لقاء الحسيني وهتلر.. تزييف إسرائيلي للحقائق

الموسوعة - الحاج أمين الحسيني والزعيم الألماني هتلر - ملاحظة مصدر الصورة _deutsches bundesarchiv
الحسيني (يسار) رأى في هتلر حليفا قويا لمحاربة عدوين مشتركين هما الحركة الصهيونية وراعيتها الدولة البريطانية (الصحافة الألمانية)
لقاء جمع الزعيم الألماني أدولف هتلر ومفتى فلسطين الأسبق الحاج أمين الحسيني، الذي ألجأته مطاردة البريطانيين المحتلين لبلاده للتحالف مع ألمانيا طلبا لدعمها في مواجهة الاحتلال البريطاني والمطامع اليهودية.

سياق تاريخي
أدت معارضة المفتي الحسيني لتزايد دور الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة في فلسطين تحت ظلال حكومة الانتداب البريطانية إلى الصدام مع الأخيرة، فأصدرت قرارا بحل اللجنة العربية العليا التي كان يرأسها، وأقصته من مناصبه كافة تمهيدا لطرده، كما نفت العديد من رفاقه إلى خارج فلسطين.

استطاع الحسيني الإفلات من البريطانيين فغادر بلاده بحرا إلى لبنان الذي أقام فيه سنتين قاد خلالهما عمليات الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1936، ثم انتقل منه إلى العراق الذي وصله في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1939، وتحت ضغط ملاحقة بريطانيا له اضطر للانتقال إلى إيران في مايو/أيار عام 1941، ثم غادر طهران حاملا جواز سفر إيطاليًا إلى روما.

وفي 22 مايو/أيار عام 1939 وقعت إيطاليا مع ألمانيا اتفاقية المحور لتنضم للحلف الألماني الياباني القائم منذ عام لمواجهة وحصار الأممية الشيوعية. وفي الثالث من سبتمبر/أيلول من العام نفسه بدأت الحرب العالمية الثانية بعد أن أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا ردا على غزوها لبولندا.

وفي العراق تشابكت الخيوط الدولية واصطدمت بالمصالح العربية واختلاف رؤى القادة العراقيين حول الموقف من طرفيْ الحرب "الحلفاء" و"المحور"، فبدأ الحاج أمين البحث عن مساندة خارجية، وهنا بدأ اتصالاته بالألمان عن طريق سكرتيره اللبناني عثمان كمال الحداد الذي تنقل ذهابا وإيابا بين العراق وألمانيا مرتين.

كانت بغداد منذ عام 1933 تحظى باهتمام ألماني خاص في أجندة السياسة الخارجية الألمانية، وساهم في ذلك وجود دبلوماسي ألماني محنك ونشط فيها يدعى الدكتور غروبا، كان له تأثير كبير في أوساط الجالية الأوروبية في بغداد، وكان ذا صلة طيبة بالضباط العراقيين الوطنيين وبكل القادة العرب القوميين من مناطق أخرى، وعبره بدأت اتصالات الحسيني مع ممثلي الحكومة الألمانية.

وفي 12 فبراير/شباط 1941 أرسل المبعوث الألماني إلى الشرق غروبا برسالة إلى الخارجية الألمانية يؤكد فيها وصول عثمان الحداد (سكرتير الحسيني) إلى برلين حاملا رسالة من الحسيني إلى الزعيم الألماني أدولف هتلر.

وأبدى الحسيني في رسائله إلى هتلر استعداده للتحالف مع ألمانيا في الحرب نظرا لوجود عدو مشترك اسمه الصهيونية، إذ إن ألمانيا النازية كانت تعادي الصهيونية والدولة البريطانية الراعية لها والمحاربة لألمانيا.

ولكن الحسيني اشترط لتحقيق هذا التحالف شروطا، هي: أن تعترف دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) بالاستقلال التام للأقطار العربية المستقلة وقتها ولتلك التي ما زالت تحت الانتداب أو تحت الحكم البريطاني. وبأن تعلن دول المحور بصورة قاطعة أن ليست لها أية مطامع استعمارية في مصر والسودان.

كما طالب بالاعتراف للأقطار العربية بحقها في إقامة الوحدة العربية وفق رغبات أهلها، وبعدم الاعتراف بالوطن القومي اليهودي في فلسطين وتمكين الأمة العربية من إلغاء هذا المشروع.

وقد ردت ألمانيا على طلبات الحسيني برسالة من وكيل الخارجية الألمانية فون فايسكر أكد فيها أن "ألمانيا تعترف باستقلال البلاد العربية استقلالا تاما….، وإن كلا من الأمتين الألمانية والعربية متفقتان على الكفاح ضد عدوهما المشترك الإنجليز واليهود، وألمانيا مستعدة للعمل المشترك معكم ومساعدتكم مساعدة عسكرية فعالة على قدر الاستطاعة، إذا اضطررتم إلى الحرب ضد الإنجليز لتحقيق أهداف شعبكم".

وهكذا كان أمل الحسيني أنه إذا ما انتصرت قوى المحور فإن بريطانيا ستخرج من فلسطين والشرق الأوسط، ولن تكون هناك فرصة لليهود ليقيموا دولتهم في فلسطين.

وصل الحسيني إلى العاصمة الألمانية برلين في الأسبوع الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1941 قادما من إيطاليا حيث قابل زعيمها موسوليني حليف ألمانيا القوي، وفي 28 من الشهر نفسه استقبل هتلر الحسيني في مقر الرايخ الألماني بوصفه "مفتي القدس الأكبر وأحد أكثر رجال حركة التحرر العربي تأثيرا".

مجريات ونتائج
يحكي الحسيني في مذكراته -الصادرة عام 1999 بعنوان "مذكرات محمد أمين الحسيني"- بعض ما صرح به هتلر إليه في لقائهما، إذ قال له "إن خطط الكفاح واضحة، وهي أولا أنني أكافح اليهود بلا هوادة، ويدخل في هذا الكفاح ما يقال له الوطن القومي اليهودي بفلسطين، لأن اليهود إنما يريدون أن يؤسسوا دولة مركزية تساعدهم على مقاصدهم التدميرية ونشاطهم الهدام بدول العالم".

وأضاف هتلر "إنه لمن الواضح أن اليهود لم يقوموا بعمل إنشائي في فلسطين، وادعاؤهم هذا كذب فإن كل الأعمال الإنشائية التي أقيمت في فلسطين يرجع فضلها إلى العرب لا إلى اليهود، إنني مصمم على أن أجد حلا للمشكلة اليهودية خطوة فخطوة وبدون انقطاع، وإنني سأوجه الدعوة اللازمة إلى جميع البلاد الأوروبية ثم إلى البلاد التي هي خارج أوروبا في هذا الشأن".

ومن جانبه ألح الحاج أمين في المطالبة بمعاهدة رسمية بين العرب ودول المحور، لكن هتلر قال ما معناه إنه ينبغي للطرفين أن ينتظرا ما ستسفر عنه معارك الحرب الدائرة، نظرا لحساسية الأمر وخشية من استغلال معسكر الحلفاء (بريطانيا وفرنسا أساسا) له ضد الطرفين.

قامت الدعاية الألمانية بتصوير اللقاء بين الزعيمين واستثماره للترويج للموقف الألماني في الحرب الدائرة بين القوى الكبرى في أوروبا، باعتبار أن اللقاء كان بداية لما سُمي بالتحالف بين القيادة الفلسطينية والعملاق النازي ضد الإمبراطورية البريطانية.

وبعد أن اطمأن الحسيني لموقف دول المحور من المطالب العربية شرع في تهيئة المناخ من حوله للعمل الجاد في هذا الحلف، فأنشأ في نهاية مارس/آذار عام 1942 "مركز الأنباء العربي" الذي كان يصدر نشرة إخبارية بعنوان "بريد الشرق"، وهي التي كانت تنشر نصوص خطبه الحماسية الداعمة لدول المحور، والتي كان يلقيها على الجماهير العربية عبر إذاعة برلين العربية.

كان من نتائج هذا التحالف أن أصبح الحسيني يتصرف وكأنه سفير العالم العربي في برلين، فقد كان يقيم حفلات استقبال للشخصيات المؤثرة في النظام والمجتمع الألمانيْين، وكان مهتما بتعريف المجتمع الألماني بالإسلام ككل لتبديد الأحكام المسبقة ضد الإسلام والمسلمين، ودعا إلى إقامة مؤسسة بحثية وإعلامية تُعنى بالتعريف بالإسلام.

ولما وقع عدد من العرب الذين كان الإنجليز يستخدمونهم عمالا في اليونان أسرى في أيدي الألمان ومعظمهم من الفلسطينيين, اتفق الحسيني مع السلطات الألمانية على إخراجهم جميعا من معتقلات الأسر وإرسالهم إلى ميادين التدريب العسكري لتخريجهم ضباط صف وجنودا مغاوير (كوماندوز)، فكان يزورهم ويخطب فيهم، فأصبحوا النواة الأولى لتكوين قوات عربية في جيوش دول المحور.

وفي خضم التراجع العسكري الألماني أمام معسكر الحلفاء؛ نجح الحسيني نهاية عام 1944 في الحصول على دعم عسكري ألماني، تمثل في إرسال كوماندوز يتألف من ثلاثة ضباط ألمان واثنين من الثوار العرب، لفتح جبهة عسكرية ضد المحتلين على الأراضي الفلسطينية.

وقد أنزل الكوماندوز بالمظلات قرب البحر الميت خلف خطوط البريطانيين، ومعهم معدات اتصال بالراديو وبعض الأسلحة وكميات كبيرة من المتفجرات والنقود، لكن المهمة فشلت بسبب صعوبات لوجستية اعترضتها فاعتقل الإنجليز أغلبية أفراد البعثة.

وعندما انهارت ألمانيا عسكريا أواخر أبريل/نيسان عام 1945، غادر الحسيني برلين طالبا اللجوء في سويسرا، لكن الأخيرة أبعدته إلى فرنسا حيث وضع قيد الإقامة الجبرية في فيلا بالقرب من العاصمة باريس حتى تمكن من الهرب إلى مصر.

 ردود فعل
استعملت القوى الصهيونية وحلفاؤها العالميون حادثة لقاء الحسيني وهتلر ذريعة لمحاربة القضية الفلسطينية ودمغ الفلسطينيين بأنهم أسوأ من هتلر، تبريرا للمشروع الصهيوني ولطرد الفلسطينيين الذي حدث في النكبة 1948. فطالبت دول أوروبية بمحاكمته باعتباره "مجرم حرب" ومن مؤيدي النازية.

وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول 2015 اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -في كلمة أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس- الحسيني بأنه هو الذي أقنع هتلر بـ"إحراق اليهود"، قائلا إن هتلر لم ينو إحراق اليهود وإنما أراد فقط طردهم من بلاده، لكن الحسيني قال له إنه إذا طردهم فسيأتون إلى فلسطين ونصحه بإحراقهم.

لكن تصريحات نتنياهو هذه انتقدها الكثير من اليهود بمن فيهم ناجون من المحرقة، فقد قال زعيم المعارضة الإسرائيلية يتسحاق هرتسوغ إن "المفتي التقى هتلر في عام 1941 بينما بلورت النازية الحل النهائي في الثلاثينيات من القرن الماضي". وطالب نتنياهو بتصحيح كلماته "على الفور"، لأنها "تشويه خطير للتاريخ".

ومن جهته قال المؤرخ اليهودي برنارد لويس -في تصريحات صحفية- إن النازيين "لم يحتاجوا للتشجيع على المحرقة". وهذا ما أكده أيضا المؤرخ موشيه تسيمير، محذرا من "تحرير النازيين وهتلر من مسؤولية المحرقة وتحويلها للعرب، فهذه خدعة مدمرة تهدف لوصم العرب بأيامنا بما فعله سابقوهم".

كما يرى المؤرخ الإسرائيلي إيفي شلايم أن الحسيني "قال إنه لم يكن لديه تعاطف مع أيديولوجية ألمانيا النازية، السبب في تحالفه أثناء الحرب كان عمليا ولصالح شعبه، بريطانيا كانت العدو والصهاينة كانوا العدو الآخر، وهناك مقولة تذكر إن عدو عدوي هو صديقي، ألمانيا كانت عدوا لبريطانيا ولليهود وهذا أساس لسبب تعاون المفتي مع دول المحور".

بل إن منظمة "يد فاشيم" الإسرائيلية المعنية بتخليد ذكرى "المحرقة النازية" انتقدت تصريحات نتنياهو عن الحسيني، واعتبرتها "عارية عن الصحة".

وقالت المؤرخة في تلك المنظمة دينا بورات إن "أقوال نتنياهو غير صحيحة بكل المعايير، وهتلر لم يكن بحاجة لمساعدة أو تشجيع في جرائمه ولا علاقة قط للمفتي أمين الحسيني بها، والسجلات التاريخية الخاصة بلقاء هتلر والمفتي في نهاية 1941 تنفي ذلك، والمحرقة بدأت قبل ذلك بكثير". كما أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أكدت -خلال استقبالها نتنياهو- مسؤولية الألمان عن المحرقة.

وعلى كل حال فإن تصريحات نتنياهو المتهمة للمفتي تكررت قبله من أوساط صهيونية كثيرة حتى في حياة الحسيني نفسه، إذ إنه تطرق لهذه التهمة في مذكراته.

وضمن هذا السياق، كتب الحسيني "بذل اليهود الصهيونيون أقصى جهودهم لمحاكمتي كمجرم حرب في محكمة نورمبرغ، ولما كانت مواد القانون الذي أصدره الحلفاء في صفة مجرمي الحرب لا تنطبق علي، فقد عمد اليهود إلى تلفيق تهم تحقق أمنيتهم، منها أنني حرضت السلطات الألمانية النازية على إبادة اليهود، وأني كنت السبب في القضاء على ملايين من اليهود".

وقال الحسيني إنه أخبر الزعيم الإيطالي موسولوني عند مقابلته إياه بأن "مقاومتنا للوطن القومي اليهودي لم تكن بحافز من التعصب الديني، بل كانت دفاعا عن كياننا وذودا عن بلادنا، وعلاقات المسلمين والمسيحيين في الأقطار العربية هي علاقات وثيقة بين مواطنين متحدين ومتعاونين". كما أن هناك عصابات صهيونية كانت هي الأخرى على علاقة بالنازية الألمانية.

المصدر : الجزيرة