الاستفتاء البريطاني في الميزان

The United Kingdom EU (Brexit) referendum poll card is displayed in London, Britain, 23 May 2016. Its a month to go before Britons will vote whether to remain or leave the EU, on June 23.
البريطانيون سيقررون في موضوع بقاء بريطانيا بالاتحاد الأوروبي يوم 23 يونيو/حزيران 2016(الأوروبية)
تعتبر علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي من القضايا البارزة التي تشغل الساحة السياسية البريطانية وتثير خلافات ساخنة بين أحزابها وحتى داخل كل حزب على حدة، إذ لم يكن البريطانيون يوما متحمسين تماما لفكرة انضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي منذ دخلوه عام 1973، وظل المشككون في جدوائية الاتحاد يعبرون بصخب عن رغبتهم في الانسحاب منه.
 
وفي 27 مايو/أيار 2015 قدمت الحكومة رسميا إلى البرلمان مشروع القانون الذي يفصل آليات الاستفتاء على بقاء البلاد عضوا في الاتحاد، وبعد إقراره في البرلمان يوم 10 يونيو/حزيران الموالي بأغلبية ساحقة (544 نائبا وبمعارضة 53 نائبا) حددت يوم 23 يونيو/حزيران 2016 موعدا لتنظيمه. وهي المرة الأولى منذ 41 عاما التي يتاح فيها للشعب البريطاني أن يقول كلمته في هذا الشأن، إذ نـُظم الاستفتاء الأول حول انتماء بريطانيا إلى الكتلة الأوروبية عام 1975.

وسيُطلب من البريطانيين الإجابة في الاستفتاء عن سؤال يقول: "هل يجب على المملكة المتحدة أن تبقى عضوا في الاتحاد الأوروبي؟".

وقد رأى بعض البريطانيين أن صيغة السؤال تصب بشكل كبير في مصلحة دعاة البقاء داخل الاتحاد، وطالبوا بتقديم صيغة جديدة تعطي للمصوتين فرصة الاختيار بين عبارتيْ "البقاء في الاتحاد الأوروبي" أو "الخروج من الاتحاد الأوروبي"، بدلا من أن تُطلب منهم الإجابة بنعم أو لا عما إن كان ينبغي أن تبقى البلاد عضوا في الاتحاد.

وينص مشروع القانون المنظم لهذا الاستفتاء -الذي يجري الحديث عنه بكثافة منذ وعد رئيس الوزراء ديفد كاميرون بتنظيمه (في خطاب ألقاه يوم 23 يناير/كانون الثاني 2013) إن أعيد انتخابه لرئاسة الوزراء مرة أخرى في برلمانيات 2015- على مشاركة الناخبين المدرجين على قوائم الانتخابات العامة، مع استثناء مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يعيشون في بريطانيا وكذلك البريطانيين البالغين من العمر 16 و17 عاما.

تأييد ومعارضة
يختلف البريطانيون في تقييمهم لتجربة عضوية بلدهم في الاتحاد الأوروبي، فمؤيدوها يرون أن فقدانها سيضعف تأثير بلادهم على سياسات الهجرة الأوروبية، ولن يكون لها الحق في ضبط الأمن عند مدخل النفق الأوروبي بمدينة كاليه (فرنسا)، حيث يتجمع آلاف المهاجرين تحينا لفرصة الوصول إلى الشواطئ البريطانية، إضافة إلى عزل الاقتصاد البريطاني وضياع الفرص التي توفرها السوق الأوروبية الموحدة، وستكون البلاد ملزمة بدفع مبالغ أكثر للتجارة في القارة الأوروبية.

كما أن قرار الخروج من الاتحاد سيستدعي إجراء استفتاء آخر بشأن استقلال أسكتلندا -حسبما قالته رئيسة الوزراء الأسكتلندية نيكولا ستورجن- وسيعطي الحركة القومية فيها حافزا تحتاجه للانفصال عن بريطانيا. إضافة إلى أن الخروج سيحرمها من التأثير السياسي الدولي القوي لأنه يعني بقاءها لاعبا وحيدا ومعزولا في العالم.

وفي المقابل ينتقد مؤيدو الانسحاب هذه التجربة التي جعلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تحكم على بلادهم بأن تمنح حق التصويت للسجناء في الانتخابات الوطنية، ومنعها إياها من ترحيل "الإرهابيين" المشتبه فيهم إلى بلدان لها سجل سلبي في حقوق الإنسان. ويعارضون المساعي الرامية إلى تحويل المفوضية الأوروبية -التي تقوم حاليا باقتراح التشريعات وتنظيم المنافسة- إلى "شيء يشبه الحكومة"، لأن ذلك يعني احتمال قيام "دولة أوروبا المتحدة" التي تتجاوز الدول القـُطرية.

ويقولون إن 350 مليون جنيه إسترليني التي تدفعها لندن لمنطقة اليورو يمكن إنفاقها على المواطنين، ومن الممكن أن تكون البلاد جزءا من التجارة الحرة من آيسلندا إلى تركيا، وليس من الضروري أن تكون ضمن وحدة سياسية وأن تخضع للمحكمة الأوروبية، ويرون أن الانسحاب هو الخيار الآمن لكي تستعيد بريطانيا ديمقراطيتها وتحمي اقتصادها وحدوده.

كما أن قضايا مثل الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو وأزمة اليونان المالية مضافا إليهما بطء النمو وأزمة الهجرة، أسهمت في تدمير صورة الاتحاد الأوروبي في أذهان البريطانيين، ونتجت عن هذه التراكمات كلها خلاصة لدى الكثير من البريطانيين مفادها أن هناك "فشلا أوروبيا" يجب الابتعاد عنه.

وما زالت المؤشرات الحاسمة على غلبة أحد الموقفين غائبة؛ ففي استطلاع للرأي نشرته صحيفة "ميل أون صنداي" البريطانية المناهضة للاتحاد الأوروبي يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 2011 قال ثلثا الناخبين البريطانيين إنهم يريدون إجراء استفتاء على مستقبل بلادهم في الاتحاد الأوروبي، وأيد 48% منهم انسحابها منه مقابل 33% دعموا بقاءها فيه وسكوت الباقين.

وفي المقابل نشرت عدة استطلاعات أخرى أعطت دائما تقدما لمعسكر "نعم" الداعي إلى بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فقد قال 54% من الذين شملهم الاستطلاع الذي أجراه معهد كومريس لحساب صحيفة "ديلي ميل" إنهم سيصوتون لصالح البقاء فيه، وأكد 36% أنهم سيصوتون لصالح الانسحاب منه.

ومنذ يناير/كانون الثاني 2016 تشير الاستطلاعات في العموم إلى أن النسبة بين المؤيدين والمعارضين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بلغت 50% لكل منهما في استطلاعات الرأي الستة الأخيرة التي أجراها موقع "ماذا تريد بريطانيا؟". إذ أيد 40% من الذين استطلِعت آراؤهم البقاء ودعمت نسبة مماثلة الخروج ولم يحسم 20% رأيهم بعد.

وتؤكد هذه الاستطلاعات أن رئيس الوزراء كاميرون يواجه صعوبة كبيرة في إقناع البريطانيين بأهمية البقاء ضمن الاتحاد، رغم إطلاقه حملة مدتها أربعة أشهر لإقناعهم بذلك. وقالت الحملة الرسمية لأنصار البقاء في الاتحاد إنها نظمت أكثر من ألف فعالية وتجمع يوم 14 مايو/أيار 2016، بينما جرت تجمعات لأنصار الانسحاب من الاتحاد منذ انطلاق حملات الاستفتاء في الأسبوع الأول من مايو/أيار 2016.

ولا يقتصر الانقسام بشأن الاستفتاء على الجمهور البريطاني بل يشمل أيضا الأحزاب السياسية وحتى أصحاب الحزب الواحد، بما في ذلك حزب المحافظين الحاكم بقيادة رئيس الوزراء كاميرون الذي واجه في أكتوبر/تشرين الثاني 2012 تمردا كبيرا عندما رفض 81 من نواب حزبه في البرلمان (من أصل 303 نائبا للحزب آنذاك) أوامره وصوتوا لصالح فكرة إجراء الاستفتاء.

وقد سببت الحملة التي أطلقها كاميرون لتأييد بقاء البلاد في الاتحاد انقساماتٍ مريرة في صفوف حزبه، إذ إن أكثر من مئة من نواب الحزب في البرلمان (عددهم 330 وفقا لانتخابات 2015) يؤيدون الخروج من الاتحاد، إضافة إلى رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون الذي يقود معسكر الداعين إلى الخروج من الاتحاد.

وتناصر كاميرون في حملته عدةُ أحزاب في طليعتها الحزب الليبرالي الحليف له في الحكومة والذي يؤيد بقاء بريطانيا في الاتحاد، والحزب القومي الأسكتلندي الذي يمتلك 56 نائبا في البرلمان. ويقول المحللون إن كاميرون سيجبر على الاستقالة في حال خسر الاستفتاء وصوت البريطانيون لصالح الخروج. كما تدعمه أيضا دول كبرى مثل أميركا وألمانيا وفرنسا وأستراليا.

أما حزب العمال البريطاني المعارض فإنه يؤيد إجراء الاستفتاء لكنه تعهد بتنظيم حملة تدعو إلى التصويت لمصلحة البقاء في الاتحاد. وطالب بإشراك الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاما ولم يصلوا بعد إلى السن القانونية في التصويت، إذ تـُظهر استطلاعات الرأي أنهم يؤيدون بشكل عام البقاء في الاتحاد لكنهم عادة يكونون أقل ميلا للذهاب إلى مراكز الاقتراع.

تداعيات الخروج
وإضافة إلى الجمهور الشعبي والأحزاب السياسية؛ يتخوف العديد من قادة الشركات البريطانية من احتمال خسارتهم أسواقا تصديرية أساسية إذا تخلت لندن عن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، كما أن هناك جدلا بشأن تأثير هذا الخروج المحتمل على القطاع المالي البريطاني.

وأطلقت مؤسسات ومراكز بحثية تحذيرات بشأن التداعيات الاقتصادية والسياسية السلبية لخروج البلاد من الاتحاد، ويخطط العديد من مديري أكبر الصناديق التي يوجد مقرها في لندن لنقل أرصدة يبلغ حجمها تريليونات الدولارات وآلاف الوظائف إلى خارج بريطانيا إذا صوتت لصالح الانسحاب من الاتحاد خلال الاستفتاء، بسبب قوانين الاتحاد التي تسمح فقط ببيع منتجات الاستثمار في الاتحاد عندما يكون المقر الأوروبي الرئيسي للصندوق موجودا في دولة عضو.

فقد أعلن دويتشه بنك الألماني في 19 من مايو/أيار 2015 -الذي يعد ثاني أكبر البنوك في منطقة اليورو من حيث الأصول وله نشاط كبير في بريطانيا- أنه بدأ استعدادات أولية لاحتمال خروج لندن من الاتحاد.

وحذرت مجموعة متزايدة من البنوك -من بينها غولدمان ساكس وسيتي و"جي بي مورغان"- من أن خروج بريطانيا يمكن أن يضرّ موقف لندن التي تهيمن على سوق الصرف الأجنبي البالغ حجمها خمسة تريليونات دولار يوميا، وتتعامل مع كمية من الدولارات تزيد مرتين عن الولايات المتحدة، وكمية من اليورو تزيد أكثر من مرتين عن منطقة اليورو بأكملها.

ووقّع في فبراير/شباط 2016 نحو مئتيْ رئيس مؤسسة ومستثمر بريطاني (بينهم 36 رئيسا أو مديرا عاما لشركات كبرى مدرجة في بورصة لندن) رسالة مفتوحة للتحذير من مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد على الوظائف والاستثمارات في الاقتصاد المحلي.

بيد أن أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد يتهمون الحكومة والشركات الكبرى بإثارة الفزع وتضخيم المخاطر الاقتصادية، ويقولون إن عضوية الاتحاد الأوروبي "ربما تكون مفيدة للشركات الكبرى المتعددة الجنسيات لكنها آلة تدمير للوظائف بالنسبة للشركات الأصغر حجما".

وفي 26 مارس/آذار 2016 أعلنت حملة "صوتوا للخروج" الداعية لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنها تحظى بتأييد 250 من قادة الأعمال في البلاد، بينهم الرئيس التنفيذي السابق لبنك "أتش أس بي سي" ومؤسس شركة "فونز فور يو" جون كودويل، ورئيس شركة الحانات "جيه دي ويذرسبون" تيم مارتن.

وترفض هذه الحملة رأي رئيس الوزراء كاميرون وداعميه بخصوص تأثر فرص توظيف الشباب، وتقول إن الأموال التي ترسل إلى بروكسل بموجب شروط عضوية بريطانيا تزيد حجم الدين العام الذي سيسدده الشباب في نهاية المطاف.

وفي مسعى من الأوروبيين لإنجاح مهمة كاميرون في إقناع البريطانيين بالتصويت لصالح الابقاء ضمن إطار اتحادهم، دخلوا معه في مفاوضات تتعلق بتنفيذ إصلاحات في أربع نقاط قدمها كاميرون وتعتبر الأكثر إثارة للجدل. وهي تقليص الهجرة بين الدول الأوروبية، وفرض مهلة أربع سنوات قبل دفع أي مساعدات اجتماعية للمهاجرين القادمين للعمل ببريطانيا، وإعطاء دور أكبر للبرلمانات الوطنية، والتخلي عن الخطوات التي من شأنها أن تزيد من سلطات ومسؤوليات الاتحاد الأوروبي.

وقد نجح كاميرون -عبر اتفاق 19 فبراير/شباط 2016 الموقع في بروكسل- في الوصول لتسوية كفلت للندن امتيازات اقتصادية بحصولها على ضمانات بعدم التمييز ضد الجنيه الإسترليني في منطقة اليورو، ومنحتها حق تقييد الهجرة وترحيل الجنائيين والحفاظ على نظام العدالة الخاص بها؛ لكنه أخفق في تلبية مطالب أخرى كحق الفيتو على القرارات الأوروبية، وقطع المساعدات الاجتماعية نهائيا عن العمالة الأوروبية في بريطانيا.

ويرى مراقبون أن السيناريو البديل عن خياريْ الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه هو أن تبقى بريطانيا في السوق الموحدة رغم انسحابها من الاتحاد، لكنها ستفقد الحق في التأثير على قرارات الاتحاد الأوروبي ولوائحه ومن ثم ستُجبر على الالتزام بها على أية حال كغيرها من الدول الواقعة خارج الاتحاد.

يذكر أن بريطانيا تدفع سنويا 47 مليار دولار تكاليف عضويتها في الاتحاد، لكن مقابل ذلك ترتبط بعلاقات اقتصاد عميقة الجذور مع أوروبا التي توصف بأنها أكبر سوق في العالم. فالأرقام تشير إلى أن حجم الاقتصاد البريطاني يمثل سدس الاقتصادات الأوروبية مجتمعة، وأن 47% من صادرات بريطانيا موجهة للاتحاد الأوروبي الذي يضم نصف مليار مستهلك، بينما تستقبل لندن منه 53% من وارداتها.

أما عن الوظائف فهناك ثلاثة ملايين وظيفة مرتبطة مباشرة أو بصورة غير مباشرة بهذه الصادرات والواردات، بينما يزيد حجم الاستثمار الأوروبي المباشر في بريطانيا عن 700 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 50% من إجمالي الاستثمارات. وتعتمد الوظائف التي تتوافر في البلاد على استمرار عضويتها في الاتحاد، وكذلك رخص الأسعار بسبب المنافسة على 500 مليون مستهلك.

وقد تمتعت بريطانيا على الدوام بموقع خاص في الاتحاد الأوروبي، فهي ليست عضوا في فضاء شنغن ولا في منطقة اليورو وغير موقعة على ميثاق الحقوق، ولكنها ليست مستثناة من تطبيق قواعد السوق المشتركة.

المصدر : الجزيرة