العدالة الانتقالية

الموسوعة - epa03783998 Bosnian men and women pray during the burial of 409 newly-identified Bosnian Muslims at the Potocari Memorial Center in Srebrenica, Bosnia and Herzegovina, 11 July 2013, as part of a memorial ceremony to mark the 18th anniversary of the Srebrenica massacre, considered the worst atrocity of Bosnia's 1992-95 war. More than 8,000 Muslim men and boys were executed in the 1995 killing spree after Bosnian Serb forces overran the town. EPA/VALDRIN XHEMAJ
مجزرة سربرينتشا التي ذهب ضحيتها ثمانية آلاف مسلم عام 1995 أكدت أهمية محاكمة الضالعين في جرائم الحرب (الأوروبية)

مجموعة إجراءات وتدابير، بعضها قانوني وقضائي، هدفها معالجة إرث ثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان لتمكين مجتمع معين من أسباب الاستقرار والسلم الاجتماعي بعد حقبة من الحرب الأهلية أو الحكم الدكتاتوري.

وتقوم العدالة الانتقالية -تقليديا- على أربعة أسس، هي: محاكمة وكشف الضالعين في الانتهاكات، وكشف حقيقة الانتهاكات، وتعويض الضحايا والاعتذار أحيانا من قبل الدولة إذا كانت الجرائم ذات طبيعة عرقية، ثم الإصلاح الإداري والمؤسسي بما يُمكّن من ضمان عدم تكرار الانتهاكات.

النشأة
يُرجع بعض الباحثين أصل مفهوم العدالة الانتقالية إلى محاكم نورنبيرغ (1945)، حيث عمدت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى توسيع نطاق آليات القانون الجنائي في حينها، لتُمكن من محاكمة قيادات عسكرية وسياسية بعينها في النظامين النازي والياباني، مع التركيز على الجرائم التي ارتكباها، وليس من منطلق انتمائهم الأيديولوجي فقط.

وقد جنّب هذا التوجه بعض أركان النظامين المتابعة القضائية، لكنَّه مكّن من إبراز الجانب الجنائي والحقوقي في تجاوزات الأنظمة المهزومة، مما كان له أثر حاسم في تعزيز الوعي الحقوقي على المستوى الدولي، وبروز فعاليات مؤسسية على المستوى الدولي جعلت القضية الحقوقية عبر العالم قضيتها الأولى.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ المكاسب المحققة في المجال الحقوقي على المستوى الدولي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، هي الأهم في التاريخ الحديث والمعاصر. ويعود الفضل الأكبر فيها إلى الحركة الحقوقية التي نشأت في الخمسينيات، منطلقة من دروس الحرب العالمية ومحاكم نورنبيرغ. 

التطور
لن يعرف مفهوم العدالة الانتقالية ازدهاره ويُصبح حقلا مستقلا للبحث في القانون الدولي إلاَّ مع تجارب الانتقال الديمقراطي في أوروبا وأميركا الجنوبية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

فقد صاحبت محاكمات أعضاء النظام العسكري في اليونان (1975) والأرجنتين (1983) تعبئة حقوقية دولية واسعة أججها ما تكشف من فظاعات ارتكبتها تلك الأنظمة خلال فترات حكمها، وقد فرضت هذه التعبئة منح أهمية خاصة للجانبين الجنائي والحقوقي في التحول السياسي، وعدم اقتصاره على متابعات فردية تُبنى على دعاوى فردية أو جماعية محدودة في أحسن الأحوال.

ورفعت التعبئة الحقوقية شعارَ "العدالة الجنائية" بوصفها قاعدة أساسية لتحقيق العدالة الانتقالية التي تجعل من كشف الانتهاكات ومعاقبة مرتكبيها ووضع آليات منعها مستقبلا هدفها الأسمى، ومبتغاها الأبعد.

الأهداف
ترمي العدالة الانتقالية أولا إلى القطيعة مع الإفلات من العقاب وترسيخ ثقافة المسؤولية الجنائية لدى الدولة ومؤسساتها، وكذلك لدى الأفراد؛ فهي تشمل الرئيس والشرطي دون تفرقة إلا في حجم الانتهاكات المرتكبة ومستوى المسؤولية.

والواقع أنَّ ترسيخ ثقافة عدم الإفلات من العقاب يُسهم تلقائيا في تعزيز الديمقراطية ودولة القانون القائمة في الأصل على ربط المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة. لكن العدالة الانتقالية مع صرامتها لا تسعى إلى العقاب في جوهرها، وإنما إلى تحديد المسؤوليات وجبر الضرر وإعادة الثقة للضحايا في الدولة والمجتمع وفي قدرتهما على حمايتهم، وهي قيم حيوية للتماسك الاجتماعي والاستقرار. 

آليات
يجري تحقيق العدالة الانتقالية على مستويين: فداخليا يلزم تحقق إرادة سياسية جادة في تحقيق العدالة الانتقالية تُلغي الحسابات السياسية لصالح التأسيس لدولة الحق والقانون، وهنا يبرز تحد كبير وهو قدرة النظام القائم (إن كان هو المسؤول عن الجرائم) على تناول حقبة مظلمة من تاريخه وتحمل المسؤولية التاريخية عنها.

ومكمن الصعوبة في مثل هذا القرار هو ما قد يُرتبه من انعكاسات سياسية قد تُهدد النظام نفسه، كقيام ثورة شعبية ضده، أو إقدام بعض أركانه على تنفيذ عملية انقلابية شاملة من منطلق الخوف على أنفسهم من المتابعات القضائية.

وعلى المستوى الدولي، تتحقق العدالة الانتقالية بإقامة محاكم خاصة تضطلع بالمتابعات القضائية ضدَّ الضالعين في جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم التعذيب والإبادة.

ومن أشهر المحاكم الخاصة المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة برواندا. وقد نجحت هاتان المحكمتان في جرّ عدد من المتهمين إلى العدالة، لكنَّها ظلت مكبلة بحسابات السياسة في متابعاتها بعض القادة السياسيين. ومعلوم أن هذه المحاكم لا تتوفر على آليات تنفيذية لإنجاز العدالة، وتعتمد كليا على تعاون حكومات العالم في توقيف وتسليم المتهمين.

ولوضع آلية دولية للتصدي لجرائم الحرب والجرائم المرتكبة في حق الإنسانية، أسست محكمة الجنايات الدولية عام 2002 بناء على معاهدة روما الموقعة قبل ذلك بأربع سنوات.

وقد أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال في حق رئيس السودان عمر البشير بعد اتهامه بالمسؤولية السياسية عن العنف في دارفور، وفي عام 2015 مثل رئيس كينيا أوهيرو كنياتا أمامها للشهادة في أحداث العنف العرقية اللاحقة على رئاسيات 2007. ورأى الاتحاد الأفريقي في اقتصار المتابعات على الزعماء الأفارقة تطفيفا طعنا في مصداقية المحكمة.

 

نماذج
شهدت الأرجنتين أعمال قمع واسعة النطاق تحت الحكم العسكري بين 1976 و1983، قضى فيها نحو 15 ألف شخص وعُدَّ ضعفهم مفقودين، وبلغ عدد السجناء الذين أُفرج عنهم بعد التحول الديمقراطي تسعة آلاف، في حين دَفعت سياسات القمع مليون ونصف المليون شخص إلى اللجوء.

وبعد التحول السياسي عام 1983، أنشأ الرئيس ألفونسان لجنة وطنية للتحقيق ضمت حقوقيين ومنظمات أهلية وممثلين عن الكنيسة، وكانت الأولى من نوعها في العالم، وأسندت إليها مهمة التحقيق في الماضي الحقوقي للبلاد وكشف الجرائم المرتكبة ومنفذيها والمسؤولين عنها، ووضع الآليات الكفيلة بمنع وقوعها في المستقبل.

وتُوّج ذلك المسار بمحاكمة أبرز قيادات النظام العسكري والحكم عليهم في 1986، لكن خليفة ألفونسان في الحكم كارلوس منعم، يُصدر عفوا عاما عن العسكريين في 1989.

وشهدت جنوب أفريقيا هي الأخرى تجربة العدالة الانتقالية بعد إلغاء نظام التمييز العنصري عام 1991، وشُكلت لجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة القس ديزموند توتو، وعلى مدى ثلاث سنوات استمعت اللجنة لشهادات الآلاف من ضحايا "الأبارتايد"، وحُكم على الآلاف من المسؤولين وعناصر الشرطة، واستفاد آخرون من العفو الذي كان مشروطا بالاعتراف بالجريمة والتأكد من أنَّها ارتُكبت عن "حسن نية"، ومع ذلك فإنَّ تجربة جنوب أفريقيا تعثرت لعدم نفاذ العدالة وطول الإجراءات.

ودشَّن المغرب، بعد جلوس الملك محمد السادس على العرش عام 1999، مسار عدالة انتقالية، كان هدفه إلقاء الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدتها البلاد بين 1956-1999،
والتي تُعرف "بسنوات الرصاص".

وفي عام 2004 شُكَّلت لجنة الإنصاف والمصالحة، حيث استمعت لشهادات مئات الضحايا رغم أنَّه كان مفروضا على الشهود عدم ذكر أسماء جلاديهم، وهو ما جلبَ على التجربة الكثير من النقد، لا سيما في غياب أي محاكمة للضالعين في الانتهاكات، وإن كان يُحسب للتجربة إلقاء الضوء على تلك الحقبة المظلمة من تاريخ البلد.

عُوّض الضحايا ماديا، وفضلا عن ذلك فإن التجربة عزَّزت حضور الهم الحقوقي في المشهد العام بالبلاد من خلال توصيات اللجنة، خاصة ما يتعلق منها بخلق هيئات للرقابة والرصد وتشجيع المجتمع المدني.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية