الملكية البرلمانية.. ملك يسود ولا يحكم

Britain's Queen Elizabeth smiles as she attends China's President Xi Jinping's official welcome ceremony in central London, Britain October 20, 2015. Xi is on a state visit to Britain. REUTERS/Alastair Grant/Pool
النظام الملكي في بريطانيا يعد نموذجا للملكية البرلمانية (رويترز)

شكل من أشكال النظام السياسي، ويتميز بوجود عاهل سواء أكان ملكا، أو إمبراطورا، أو قيصرا، على قمة الهرم السياسي للبلاد دون أن يكون ضالعا بشكل واسع في صوغ وتنفيذ القرارات السياسية التي هي من شأنِ حكومة منبثقة عن مجالس تمثيلية (برلمان)، يتم انتخابها عبر الاقتراع العام المباشر، ومسؤولة أمامها.

ففي الملكية البرلمانية يسود العاهل ولا يحكم، ويكون دور العاهل رمزيا وتمثيليا رغم أنَّه هو من يُكلف رئيس الحكومة ويُعين الوزراء، لكنَّ ذلك لا يتعدى نطاق الرمزية والتقدير الذي يحظى به بوصفه ممثل الدولة، وواحد من أهم رموز السيادة الوطنية.

النشأة
نشأت الملكية البرلمانية في بريطانيا، فمنذ القرون الوسطى أبدى البارونات والوجهاء معارضة شرسة لاستبداد النظام الملكي، وكانت تلك المعارضة عنيفة في بعض الأحيان، لكنَّها حظيت بشعبية واسعة نظرا لما تُبشر به من تقليص سلطات الملك وإخضاع قراراته وأفعاله للرقابة بواسطة جمعية تمثيلية (برلمان)، وهذان الأساسان -كما هو معروف- سيُشكلان حجر الزاوية في الديمقراطية الحديثة.

مع تنامي نشاط النبلاء المطالب بتحديد سلطات الملك، اضطر الملك جان سان تير إلى التنازل عن بعض صلاحياته، وجُسد ذلك التنازل في ما يُعرف في أدبيات السياسية البريطانية "بالميثاق الكبير" الذي أُقر في 15 يونيو/حزيران 1215 ونصَّ على تقليص صلاحيات الملك وإلزامه بالتشاور مع حكومته ومع المجالس المحلية التي تشكلت بناء على الميثاق وشكَّلت نواة البرلمان البريطاني.

بيد أنَّ هذا التحول الأولي سيتلقى ضربة موجعة بعد ذلك بثلاثة قرون، ففي عام 1534 أعلن "هانري الثامن" نفسه قائدا روحيا لبريطانيا، واستولى على كل أملاك الكنيسة، وبدأ يَنزع إلى الاستبداد، وسيتكرسُ هذا النهج في القرن التالي.

وفي أواسط القرن الـ17، اندلع خلاف سياسي مرير بين الملك شارل الأول والنبلاء إثر إعلان هؤلاء رفضهم النزعة الاستبدادية للملك، لينتهي الأمر إلى حرب أهلية طاحنة انتهت بقتل الملك في الثلاثين من يناير/كانون الثاني 1649، وانتصار خصومه بقيادة اللورد "أولفييه كروم ويل"، الذي أعلن نفسه وصيا على العرش، وأرسى نظاما دكتاتوريا دمويا سقط في ثورة شعبية قُتل هو نفسُه خلالها عام 1658.

وفي 1689، قبل الملك شارل الثاني بإقرار قانون منع التوقيف التعسفي، مفسحا المجال أمام عهد من الحريات السياسية سيَنتهي عام 1689 بتتويج البرلمان للأميرة (ماري) ابنة شارل الثاني وزوجها "غيوم" اللذين وافقا فورا على قانون الحريات الذي يُقلص صلاحيات الملك بشكلٍ كبير ويمنح سلطات واسعة للبرلمان، وانتهت هذه الثورة العاصفة في أولها نهاية هادئة ونقلت بريطانيا إلى الملكية البرلمانية.

الميزات
تستند الملكية البرلمانية إلى النظام البرلماني القائم على فصل السلطات، وإن كان هناك تداخل قوي وتكامل حيوي بين الحكومة والبرلمان، فهي منبثقة عنه، أيْ أنَّها تُعبر عن موقف الأغلبية داخل البرلمان لكنَّها في الوقت نفسه مسؤولة أمامه وتخضع للمساءلة عن برنامجها السياسي، كما يمكن للبرلمان أنْ يَحجب ثقته عن الحكومة إذا ما تحققَ النصاب القانوني لذلك وفق النصوص الساري بها العمل.

من ميزات الملكية البرلمانية أيضا الفصل الكامل للسلطات، إذ تتمتع الحكومة والبرلمان باستقلال ذاتي لكل واحد عن الآخر، أما الملك فيتمتع بمكانته الرمزية والقيمية، بوصفه ممثل الدولة وضامن الدستور، وهو من يُكلف زعيم الأغلبية (حزب أو ائتلاف سياسي) بتشكيل الحكومة ويُصادق على تسمية الوزراء وتعيين الحكومة، لكنَّ صلاحياته في هذا الصدد تتوقف عند هذه الحدود.

فليس له قرارُ إعلان الحرب أو التدخل في تدبير الشأن الحكومي أو التأثير في التوجهات الحكومية، حتى وإنْ لم يرضَ عنها، بحكم أنَّ القرارات المصيرية تهم مستقبلَ الأمة بأسرها، وبالتالي لا يُمكن الحسم فيها إلا من قبل الحكومة المفوضة شعبيا عبر الاقتراع العام المباشر. وتحريم الخوض في الشأن السياسي على العاهل تُمليه أولا طبيعة النظام البرلماني، ثم دور العاهل كحَكم بين القوى السياسية، مما يَمنع عليه تنبني أي موقف قد يُفهم منه تصريحا أو تلميحا دعما معينا لجهةٍ سياسية على حساب أخرى.

الملكية البرلمانية والملكية الدستورية
تتداخل الملكية البرلمانية مع الملكية الدستورية على نحوٍ كبير يُثير اللبس أحيانا، بيد أنَّ ملاحظة بعض الخصائص تساعد في التمييز ببين النظامين المتقاربين؛ فالنظام الملكي البرلماني هو في الواقع مرحلة متقدمة من "دمقرطة" الملكية الدستورية بإخضاعها أكثر لمفهوم السيادة الشعبية المعبر عنها بالاقتراع العام المباشر.

وبالتالي، فإنَّ الصلاحيات تتناسبُ طرديا مع مستوى التفويض، فرئيس الوزراء مثلا أوسع صلاحيات من العاهل بحكم التفويض الشعبي المعبر عنه في الانتخابات العامة بالنسبة للأول، لكن في المقابل فإنَّ رئيس الوزراء معرضٌ للمساءلة أكثر من العاهل، وهذا مرتكز آخر من مرتكزات الملكية البرلمانية، وهو ربط المسؤولية بالتفويض الشعبي وبالمحاسبة في الآن نفسه.

وعكس حاله في الملكية البرلمانية، فإن العاهل يتمتع بصلاحياتٍ أوسع في الملكية الدستورية، وإنْ كان محكوما بحدود يُحددها الدستور، وهنا أحد الفوارق المهمة بين الملكية الدستورية والملكية المطلقة.

لكن الإشكال المزمن في هذه الحالة هو مصدر الشرعية التي يُمارس بموجبها العاهل صلاحياته، لا سيما إذا كان نظام الحكم وراثيا. وهنا يَدفع بعض أنصار الملكية الدستورية بما يسمونه الشرعية التاريخية، وهي أنَّ الأسرة الحاكمة بنت نوعا من الشرعية مع رسوخ حكمها في الزمن ومواكبتها مختلف مراحل تطور الدولة والأزمات التي عرفتها، كما قد يكون لبعض الأسر الحاكمة مواقف وطنية مشهودة تُعزز هذه الشرعية.

نماذج
تنهج الملكيات العريقة في أوروبا (وعددها سبع) نهج الملكية البرلمانية، ومردُّ ذلك إلى المسار التاريخي الطويل الذي سلكته للتبلور في شكلها الحالي، والذي مكنها من المرور بعدةِ مراحل وبأنماط مختلفة من الحكم، مما جعل تجربتها أكثر نضجا، وأسرها الحاكمة أكثرَ قناعة بمبدأ السيادة دون الحكم. ومن هذه النماذج بريطانيا، وإسبانيا، وهولندا، والدانمارك، والسويد.

أما الملكيات الدستورية التي يحظى فيها العاهل بحضور سياسي قوي فأغلبها يصدرُ عن فضاءات اجتماعية وثقافية لها تقاليد عريقة في الاستبداد، ولم تعرف تطورا ذا شأن في المجال السياسي، وبالتالي ظلت أنماط الحكم السائدة فيها رهينة بالميراث السياسي القديم الذي لم يعرف المفاهيم الناظمة للدولة الوطنية الحديثة، كما نشأت في الغرب وانتشرت عبر العالم.

كما لم يستطع إنتاج أنموذج ذاتي نابع من الصيرورة التاريخية لتلك المجتمعات. وهكذا ظلَّت كل محاولات التحديث بالنسبة لهذه الدول مسكونة بهاجس الاحتفاظ بنصيب وافر من السلطة دون القبول بمواجهة ما يترتب عليه من استحقاقات، أهمها التفويض والمسؤولية والمحاسبة.

ومن الدول الآخذة بالملكية الدستورية في المنطقة العربية المغرب، والبحرين، والكويت، والأردن.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية