العلاقات الأميركية الكوبية.. محطات التوتر والانفراج

U.S. Secretary of State John Kerry (L) shakes hands with Cuban Foreign Minister Bruno Rodriguez prior to their meeting at the Foreign Ministry in Havana, Cuba, August 14, 2015. U.S. Marines hoisted the American flag at the U.S. Embassy in Cuba for the first time in 54 years at a ceremony led by Kerry marking the restoration of diplomatic relations between Washington and Havana. REUTERS/Pablo Martinez Monsivais/Pool
وزير الخارجية الأميركي (يسار) يصافح نظيره الكوبي في هافانا يوم 14 أغسطس 2015 مدشنا عهدا جديدا في علاقات البلدين (رويترز)
شهدت العلاقات الأميركية الكوبية طوال 54 سنة محطات توتر وتصعيد ولحظات انفراج وتفاهم، وصولا إلى إعلان تطبيع هذه العلاقات وعودتها بشكل كامل. وتوج ذلك بزيارة تاريخية للرئيس الأميركي باراك أوباما لهافانا في 20 مارس/آذار 2016.
 
وقد اعتبر البعض خطوة تطبيع العلاقات "هزيمة" للإمبريالية الأميركية التي اضطرت في نهاية المطاف إلى التسليم بفشل خططها السابقة للإطاحة بالنظام الاشتراكي في كوبا الذي أثبت جدارته في مواجهة الهيمنة الأميركية، بينما رآها آخرون استسلاما من "معقل الشيوعية" في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
 
وفي ما يلي استعراض لأهم محطات العلاقات بين البلدين:

الوصاية والحصار
تعود علاقة الولايات المتحدة الأميركية بكوبا إلى نهاية القرن التاسع عشر عندما خرجت الأخيرة من طوق الاحتلال الإسباني الذي دام أربعة قرون.

فقد ساعدت الجارة الكبرى الولايات المتحدة -التي لا تبعد كوبا عن سواحلها سوى 145 كلم- هافانا في ثورتها (بقيادة الزعيم الكوبي الشاعر خوسيه مارتيه) على المحتلين لكنها لم تكن مساعدة بالمجان، إذ سرعان ما فرضت واشنطن الوصاية على البلاد إثر انسحاب الإسبان منها، ومنحت نفسها حق التدخل في شؤونها الداخلية اقتصادا وسياسة وزراعة وصناعة طوال ستة عقود.

كان آخر حكام كوبا الموالين لواشنطن هو فولغنسيو باتيستا الذي اشتهر عام 1953 بقمع الثوار الشيوعيين وعلى رأسهم المحامي الشاب فيدل كاسترو، وحين حاول باتيستا تخفيف ضغط الرأي العام فكر في مغازلة الشعب بإطلاق سراح كاسترو، لكنه لم يكن يعلم أن ذلك بداية النهاية لنظام حكمه تحت أقدام الثائرين.

فر كاسترو إلى المكسيك ومن هناك جمع بعض الثوار ودربهم على حرب العصابات، وفي عام 1956 نزل بهم إلى الشاطئ الشرقي لكوبا حيث استولوا على جبال سييرا مايسترا بمساعدة رفيق دربه وكفاحه تشي غيفارا.

زحف الثوار على العاصمة هافانا عام 1959، وأُسقط في يديْ باتيستا -الذي أوقفت عنه أميركا المساعدة 1958– ففر هاربا إلى واشنطن في 1 يناير/كانون الثاني 1959 إثر استيلاء فيدل كاسترو وزملائه الثوريين على السلطة. وهكذا شهدت كوبا واقعا جديدا أصبح بموجبه كاسترو رئيسا، وأخوه راؤول نائبا له، وغيفارا الرجل الثالث في هرم القيادة.

لم تترك الولايات المتحدة كوبا تنعم بثورتها وتبني نفسها، فرسمت إستراتيجية تهدف إلى الإطاحة بكاسترو، تقوم على الحصار والاحتواء عبر الصراع الأيديولوجي والضغط العسكري والسياسي والعقوبات الاقتصادية وتشجيع قوى الثورة المضادة، إضافة إلى إحكام العزلة السياسية والدبلوماسية على النظام الكوبي.

كما حاولت أميركا اغتيال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو مرات عدة تراوحت بين إرسال قوات كوماندوز من الكوبيين المنفيين (في عملية عرفت بـ"خليج الخنازير" عام 1961)، وتلغيم شاطئ كان يسبح فيه، وتفخيخ سيغارته.

وفي سعيها لمواجهة العداء الأميركي؛ عززت كوبا التعاون مع الاتحاد السوفياتي فزار راؤول كاسترو موسكو واتفق مع حكامها على نشر صواريخ بالستية سوفياتية متوسطة المدى على أراضي بلاده لتمكين موسكو من ضرب الأراضي الأميركية.

وقاد ذلك إلى اقتراب الدولتين العظمييْن من الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 1962، قبل توصلهما لاتفاق سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا مقابل سحب صواريخ "جوبيتر" الأميركية من تركيا، وتعهد واشنطن بعدم غزوها الأراضي لكوبا.

أما واشنطن فقد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع هافانا 1961 وفرضت عليها عقوبات سياسية واقتصادية قاسية عام 1962، وأغلق مبنى السفارة الأميركية المطل على البحر وسفارة كوبا في واشنطن منذ عام 1961 وحتى 1977 عندما أعيد افتتاحهما لخدمة رعايا البلدين.

كما علقت واشنطن عام 1962 عضوية كوبا في منظمة الدول الأميركية بسبب طبيعة النظام الماركسي الكوبي "المخالف للمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان"، قبل أن تـُحكم عليها حصارا شاملا في عام 1967 شمل جميع مرافق الحياة، إضافة إلى حظر انتقال الأشخاص والأموال والسفر والزيارات والاتصال الثقافي والعلمي وغيرها.

وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين نشطت كوبا في دعم الثوار اليساريين في العالم في إطار الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة موسكو والليبرالي بزعامة واشنطن، ولم يكن مجرد دعم سياسي أو اقتصادي بل كان أيضا دعما عسكريا في مناطق عديدة، فساعدت بالسلاح والتدريب ثوار أنغولا، ومنغستو هيلا ماريام في إثيوبيا أثناء قتاله الإريتريين والصوماليين.

أصبحت هافانا قبلة اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين في العالم، لكنها في التسعينيات كانت على موعد مع سنوات العُسر والشدة، إذ انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وغادر حلفاؤها الروس -الذين كانوا يمدونها بنحو مليون دولار يوميا- على نحو شبه مفاجئ ودون اتفاق مع الجانب الكوبي قاعدة لوردس العسكرية بالقرب من هافانا، وأعقب ذلك مع انخفاض في السعر العالمي للسكر (مادة التصدير الأولى في البلاد) منتصف التسعينيات.

ومع اضطرارها لفتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي في مجال السياحة، أعادت كوبا التعامل بعملة عدوها اللدود الدولار الأميركي عام 1993 بعد أن أدى تفتت الكتلة الشيوعية إثر انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تعرض الاقتصاد الكوبي لأزمة كبيرة، رغم ازدياد وطأة العقوبات السياسية والاقتصادية الأميركية عليها في نهاية التسعينيات.

لكن العقد الأول من الألفية الثالثة شهد تحسنا في العلاقات التجارية المحدودة بين البلدين، في ظل ارتفاع الطلب الكوبي على المنتجات الأميركية خاصة الأغذية من سبعة ملايين دولار عام 2001 إلى 718 مليونا في 2008.

الانفراجة والتطبيع
في التاسع عشر من فبراير/شباط 2008 وبعد معاناة طويلة مع المرض وعقب سلسلة من العمليات الجراحية انتقلت خلالها مهام إدارة شؤون الدولة إلى أخيه ونائبه راؤول؛ أعلن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو تنحيه عن الرئاسة، مسدلا بذلك الستار على نصف قرن من المسؤولية كان فيها أحد أهم الرموز السياسية العالمية طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

على أن الأهم من الانتقال "السلس" للسلطة بين الأخوين هو تلك الانفراجة التي شهدتها علاقات هافانا مع واشنطن، وقادت البلدين في طريق متدرج إلى تطبيع الروابط بينهما خلال ست سنوات من بداية عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما.

ويعزو المراقبون هذه الانفراجة إلى اهتمام واشنطن بالاحتياطي النفطي الثاوي في المياه الإقليمية الكوبية والذي يقدر حجمه بعشرين مليار برميل، إلى جانب 9.8 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وترحيب هافانا بقدوم الاستثمارات الأميركية.

ففي أبريل/نيسان 2009 وقبل مرور ثلاثة أشهر على تسلمه الرئاسة؛ أمر أوباما برفع حظر السفر المفروض على الأميركيين من أصل كوبي إلى وطنهم الأصلي وتمكينهم من الالتحاق بعائلاتهم هناك. وجاءت هذه الخطوة متزامنة مع زيارة وفد من مجلس الشيوخ الأميركي لكوبا في 6 أبريل/نيسان، حيث التقى بالرئيس الكوبي راؤول كاسترو في إطار محاولة إنهاء انعدام الثقة المتبادل بين الدولتين.

وفي نهاية مايو/أيار 2009 طلبت واشنطن من هافانا استئناف محادثاتهما بشأن الهجرة التي علقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عام 2003، والسماح بإرسال التحويلات المالية وإجراء محادثات حول استئناف الخدمة البريدية المباشرة المعلقة منذ عشرات السنين، وهو ما وافقت عليه كوبا فورا.

وفي 25 مارس/آذار 2010 عبر أوباما عن قلقه بشأن "القمع السياسي في كوبا"، منتقدا منع السلطات الكوبية لمظاهرات نظمتها جماعة لاس داماس دي بلانكو، ودعا إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع السجناء السياسيين في البلاد، مطالبا بـ"ضرورة احترام الحقوق الأساسية للشعب الكوبي".

وفي مارس/آذار 2011 عاد التوتر من جديد لعلاقات البلدين إثر حكم القضاء الكوبي بالسجن 15 سنة على المواطن الأميركي آلان غروس العامل في شركة متعاقدة مع الخارجية الأميركية والذي اعتقلته كوبا في ديسمبر/كانون الأول 2009.

وقد أدين غروس بتهمة توزيع عتاد اتصالات فضائية بما يخرق قوانين الجزيرة، وقالت المحكمة إنه كان يسهل إقامة شبكات سرية تسهر على تنظيم مجموعات كوبية معارضة وتسهيل وصولها إلى الإنترنت.

وفي 20 فبراير/شباط 2013 زار وفد من الكونغرس الأميركي مكون من سبعة أعضاء برئاسة السيناتور الديمقراطي باتريك ليهي العاصمة الكوبية، والتقى الرئيس الكوبي راؤول كاسترو ووزير خارجيته برونو رودريغز بهدف تحسين العلاقات الثنائية والمطالبة بإطلاق سراح غروس، وهو ما تم لاحقا مقابل إطلاق واشنطن سجناء كوبيين.

وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 2014 أعلن الرئيس الأميركي أوباما -بشكل مفاجئ وبعد أشهر من المفاوضات السرية مع الحكومة الكوبية- فتح "عهد جديد" لتطبيع العلاقات مع هافانا، وأوضح أنه سيعيد فتح سفارة بلاده في هافانا، وسيطلب من الكونغرس رفع الحظر المفروض على كوبا، مع إعادة النظر في تصنيفها كدولة راعية للإرهاب.

وأوضح أوباما أن واشنطن ستتعاون مع هافانا بشأن مكافحة "الإرهاب" والمخدرات، مؤكدا -في خطاب تاريخي من البيت الأبيض- أن "عزل كوبا لم يعط نتيجة، ولذلك سننهي سياسة عفا عليها الزمن في العلاقة مع كوبا"، في حين أعلن الرئيس الكوبي راؤول كاسترو أنه اتفق مع أوباما "على إعادة العلاقات الدبلوماسية" بين البلدين.

وقد وصفت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إعلان أوباما هذا بأنه "خطوة جريئة لإنهاء أكثر الفصول خطأ في سجل السياسة الخارجية الأميركية"، بينما انتقدتها نظيرتها واشنطن تايمز قائلة إنها تعزز رصيد أوباما في "التصرفات الخائنة".

وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2014 أعلنت الولايات المتحدة استعدادها لاستقبال الرئيس الكوبي وإمكانية سفر أوباما نفسه إلى هافانا لتكريس التقارب بين البلدين، كما كشفت روبرتا جاكسون مساعدة وزير الخارجية الأميركي أنها ستسافر هناك لعقد محادثات مباشرة هي الأولى على هذا المستوى مع مسؤولين كوبيين منذ 1980 "للبدء في عملية إعادة العلاقات الدبلوماسية".

وقد تمت هذه الزيارة بالفعل يوم 21 من الشهر نفسه وتخللتها "محادثات تاريخية" بين الجانبين، رغم معارضة النواب الجمهوريين في الكونغرس الذين هددوا بمنع صرف أموال لإعادة فتح السفارة الأميركية في هافانا، وبتعطيل تعيين سفير أميركي لدى كوبا.

وفي 1 يوليو/تموز 2015 أعلن الرئيس الأميركي أوباما أن بلاده وكوبا ستعيدان فتح سفارتيهما في هافانا وواشنطن إيذاناً ببدء "فصل جديد" في العلاقات بعد نصف قرن من العداء، وصرح قائلا "لا ينبغي أن نظل أسرى الماضي. فالأميركيون والكوبيون على حد سواء مستعدون للمضي قدماً إلى الأمام".

وفي 20 من الشهر نفسه أعيد فتح السفارة الأميركية في هافانا، بينما رُفع العلم الكوبي على مقر البعثة الدبلوماسية الكوبية بواشنطن، وأضيف إلى أعلام الدول الأخرى المرفوعة خارج مبنى وزارة الخارجية الذي استضاف اجتماعا "مطولا وبناء للغاية" بين وزير الخارجية الأميركية جون كيري ونظيره الكوبي رودريغيز، وهو أول وزير خارجية كوبي يقوم بزيارة رسمية لواشنطن منذ الثورة الكوبية عام 1959.

وفي 14 أغسطس/آب 2015 أصبح كيري أول وزير خارجية أميركي يزور كوبا منذ سبعين عاما، ورافقه -في زيارته التي أشرف خلالها على رفع علم بلاده على مبنى سفارتها بكوبا- مساعدوه وأعضاء في الكونغرس، وثلاثة من جنود مشاة البحرية كانوا قد أنزلوا العلم الأميركي بهافانا في يناير/كانون الثاني 1961.

وفي سابقة في تاريخ علاقات واشنطن وهافانا، قام الرئيس الأميركي باراك أوباما في 20 مارس/آذار 2016، بزيارة تاريخية إلى كوبا وذلك قبل شهور قليلة من انتهاء ولايته الثانية، مصطحبا معه وزير الخارجية جون كيري، وأعضاء من الإدارة و الكونغرس والشركات الأميركية إلى جانب عائلته.

المصدر : الجزيرة