لينينغراد.. حصار دام عامين وجوع قتل 1.5 مليون إنسان
حوصرت مدينة لينينغراد من سبتمبر/أيلول 1941 حتى يناير/كانون الثاني 1944، بعد أن اجتاحت القوات الألمانية الأراضي السوفياتية، ضمن عملية سُميت "بربروسا". ودخل الحصار التاريخ لكونه أحد أكثر الأحداث مأساوية في الحرب العالمية الثانية، لما خلفه من خسائر بشرية قدرت بنحو مليون شخص، بينهم 140 ألف طفل، قتلوا خلال 842 يوما من الحصار، بسبب القصف والجوع والمرض وانخفاض درجة حرارة الجسم.
بداية الحصار
أسس بطرس الأكبر قيصر روسيا الخامس مدينة لينينغراد باسم سانت بطرسبورغ عام 1703، (تم إرجاع الاسم الأصلي للمدينة عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، وكانت تعدّ موقعا إستراتيجيا ومركزا مرغوبا للقوات الألمانية "نافذة على الغرب"، حيث تلتقي ضفة نهر نيفا المستنقعية بخليج فنلندا، ولم تكن ميناء مهما وقاعدة لأسطول البلطيق السوفياتي فحسب، بل كانت أيضا رمزا للثورة السوفياتية.
كانت لينينغراد عاصمة روسيا القيصرية، وموقع الثورة البلشفية عام 1917، ولكونها أيضا تجسيدا للأمة الرّوسية في نظر كثيرين، حظيت المدينة بأهمية واسعة لدى الزعيم الألماني أدولف هتلر في أثناء محاولته تدمير الاتحاد السوفياتي.
غزت ألمانيا منتصف الحرب العالمية الثانية، وتحديدا يوم 22 يونيو/حزيران 1941، الاتحاد السوفياتي، حين أطلق هتلر عملية "بربروسا" لمهاجمة الاتحاد، فضيّق الخناق على لينينغراد، وحوصرت المدينة بالكامل منذ الثامن من سبتمبر/أيلول 1941 وعُزلت عن بقية البلاد.
اندفعت القوات المسلحة الموحدة لألمانيا (الفيرماخت) عبر الأراضي السوفياتية بعد بدء عملية "بربروسا"، واستغرق الوصول إلى أبواب لينينغراد شهرين ونصف شهر، إذ قطع الحلفاء الفنلنديون المدينة عن الشمال بهدف عزل الاتحاد السوفياتي عن بحر البلطيق، الذي يعدّه المؤرخون موقعا إستراتيجيا مهما للغاية بالنسبة لهتلر في أثناء محاولته غزو الاتحاد السوفياتي، من أجل إنشاء مساحة للألمان هناك.
مع سقوط قلعة شليسلبورغ على نهر نيفا، لم تعد لينينغراد متصلة ببقية الاتحاد السوفياتي، إذ انقطعت جميع خطوط الاتصال البرية وكذلك أغلقت خطوط السكك الحديدية التي تربط المدينة بالعالم الخارجي، ومن هنا بدأ "الحصار الطويل" على عكس توقعات النازيين الذين اعتقدوه حصارا سيؤدي بسرعة إلى إسقاط المدينة.
عزل لينينغراد
بين سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني 1941، كثفت ألمانيا غاراتها الجوية على لينينغراد، وكان الهدف من القصف إبادة المدينة وإجبار المقاومة على الاستسلام، وهكذا بحلول 31 ديسمبر/كانون الأول 1941 تم إسقاط 3295 قنبلة متفجرة و99 ألفا و717 قنبلة حارقة، إضافة إلى 30 ألفا و154 قذيفة مدفعية على المدينة.
ظلت لينينغراد محاطة بالألمان من الجنوب والفنلنديين من الشمال، وتعرضت عدد من الأماكن الرئيسية بالمدينة إلى الدمار، مثل مستودعات التخزين، وسقائف الإمدادات، ومحطة توليد الكهرباء جنوب المدينة واحتياطي البنزين ومعمل الألبان ومصنع الزبدة وغيرها.
ووجد سكان المدينة أنفسهم معزولين عن جميع مصادر الإمداد، باستثناء ممر صغير لا يعمل بشكل دائم، ويطلق عليه "طريق الحياة" يوجد على بحيرة لادوغا، في وقت كانت فيه احتياطات الأمن الغذائي تكفي لمدة شهر واحد فقط.
موت من الجوع والبرد
وجدت السلطات السوفياتية في المدينة نفسها عاجزة عن توفير احتياطيات غذاء كافية لأكثر من شهر، فشرعت في تغيير قواعد نظام الإمداد، عن طريق تقديم بطاقات خاصة بالطعام، تضم كل بطاقة حصة من الغذاء اليومي، وكان يتم بموجبها توزيع الكمية اليومية من الخبز حسب حالة حاملها.
عانى سكان لينينغراد أمام هذا الوضع الصعب شدة الجوع والمرض، بسبب تخفيض معدل صرف الخبز اليومي إلى 250 غراما للعمال و125 غراما لغير العمال والأطفال، ويحتوي الخبز على أقل من 40% من الدقيق فقط، في حين أن الباقي عبارة عن خليط من الشعير ونشارة الخشب، الأمر الذي عانى على إثره السكان بشكل كبير من الجوع خاصة في شتاء 1941-1942، إلى أن توفي معظمهم بسبب نقص الغذاء.
لم يكن الجوع وحده سببا في حصد مزيد من الأرواح في لينينغراد، لقد كان للبرد أيضا نصيب من ذلك، إذ كان شتاء عام 1941 متجمدا، وانخفضت فيه درجات الحرارة إلى 38- درجة مئوية في المدينة، فواجه من خلاله السكان صعوبة في تدفئة أنفسهم، مما دفع بهم في بعض الأحيان إلى إشعال الحرائق من أجل التدفئة.
خلف الحصار على لينينغراد أوضاعا كارثية، اختفت فيها أبسط معالم الإنسانية من الوجود، إذ أشارت التقارير إلى تسجيل السلطات السوفياتية لـ2015 حالة اعتقال بتهمة أكل لحوم البشر بسبب المجاعة التي ضربت المدينة، بعد تعرض الجثث للسرقة، وتناول السكان للكلاب والقطط.
ممر الموت
حاول الجيش الأحمر السوفياتي في أكثر من مرة خلق ثغرة نحو لينينغراد المعزولة، أملا في نقل بعض المواد الغذائية إليها، وبذلت الحكومة جهودا كبيرة لإنقاذ المدينة، وتم تدريجيا إنشاء طرق الإخلاء والإمداد باتجاه الشرق عبر بحيرة لادوغا.
"ممر الحياة" المتجمد، كما يطلق عليه، أصبح الطريق الوحيد الذي يعتمده المسؤولون السوفيات لنقل الإمدادات نحو لينينغراد المحاصرة، فعندما تتجمد البحيرة يصبح الجليد سميكا بدرجة كافية تسمح بتلبية بعض حاجيات الإمداد، وتساعد على إجلاء الآلاف من المدنيين، معظمهم من الأطفال والأيتام، لكنه سرعان ما تحول إلى "ممر موت"، إذ تبلغ مسافة السير عليه 160 كيلومترا، مما قد يعرضه للانهيار في أي لحظة بسبب ثقل الشاحنات وقصف طائرات القوات الجوية النازية، التي كانت تسيطر على سماء الممر، مما كان يعرض غالبية مستعملي هذا الطريق إلى الموت.
فك الحصار
كان لهجوم "لينينغراد-نوفغورود" الذي أطلقه قوات الجيش الأحمر يوم 14 يناير/كانون الثاني 1944، وانضمام قوات جنرالات الجيش الأحمر ليونيد غوفوروف وكيريل ميريتسكوف يوم 25 يناير/كانون الثاني، دور كبير في كسر الحصار ودحر القوات النازية.
وما إن تمكن السوفيات من فتح معبر بري إلى المدينة، حتى أجبرت الفيرماخت على التراجع، وفُك الحصار كليا عن المدينة يوم 27 يناير/كانون الثاني 1944، ليتم الإعلان عن تحرير لينينغراد رسميا بعد 842 يوما من الحصار.
وقدرت خسائر هذا الحصار بنحو مليون قتيل، نتيجة الجوع والبرد والمرض، وبعد انتهاء الحصار لم يتبق من سكان لينينغراد -الذين كان عددهم 2.5 مليون نسمة- سوى 600 ألف شخص.
المقاومة الثقافية
صيف عام 1942، عانى سكان لينينغراد الجوع والمرض والبرد، وغياب المياه، التي تفرض ضرورة قطع عدد من الكيلومترات إلى جليد نهر نيفا في ظل انعدام وسائل النقل، والقيام بالحفر من أجل استخراجها تحت شدة الحصار والقصف الألماني، وفي ظل السياق الستاليني القمعي.
رغم كل ذلك، فإن الحياة اليومية استمرت في لينينغراد، لا سيما الحياة الثقافية، ففتحت المكتبات والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقية على نحو متقطع، وتمكنت الأوركسترا من أداء سيمفونية جديدة للملحن ديمتري شوستاكوفيتش، وبثتها في جميع أنحاء المدينة.
انتهت البروفة الأولى بعد 15 دقيقة فقط، حيث لم يكن لدى المجموعة الصغيرة من الناجين سوى القليل من الطاقة، يقول قائد الأوركسترا السوفياتي المولد سيميون بيتشكوف: "كانت تلك الأوركسترا تتألف من عازفين كانوا ضحايا القصف والجوع والمجاعة، وكانوا بالكاد قادرين على حمل آلاتهم الموسيقية للعزف"، وقدم أحد عازفي البوق إلى إلياسبيرغ اعتذارا عميقا بعد عدم تمكنه من إنتاج نغمة واحدة.
كتب ديمتري شوستاكوفيتش سيمفونيته الشهيرة رقم 7، وعزفها موسيقيون بالمدينة المحاصرة في أغسطس/آب 1942، وقال عنها الملحن "أردت أن أكتب عملا عن رجال بلادنا، الذين سيصبحون أبطالا في المعركة التي يخوضونها ضد العدو باسم النصر".
واعتبر كثيرون هذه السيمفونية عملا من أعمال المقاومة ضد الغزو النازي، وسرعان ما جعلها ستالين والسوفيات أداة للدعاية، وأحد رموز "الحرب الوطنية العظمى".