هاشم الأتاسي.. "أبو الدستور" السوري
هاشم الأتاسي زعيم وطني سوري، ولد في مدينة حمص عام 1873 م، شغل منصب رئيس الجمهورية 3 مرات، وانتخب رئيسا للمؤتمر السوري عام 1920، وهو واضع الدستور السوري الأول، أسس مع رفاقه الكتلة الوطنية، وترأس الوفد السوري لباريس عام 1936 للتفاوض لعقد معاهدة استقلال سوريا، وانتخب رئيسا للجمهورية السورية عام 1936، ثم أعيد انتخابه عام 1949، وتولى الرئاسة بعد إخراج أديب الشيشكلي من الحكم عام 1954، توفي عام 1960.
المولد والنشأة
ولد هاشم الأتاسي الملقب بـ"أبو الدستور" يوم 11 يناير/كانون الثاني 1873 م في مدينة حمص وسط سوريا لعائلة اشتهرت بمكانتها الاجتماعية والسياسية، إذ شغل عدد من أبنائها مناصب متنوعة في الساحتين الدينية والسياسية على مدى 6 قرون، بدءا من القرن الـ14 وصولا إلى القرن الـ20 الميلادي، ومن بين تلك المناصب مفتون ووزراء ونواب وسفراء ونقباء وشخصيات أخرى بارزة.
نشأ هاشم في عائلة اهتمت بعلوم الدين والقضاء، فكان جده محمد الأتاسي مفتيا لحمص، في حين شغل والده منصب عضو في مجلس "المبعوثان" في إسطنبول، ثم خلف والده في منصب مفتي حمص.
تلقى علوم الدين والأدب عن والده وأعمامه، إضافة إلى كبار علماء حمص، فمهدت له هذه البيئة الطريق ليصبح إحدى أبرز الشخصيات في تشكيل سياسة سوريا الحديثة، تزوج ابنة عمه وردشان الأتاسي وأنجبا 7 أبناء.
الدراسة والتكوين العلمي
أتقن هاشم الأتاسي علوم الدين والشريعة والأدب في صغره، وأتم دراسته الابتدائية في مسقط رأسه، ثم أوفده والده إلى الكلية الإسلامية (المدرسة السلطانية) في بيروت لمتابعة دراسته الثانوية.
التقى الأتاسي في بيروت بالإمام محمد عبده الذي كان يقضي فترة منفاه هناك، ودرس عليه اللغة العربية وأفكاره الإسلامية، اجتمع أيضا بكامل دوامة كاتب سر السلطان عبد الحميد وأحد أقرب المقربين منه.
أعجب دوامة بذكاء الأتاسي وشجعه في دراسته، وعرض عليه الزواج من ابنته، لكن الأتاسي اعتذر لأنه كان قد خطب ابنة عمه المفتي عبد اللطيف الأتاسي في حمص.
أكمل دراسته العليا في إسطنبول، ودرس بالمدرسة الملكية العليا للإدارة لمدة 4 أعوام، وحصل على الشهادة الملكية عام 1894.
التجربة السياسية في العهد العثماني
انخرط هاشم الأتاسي في عالم السياسة فور تخرجه في المدرسة الملكية عام 1894 م، وتنقل بين الولايات في بلاد الشام وفي الأناضول، فشغل منصب نائب والي بيروت لمدة 3 سنوات.
ثم تدرج في منصب القائم مقام لمدة 24 عاما، بدأها من مدينة المرقب عام 1897 م، ثم مدينة عكا في العام ذاته، ثم صهيون بعد ذلك في بانياس، وانتقل بعدها إلى مدينة صفد عام 1902، ثم إلى صور في العام التالي، وفي عام 1904 أصبح قائم مقام مدينة السلط لمدة عام، انتقل بعدها بالمنصب ذاته إلى عجلون في السنة التالية وبقي فيها 3 سنوات، قبل أن يصبح قائم مقام مدينة جبلة عام 1908، ثم بعلبك عام 1909 ثم حاجين 1910، وأخيرا يافا عام 1911.
ترقى بعدها إلى منصب المتصرف، فعيّن متصرفا لمدينة حماة عام 1912، ثم عكا، فجبل بركات، ثم عيّن في منطقة بوردور التي كانت تابعة إداريا لولاية قونية التركية أيام الحكم العثماني، وأخيرا بيروت عام 1913.
عاد هاشم إلى حمص بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وشغل منصب متصرف لها بعد ابن عمه عمر الأتاسي، وذلك بعد أن استقلت من متصرفية حماة، وتولى هذا المنصب من عام 1919 حتى 1920.
عمل الأتاسي خلال توليه منصب قائم مقام على حماية الأقليات، ففي عام 1901 لجأت 300 أسرة شيشانية من الاضطهاد القيصري الروسي إلى الأردن، حيث استوطنت مدينة الزرقاء، وأعطى الأتاسي الموافقة للعائلات بإقامة أول بناء في صويلح.
المؤتمر السوري العام
لم يشارك هاشم الأتاسي في الثورة العربية الكبرى التي انطلقت عام 1916، لكنه كان متعاطفا معها ومقربا من قائدها العام الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة، انتهت الثورة بخروج العثمانيين من بلاد الشام وقيام الحكومة العربية عام 1918 بقيادة الأمير فيصل الأول بن الحسين.
دعا الأمير فيصل إلى إجراء انتخابات لقيام أول مجلس نيابي لبلاد الشام، ففاز الأتاسي بعضوية المجلس الذي سمي المؤتمر السوري العام ممثلا عن مدينة حمص، وانتخب رئيسا للمؤتمر يوم 6 مارس/آذار 1920، وعقدت أول جلسة للمؤتمر يوم 8 مارس/آذار 1920 افتتحها الأتاسي بقرار تنصيب الأمير فيصل ملكا على سوريا وعدم الاعتراف باتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
وفي 10 مارس/آذار 1920 انتخب مجلس النواب هاشم الأتاسي رئيسا للجنة صياغة الدستور السوري الأول الذي اعترف بمُلك الأمير فيصل وأولاده على أراضي سوريا، ونص على ضرورة عودة الملك إلى مجلس النواب قبل اتخاذ أي قرار يخص البلاد في حالتي السلم والحرب.
واجهت سياسة توحيد بلاد الشام تحت حكم الملك فيصل معارضة قوية من الدول الاستعمارية التي سعت لتقسيم المنطقة العربية إلى دويلات صغيرة.
وفي 14 يوليو/تموز 1920 تلقى الملك فيصل إنذارا من المفوض السامي الفرنسي هنري غورو يطالبه بحل الجيش السوري وجمع السلاح تمهيدا لفرض الانتداب الفرنسي، وبينما اقترح الأتاسي رفض الإنذار اختار الملك فيصل رغبة منه في تجنب الصراع مع فرنسا قبوله وأرسل برقية موافقة إلى غورو.
اعتبر غورو رد فيصل متأخرا، وأمر ببدء الزحف نحو دمشق، حيث وقعت معركة ميسلون يوم 24 يوليو/تموز 1920 بين الجيشين السوري والفرنسي، وانتهت بهزيمة الجيش السوري، مما أدى إلى عزل الملك فيصل ومغادرته البلاد وعودة هاشم الأتاسي إلى حمص.
الكتلة الوطنية
عُقد مؤتمر سان ريمو -الذي أقر الاحتلال الفرنسي على سوريا عام 1920- وانتقلت القوات الفرنسية من بيروت إلى سوريا وبدأت بتأسيس دويلات منفصلة على أنقاض المملكة العربية السورية.
اصطدمت هذه المخططات باندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925، وعلى إثرها اعتقلت القوات الفرنسية هاشم الأتاسي ومجموعة من الوطنيين ونقلتهم إلى سجن جزيرة أرواد السورية عام 1926.
سعى الوطنيون بعد انتهاء الثورة عام 1927 إلى تأسيس تنظيم سياسي جديد يمثل مطالب الشعب السوري بإنهاء الاحتلال وتوحيد الأراضي السورية.
واجتمع الأتاسي مع نخبة من الوطنيين في بيروت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1927 ليعلنوا ميلاد "الكتلة الوطنية" التي طمحت إلى مجابهة الاحتلال سياسيا.
دعت الحكومة الفرنسية في أبريل/نيسان 1928 إلى انتخاب مجلس تأسيسي وكتابة دستور جديد للبلاد، ففازت الكتلة الوطنية بأغلبية المقاعد وانتخب الأتاسي رئيسا للجنة الدستور المؤلف من 115 مادة.
أقر جميع النواب داخل المجلس مواد الدستور، لكن السلطات الفرنسية أصرت على إضافة المادة 116 التي تضمنت الاعتراف بالانتداب الفرنسي على سوريا.
رفض هاشم الأتاسي الاعتراف بالمادة، مما أدى إلى تعطيل فرنسا أعمال المجلس وحله في 5 فبراير/شباط 1929.
أعلن المفوض السامي الفرنسي في سوريا هنري بوسنو عام 1932 عن انتخابات نيابية للمجلس التأسيسي، لكنها لم تكن لصالح الكتلة الوطنية، فقد واجهت مجموعة مدعومة من فرنسا بقيادة صبحي بركات، وخسرت جميع أصوات الناخبين في الشمال السوري الذين صوتوا لصبحي بركات.
فاز الأتاسي بمقعده نائبا عن حمص، ووصل عدد نواب الكتلة إلى 17 نائبا، وهو ما لم يكن كافيا لتحقيق الأغلبية النيابية في المجلس، وترشح في انتخابات رئاسة الجمهورية ضد صبحي بركات والمرشح المستقل محمد علي العابد، لكنه قرر الانسحاب وإعطاء أصوات كتلته لمحمد علي العابد الذي أصبح أول رئيس للجمهورية يوم 11 يونيو/حزيران 1932.
وفي بداية عام 1936 أعلنت الكتلة الوطنية إضرابا استمر 60 يوما بسبب تضييق الاحتلال الفرنسي على أعمال الكتلة، وقمع المظاهرات السلمية التي تطالب بالاستقلال.
قاد الإضراب فرنسا إلى الدخول في مفاوضات مع الكتلة الوطنية، حيث تم التوصل إلى اتفاق يقضي بوقف الإضراب مقابل الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.
عقب الإضراب توجه وفد من أعضاء الكتلة الوطنية بقيادة الأتاسي إلى فرنسا للقاء الحكومة الفرنسية وتوقيع المعاهدة الفرنسية السورية عام 1936، حيث رضخت فرنسا لمطالب الاستقلال، وأجريت انتخابات نيابية ورئاسية فاز فيها الأتاسي بمنصب رئيس الجمهورية يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 1936.
الحرب العالمية الثانية
واجهت سوريا مرحلة حرجة تمثلت باستقالة هاشم الأتاسي من رئاسة الجمهورية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/أيلول 1939 ونقض فرنسا معاهدة 1936.
ساعدت بريطانيا في تقليص النفوذ الفرنسي بسوريا، واستجابت لمطالب السوريين بالوحدة والاستقلال، وتحت ضغط الأطراف الدولية ونتيجة لتقلص نفوذها اضطرت فرنسا في نهاية المطاف إلى منح سوريا استقلالها عام 1946، ليتولى شكري القوتلي رئاسة الجمهورية.
عصر الانقلابات العسكرية
عاش هاشم الأتاسي بعد الاستقلال حقبة سياسية مضطربة تميزت بصراع بين الشرعية الديمقراطية والانقلابات العسكرية، وبعد هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل عام 1948 دشن حسني الزعيم عصر الانقلابات العسكرية في سوريا بانقلابه الأول على شكري القوتلي عام 1949.
لم تستمر حكومة الزعيم طويلا، حيث انقلب عليه سامي الحناوي الذي اجتمع بزعماء سوريا واتفقوا على تكليف هاشم الأتاسي بتشكيل الحكومة، ليعود إلى رئاسة الجمهورية في 14 ديسمبر/كانون الأول 1949.
انقلب أديب الشيشكلي عسكريا على هاشم الأتاسي عام 1951، فعاد الأتاسي إلى مدينة حمص رافضا الاعتراف بحكم الشيشكلي، ودعا إلى مؤتمر حمص في منزله عام 1953 ضم جميع خصوم الشيشكلي الذين أقروا بعدم الاعتراف بحكم الشيشكلي والسعي لإسقاطه بكل الطرق المتاحة.
وفي 25 فبراير/شباط 1954 انطلقت الشرارة الأولى للانقلاب العسكري الذي أطاح بأديب الشيشكلي من مدينة حلب بقيادة الضابط البعثي مصطفى حمدون.
اجتمعت الأحزاب ورجال السياسة في منزل هاشم الأتاسي بحمص بعد الإطاحة بنظام الشيشكلي، وطلبوا منه بالإجماع العودة إلى الحكم لإكمال مدة رئاسته الدستورية، فوافق رغم تقدمه في السن، وكان قد تجاوز الـ80 عاما.
استمر هاشم الأتاسي في رئاسة سوريا حتى انتهاء فترة ولايته يوم 6 سبتمبر/أيلول 1955، ليتسلم شكري القوتلي مقاليد الحكم عبر تنظيم انتخابات.
الوظائف والمسؤوليات
لعب هاشم الأتاسي دورا محوريا في تاريخ سوريا الحديث، بدءا من رئاسته للمؤتمر السوري العام عام 1920، حيث قاد صياغة الدستور السوري الأول، ثم أسس الكتلة الوطنية عام 1928، وترأس لجنة صياغة الدستور مرة أخرى.
وفي عام 1936 انتخب رئيسا للجمهورية السورية، فسعى إلى دعم الاستقلال الوطني ومقاومة الاحتلال الفرنسي.
استقال من منصبه عام 1939 مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكنه عاد إلى رئاسة الجمهورية عام 1949 بعد الإطاحة بحكم حسني الزعيم، وبقي في المنصب حتى انتهاء فترة ولايته عام 1955.
قضى الأتاسي بقية حياته في مدينته حمص معتزلا السياسية وبعيدا عن الشأن العام، وكان آخر ظهور علني له عام 1958 عندما توجه إلى دمشق للمشاركة في استقبال الرئيس المصري جمال عبد الناصر حين تم إعلان الوحدة بين سوريا ومصر وإنشاء الجمهورية العربية المتحدة.
الوفاة
توفي هاشم الأتاسي صباح يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1960 عن 87 عاما في مسقط رأسه بحمص، وأُعلن الحداد الوطني في كافة أنحاء الجمهورية العربية المتحدة آنذاك.