بين رحلات التضامن البرية والبحرية، والجهود الإنسانية الإغاثية، والمساعي الحقوقية والقانونية، وكانت في أغلبيتها الساحقة جهودا شعبية غير حكومية وإن شاركت فيها أحيانا منظمات دولية ودول عربية وإسلامية.

ففي يوم 23 أغسطس/آب 2008 وصلت ميناء غزة سفينتان (اسمهما "غزة حرة" و"يو أس ليبرتي") قادمتان من قبرص تقلان أكثر من أربعين ناشطا في مجاليْ حقوق الإنسان والصحافة من 16 جنسية، بعد أن تراجعت إسرائيل عن تهديدات سابقة بمنعهما بالقوة من الوصول إلى القطاع، في رحلة استغرق الإعداد لها عامين وكانت باكورة رحلات كسر الحصار البحرية.

على أن أكبر وأشهر رحلات التضامن والإغاثة التي حاولت كسر حصار غزة كانت "أسطول الحرية" الذي قادته سفينة مرمرة التركية وكان يحمل مساعدات إغاثية لأهالي القطاع، لكنه تعرض يوم 31 مايو/أيار 2010 لهجوم عسكري إسرائيلي وهو لا يزال في المياه الدولية قبل وصوله شاطئ غزة، مما أدى إلى مقتل وجرح العشرات من الناشطين كانوا على متن "مرمرة".

وإلى جانب رحلات التضامن وجهود الإغاثة؛ تعرضت إسرائيل للعديد من حملات الانتقاد الإعلامية والحقوقية والدبلوماسية، باعتبار أنها تمارس عقابا جماعيا وإبادة شاملة تنتهك بهما أبسط قواعد حقوق الإنسان العالمية ومبادئ كل من القانون الدولي الخاصة بحماية المدنيين والقانون الدولي الإنساني، كما حصل شجب واسع للتخاذل الدولي أمام الممارسات الإسرائيلية الإجرامية.

فقد وصف المقرر الخاص السابق لمجلس حقوق الإنسان الأممي في الأراضي الفلسطينية ريتشارد فولك، الحصار الإسرائيلي بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، داعيا المحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق مع قادة إسرائيل المسؤولين عن فرضه. ودعا الأمم المتحدة إلى بدء جهد عاجل لضمان حماية سكان غزة، متهما الحكومات "التي تتواطأ مع إسرائيل بدعم نهجها العقابي سياسيا واقتصاديا".

وقالت المفوضة السابقة للأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان نافي بيلاي -في تصريحات إعلامية أدلت بها يوم 5 يونيو/حزيران 2010- إن الحصار الإسرائيلي لغزة "غير قانوني ويجب رفعه، لأن القانون الدولي الإنساني يحظر تجويع المدنيين كوسيلة حرب كما يحظر فرض عقوبة جماعية على المدنيين، وإسرائيل ملزمة قانونا بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية لغزة".

وطالبت منظمة العفو الدولية مرات إسرائيل برفع الحصار بشكل كامل، قائلة إنه دمر اقتصاد غزة ودفع الناس إلى البطالة والفقر والاعتماد على وكالات المعونة من أجل البقاء، وإن إسرائيل ملزمة -وفق القانون الدولي بوصفها قوة احتلال- برفع الحصار وإنهاء الحظر الذي تفرضه على الصادرات من القطاع. ووصفت الإجراءات التي تعلنها إسرائيل أحيانا لتخفيفه بأنها "غير كافية".

وفي 30 سبتمبر/أيلول 2012 صرحت رئيسة المكتب التنفيذي لرابطة الحقوقيين الديمقراطيين العالمية جيني ميلر -في مؤتمر صحفي عقدته هي و21 محاميا ومحامية من أعضاء اللجنة التنفيذية للرابطة في ختام زيارتهم لغزة- بأن الحصار "جريمة لأنه يحرم الفلسطينيين من مقومات وسبل العيش الكريم، وذرائعه التي يسوقها الاحتلال غير قانونية لأنها تعزل القطاع عن العالم الخارجي".

ويرى مراقبون أن الدور المصري الرسمي في إحكام الحصار طوال السنوات العشر الماضية لا يقل -إن لم يفق- قساوة عن الإجراءات الإسرائيلية في هذا الخصوص، باستثناء الفترة التي فصلت بين سقوط حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011 والانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي يوم 3 يوليو/تموز 2013.

فقد أحكمت السلطات المصرية إغلاق معبر رفح الحدودي بين مصر وغزة مما حرم أهلها من منفذهم الوحيد إلى العالم، ولم تسمح بفتحه إلى فترات محدودة استجابة لحالات إنسانية حرجة للغاية، كما شنت حملة كبيرة على الأنفاق -التي كسر بها الغزيون حصار السلع والمواد التموينية- فدمرت المئات منها، وجعلت مكانها سياجا أمنيا موصولا بالكهرباء وحواجز مائية ضخمة.

وكان من آخر الإجراءات المصرية الأمنية والعقابية التي تهدف للقضاء بشكل كامل على الأنفاق الغزية؛ إصدار الرئيس عبد الفتاح السيسي -الذي قاد الانقلاب على مرسي- قرارا يقضي بالسجن المؤبد لكل مَن يحفر أو يستعمل نفقا على حدود البلاد "بقصد الاتصال بجهة أو دولة أجنبية…، أو إدخال أو إخراج أشخاص أو بضائع أو سلع أو معدات أو آلات أو أي شيء آخر".

وقد شجب محللون فلسطينيون هذا القرار قائلين إن "هذه الإجراءات تهدف لتخويف المجتمع المصري من مساعدة الفلسطينيين، إضافة لكونها خطوة ترضي إسرائيل التي تزعجها الأنفاق لكونها شريان حياة كسر الحصار عن غزة"، إذ استطاع الفلسطينيون حفر أكثر من 1200 نفق ما بين 2008-2015، لكن لم يعد يعمل منها سوى عدد قليل جدا بعد الحملة الأمنية المصرية عليها.

المصدر : الجزيرة