محمد إسعاف النشاشيبي.. فارس العربية وخطيبها في فلسطين

محمد إسعاف النشاشيبي (1882م-1948م) أديب وكاتب وشاعر فلسطيني ولد في مدينة القدس. جمع بين الثقافة والعلم والأدب، وكان أحد فرسان اللغة العربية، حتى إن بعضهم وصفه بأنه كان "معجم لسان العرب يمشي على قدمين".

يعدّ أحد أعمدة مدينة القدس الفكرية، وكان منزله الواقع في حي الشيخ جراح بالمدينة المقدسة بيتا للفكر والتراث وملتقى لحلقات العلم والثقافة سواء للمقدسيين أو الوافدين.

المولد والنشأة

ولد الشاعر والخطيب محمد إسعاف عثمان النشاشيبي في القدس عام 1882، وهو سليل أسرة مقدسية عريقة. كان والده عثمان النشاشيبي من أثرياء مدينة القدس، واسم والدته فاطمة أبو غوش.

دافع محمد إسعاف عن اللغة العربية الفصحى الخالصة، وحمل على دعاة العامية. كانت له كنيتان: الأولى أبو الفضل، وهي كنية بديع الزمان الهمذاني، وتكنّى بها لتعلقه به ونسجه على منواله في مقاماته. والكنية الثانية أبو عبيدة، ولعلها كانت اقتداء بأبي عبيدة معمر بن المثنى، اللغوي الأخباري المشهور.

كذلك كان له لقبان، الأول أديب العربية والثاني خطيب فلسطين، لأنه أخذ على نفسه الدفاع عن العربية بأسلوب حماسي يعتمد الخطابة. وقال في مقدمة كتابه "البستان" إن "اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة، وضعف الأولى ضعف للثانية، وهلاك الثانية هلاك للأولى". ووصفه خليل السكاكيني بأنه "معجم لسان العرب يمشي على قدمين".

الدراسة والتكوين

حرص منذ صغره على حضور المنتديات التي كانت تقام في بيت والده، فأكسبه ذلك لسانا فصيحا وثقافة واسعة.

بدأ دراسته في كتاتيب القدس، ثم في مدرسة "الفرير" الفرنسية، قبل أن يقرر والده إرساله إلى دار الحكمة في بيروت حيث درس على يد كبار الأساتذة، من أمثال الشيخ عبد الله البستاني والشيخ محيي الدين الخيّاط والشيخ مصطفى الغلاييني.

تعلّم اللغة الفرنسية وألمّ بها، فأتاح له ذلك قراءة القصص العلمية والصحف الفرنسية، وتعلق بالأدب منذ صباه، فقرأ كتبا في التراث، وكان من المطلعين عن كثب على آثار المتنبي ومن المعجبين به، فضلا عن اطلاعه الواسع في مجالات عديدة.

التجربة العلمية والفكرية

بعد تخرّجه عاد إلى القدس 1905، وعمل في مجال التربية سنين عددا، وتنقل في وظائف مختلفة، فعمل في مجال الثقافة كاتبا وأديبا وخطيبا، وكان إلى جانب ذلك عالما مدققا ومحللا.

تولى سنة 1908م لفترة وجيزة رئاسة تحرير مجلة "الأصمعي" التي أصدرها حنّا العيسى بعد الإعلان عن إعادة العمل بالدستور العثماني.

ثم راح ينشر مقالاته في مجلة "النفائس" لصاحبها خليل بيدس، وفي مجلة "المنهل" لصاحبها محمد موسى المغربي.

نَظَم النشاشيبي الشعر ونشر معظم قصائده في مجلة "النفائس"، كما اهتم بالاطلاع على كتب الأدب العربي القديم وعلى نتاجات الفلاسفة الغربيين، وكان لقضية فلسطين نصيب وافر من اهتماماته، فعبّر عن حزنه وألمه لما أصاب وطنه بقوله في قصيدة عن فلسطين والاستعمار الأجنبي:

يا فتاة الحي جودي بالدماء   بدل الدمع إذا رمت البكاء

فلقد ذلت فلسطين ولم       يبق يا أخت العلا غير دماء

إنها أوطانكم فاستيقظوا       لا تبيعوها لقوم دخلاء

كيف ترجون حياة بعدها      ونعيما وهناء وصفاء

الوظائف والمسؤوليات

بدأ عمله مدرّسا للغة العربية في المدرسة الصلاحية في القدس، كما أسهم في نشاطات "النادي العربي" الذي كان يعمل لاستقلال فلسطين، وعُيّن أستاذا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية، ثم مديرا لها، فمفتشا عاما للغة العربية في إدارة المعارف العامة، يشرف على وضع منهاج تدريس اللغة وتصريف شؤون المعلمين، كما كُلف بالإشراف على تدريس مادة الديانة الإسلامية.

انتخب النشاشيبي سنة 1923 عضوا في المجمع العلمي العربي في دمشق، وشرع يكتب في مجلة المجمع ابتداء من سنة 1924. واستقال سنة 1929م من عمله مفتشا للغة العربية بعد أن اشتد الخلاف بينه وبين إدارة المعارف البريطانية في فلسطين، وتفرغ للكتابة والأدب والخطابة وإلقاء المحاضرات، وكان يقوم برحلات سنوية إلى مصر والشام.

شارك النشاشيبي مندوبا عن القدس في أعمال المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في مدينة القدس بين 7 و17 ديسمبر/كانون الأول 1931.

واختير أمينا لسر "لجنة الدعوة والإرشاد" في المؤتمر، كما شارك في أعمال المؤتمر العربي القومي الذي عقد في 13 ديسمبر/كانون الأول 1931، وكان بمنزلة المهد الذي نشأ فيه "حزب الاستقلال العربي" الفلسطيني.

نشر النشاشيبي منتخبات من قراءاته في مجلة "الرسالة" المصرية تحت عنوان "نقل الأديب"، وواصل نشرها بانتظام بين عامي 1937 و1947. وكان يوقّع مقالاته بأسماء مستعارة مثل "القارئ" و"السهمي" و"هاشم العربي" وغيرها.

هاجر إلى القاهرة عام 1947، وجمعته علاقات جيدة مع الشاعر المصري أحمد شوقي، وشارك في مهرجان باسمه (أحمد شوقي) أقيم لمبايعته على إمارة الشعر العربي.

منحته الحكومة اللبنانية سنة 1947 "وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب" تقديرا لجهوده في سبيل نهضة اللغة العربية، كما منحته منظمة التحرير الفلسطينية في يناير/كانون الثاني 1990 وسام القدس للثقافة والفنون والآداب.

المؤلفات والإنجازات

ترك وراءه مجموعة كبيرة من المؤلفات ومكتبة ضخمة تعرضت للنهب والسرقة عام 1948 عند احتلال قوات العصابات الصهيونية لمعظم مدينة القدس، ومن هذه المؤلفات:

  • أمثال أبي تمام عام 1912، نشرت في مجلس النفائس في العام نفسه.
  • كلمة موجزة في سير العلم وسيرتنا معه، القدس عام 1916.
  • مجموعة النشاشيبي، القاهرة عام 1923.
  • قلب عربي وعقل أوروبي، القدس عام 1924.
  • البطل الخالد صلاح الدين الأيوبي والشاعر الخالد أحمد شوقي، القدس عام 1932.
  • اللغة العربية والأستاذ الريحاني.

الوفاة

توفي محمد إسعاف النشاشيبي في القاهرة يوم 22 يناير/كانون الثاني 1948 عن عمر ناهز 65 عاما.

دفن في مقبرة عبد القادر بك مختار بالقاهرة، بعد أن أقيمت له جنازة ضخمة، وشارك في رثائه كبار أدباء مصر ومفكريها، ومنهم أحمد لطفي السيد وأحمد حسن الزيات.

كتب عنه الزيات غداة وفاته قائلا إن "النشاشيبي كان خاتم طبقة من الأدباء واللغويين المحققين، ولا يستطيع الزمن الحاضر بطبيعته وثقافته أن يجود بمثله، فمن حق المحافظين على التراث الكريم والمعتزين بالماضي العظيم أن يطيلوا البكاء على فقده وأن يرثوا لحال العروبة والعربية من بعده".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

إعلان