فريدريك دوكليرك.. آخر رئيس أبيض في نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا
فريديريك ويليام دوكليرك آخر رئيس في نظام الفصل العنصري بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، وفي عهده انتهى ما كان يعرف بنظام "الأبارتايد". محام وسياسي من مواليد 1936، تقلد عدة مناصب وزارية، وتولى رئاسة جنوب أفريقيا من 1989 إلى 1994. أطلق سراح المناضل الأفريقي القومي نيلسون مانديلا وفتح أمامه الطريق لقيادة سفينة البلاد وتشكيل حكومة متعددة الأعراق. حصل معه مناصفة على جائزة نوبل للسلام عام 1993. بقي مناضلا في الحزب الوطني لسنوات، إلى أن توقف عن ممارسة نشاطه السياسي عام 1997 وفارق الحياة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021.
المولد والنشأة
ولد يوم 18 مارس/آذار 1936 في جوهانسبرغ، العاصمة الاقتصادية لجنوب أفريقيا. نشأ وترعرع وسط عائلة محافظة ولها اهتمام كبير بالسياسة. جده من مؤسسي الحزب الوطني في جنوب أفريقيا، وهو الذي أقام نظام الفصل العنصري في البلد منذ 1948.
كان والده جان دوكليرك وجها سياسيا بارزا، إذ شغل عدة مناصب وزارية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، أما شقيقه ويليم، فكان صحفيا ليبراليا وأحد مؤسسي الحزب الديمقراطي.
تزوج بماريك ويليمسي وأنجبت منه ولدين وبنتا، إلا أنهما انفصلا عام 1998. وخاض تجربة زواج ثانية بعد توقف نشاطه السياسي.
المسار التعليمي
تابع تعليمه في مدرسة كروغرسدورب، الواقعة بضواحي جوهانسبرغ. ثم بعد ذلك اختار الالتحاق بدورة في القانون في جامعة بوتشيفستروم، التي تخرج فيها عام 1958 بدرجة البكالوريوس ثم حصل فيها بامتياز على شهادة الماجستير في القانون.
وبالموازاة مع ذلك، حصل على منحة "آبي بيلي" للقيام بجولة تعليمية إلى المملكة المتحدة. انتهى مساره التعليمي بأن أصبح محاميا في فيرينيجينغ، وهي بلدة في ترانسفال أدمجت فيما بعد في مقاطعة غوتنغ.
مساره السياسي
ولج عالم السياسة عام 1972 اقتداء بجده ووالده. وبعد مسيرة مهنية في المحاماة، ترشح للانتخابات البرلمانية في فيرينيجينغ، وفاز فيها بسهولة، وأصبح نائبا برلمانيا في المنطقة المذكورة مستفيدا من دعم رئيس الوزراء جون فورستر، صديق والده.
وتشير بعض التقارير إلى أنه بالموازاة مع فوزه في الانتخابات عُرض عليه منصب أستاذ متخصص في شعبة القانون الإداري في بوتشيفستروم، إلا أنه رفض، وفضل العمل السياسي بدل العمل الأكاديمي، كما تشير تقارير إلى أن مساره السياسي كان سريعا وصعوده تم بسلاسة، وتقلد مناصب وزارية عدة وعمره لم يبلغ الـ40.
عايش حالة الاضطراب التي عرفتها جنوب أفريقيا عام 1976 بسبب أعمال الشغب التي شهدتها منطقة سويتو في مدينة جوهانسبرغ، والقمع الدموي الذي رافقها وموقف الرئيس من تشديد نظام الفصل العنصري وما نتج عنه من عقوبات دولية.
عام 1978، أصبح وزيرا في حكومة جنوب أفريقيا، إذ عينه فورستر وزيرا للبريد والاتصالات والرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية.
بعد أن أصبح بيتر ويليم بوتا رئيسا لدولة جنوب أفريقيا عام 1978 خلفا لفورستر، تولى فريدريك ويليام دوكليرك مسؤولية عدة حقائب وزارية إستراتيجية (منها التعليم والطاقة والمعادن) في الحكومات التي تعاقبت خلال فترة حكم بوتا من 1978 إلى غاية 1989.
في يناير/كانون الثاني 1989، وبعد أن تدهورت الحالة الصحية للرئيس بيتر ويليم بوتا، وتبرأ منه الحزب الوطني بسبب تراجع الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد، قدم استقالته في فبراير/شباط 1989، فكان دوكليرك هو البديل لقيادة الحزب ومن ثم أصبح رئيسا للدولة.
بدأ دوكليرك عصرا جديدا في البلاد، إذ سرعان ما أعلن عن سياسته الإصلاحية، معربا عن أمله في خلق مناخ داخلي مناسب، وبدأ في إقناع "الأغلبية البيضاء" بجدوى التصويت لفائدة مواصلة الإصلاحات التي شرعها منذ عام 1990، في أفق إنهاء نظام الفصل العنصري.
فقد دعا في خطابه الشهير الذي ألقاه في الثاني من فبراير/شباط 1990، بعد توليه قيادة الحزب الوطني، إلى دولة غير عنصرية وإجراء مفاوضات حول مستقبلها. بعد سلسلة من اللقاءات التفاوضية مع المنظمات المناهضة للفصل العنصري في البلاد، رفع الحظر المفروض على حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وجميع حركات التحرر والهيئات السياسية الأخرى، معلنا إطلاق سراح نيلسون مانديلا.
وهكذا أنهى الفصل العنصري وفتح الطريق لصياغة دستور جديد للبلاد على أساس مبدأ شخص واحد وصوت واحد وترسيخ حقوق الإنسان الأساسية. انتهت ولايته التي امتدت من سبتمبر/أيلول 1989 إلى مايو/أيار 1994، بعد أن لعب دورا حاسما في انتقال البلاد إلى الديمقراطية وبإجراء أول انتخابات متعددة الأعراق في أبريل/نيسان 1994. وشغل بعدها منصب النائب الثاني للرئيس المنتخب نيلسون مانديلا.
الوظائف والمسؤوليات
- من 1961 إلى 1972 عمل محاميا في فيرينيجينغ.
- تولى عدة مسؤوليات وزارية في عهد الرئيس بيتر ويليم بوتا.
- في عام 1975 أصبح مسؤولا عن الإعلام في الحزب الوطني.
- ما بين 1978 و1979 شغل منصب وزير البريد والاتصالات والرياضة والترفيه.
- انتقل ما بين 1979 و1980 إلى تسيير قطاع المناجم والطاقة والتخطيط البيئي.
- وزير المعادن والطاقة بين 1980 و1982.
- في عام 1985 تم تعيينه رئيسا لمجلس الوزراء في مجلس النواب.
- شغل منصب رئيس الحزب الوطني ما بين 1989 و1997.
- يعتبر منصب رئيس دولة جنوب أفريقيا أهم المناصب التي تقلدها خلال الفترة الممتدة من 1989 إلى 1994.
- وبعد نهاية نظام الفصل العنصري شغل منصب النائب الثاني لرئيس البلاد ما بين 1994 و1996، لكنه بعد عامين، قرر أن ينسحب مع أعضاء آخرين من الحزب الوطني من مناصبهم الوزارية لأنه قدّر أن مصالح الأقلية البيضاء لم تعد مضمونة.
- في يونيو/حزيران 1996، أصبح أول زعيم للمعارضة، كما قرر حزبه "الحزب الوطني" مباشرة بعد انتخابات 1996، الانسحاب من حكومة الوحدة الوطنية والاصطفاف في المعارضة.
- وفي أغسطس/آب عام 1997، اختار الاعتزال ودخل مرحلة التقاعد السياسي، واستقر في مزرعته مع زوجته الجديدة إليتا.
مواقفه
عام 1982 قاد تحركات ضد الجناح اليميني المتطرف في الحزب الوطني، وعُرفت مواقفه بالوسطية حتى قبل أن يصبح زعيما للحزب المذكور، ومباشرة بعد توليه السلطة في البلاد، فاجأ شعبه بمنح الشرعية للمعارضة المدافعة عن حقوق المواطنين ذوي البشرة السوداء.
وفي ديسمبر/كانون الأول عام 1989، التقى بنيلسون مانديلا، زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان في السجن لمدة 27 سنة. وفي الثاني من فبراير/شباط 1990، رفع دوكليرك الحظر المفروض على حزب مانديلا والحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا ومؤتمر عموم أفريقيا.
وفي يوم 11 فبراير/شباط 1990 أطلق سراح مانديلا، وأجريت مفاوضات معه ومع قادة الحزب الآخرين من أجل إنهاء الفصل العنصري سلميا والانتقال إلى الحكم الديمقراطي.
كان يعي جيدا تأثر بلاده بالعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وما خلفته من احتقان اجتماعي متزايد، فأجرى عدة إصلاحات أدت إلى إنهاء "الأبارتايد" عام 1991.
ومن بين القرارات التاريخية التي اتخذها رفع حالة الطوارئ التي كانت سارية منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20، وإطلاق سراح زعماء المؤتمر الوطني الأفريقي، الذين ناضلوا من أجل تحقيق مطلب إنهاء الفصل العنصري.
كما سمح لأزيد من 30 حزبا سياسيا غير "الأحزاب البيضاء" بممارسة أنشطتها السياسية، وأبرزها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر عموم أفريقيا، الذي انشق عنه.
لم يكن قرار التحول الديمقراطي الذي دعا إليه دوكليرك سهلا، بل واجهه بعض المتطرفين الذين تشبثوا برفضهم التفريط في أراضيهم وامتيازاتهم، فحاولوا مقاومة التغيير إلى درجة اندلاع مواجهة دامية بين مناصري حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وموالين لحزب الزولو في الناتال وحزب "إنكاثا للحرية"، تسببت في مقتل الآلاف. وأشارت بعض التقارير إلى أن عدد الضحايا وصل إلى 20 ألف قتيل خلال سنتين من المواجهات.
لتهدئة الأوضاع، أعاد إطلاق مفاوضات جديدة، في ديسمبر/كانون الأول 1991، لإقرار اتفاقية عنوانها البارز "من أجل جنوب أفريقيا ديمقراطية" (تسمى اختصارا "كوديسا")، بمشاركة عدد من الفاعلين في الساحة السياسية باستثناء المتطرفين منهم، وكان الهدف منها تهيئة إطار قانوني لنظام جديد قائم على التوازن بين الأقلية الحاكمة والأغلبية المحكومة.
الحقيقة والمصالحة
عندما تشكلت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا عام 1995 بموجب قانون تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة، لتسليط الضوء على جرائم الفصل العنصري وبدأت تعقد جلسات الاستماع، مَثَلَ فريدريك دوكليرك أمامها بصفته الرئيس الأسبق للبلاد.
ففي الشهادة التي أدلى بها، نيابة عن الحزب الوطني في أغسطس/آب 1996 ثم في مايو/أيار 1997 قدم اعتذارا عن الفصل العنصري الذي كان سائدا في البلاد، غير أن البعض انتقده لأنه كان شريكا في هذا النظام ولم يعلن توبته، بل رفض الاعتراف بتحمل أدنى مسؤولية شخصية. كما رفض الاعتراف بأن نظام الفصل العنصري كان جريمة ضد الإنسانية.
وأثارت تصريحاته الصحفية المتعلقة بتخصيص مناطق لتوطين الأغلبية السوداء غضبا شديدا واعتبر عدد من الحقوقيين أنها تتضمن دفاعا مبطنا عن سياسة الفصل العنصري.
جوائز وأوسمة
عام 1993 منحت له -مناصفة مع نيلسون مانديلا- جائزة نوبل للسلام للجهود التي قام بها لضمان تحول وانتقال ديمقراطي في جنوب أفريقيا.
وتشير بعض الكتابات إلى أن جائزة نوبل للسلام التي تقاسمها الرجلان أدت إلى تحسن سمعة جنوب أفريقيا، التي كانت تعاني من تشديد العقوبات الدولية عليها في فترة النظام العنصري.
وذهب تيار آخر إلى مطالبة فريديريك دوكليرك بإرجاع الجائزة لمواقفه التي كانت محط انتقاد البعض.
مؤسسة دو كليرك
أطلق عام 1999 مؤسسة "أف دبليو دوكليرك" بهدف الحفاظ على إرثه الرئاسي وتعزيزه بوصفه الزعيم الأسبق الذي ناضل ضد الفصل العنصري، وما قام به على الخصوص لتعزيز السلام في البلدان متعددة الطوائف. وفي العام نفسه، نشر سيرته الذاتية التي اختار لها عنوان "الرحلة الأخيرة، البداية الجديدة".
وفاته
توفي دوكليرك عن سن ناهز 85 عاما يوم الخميس 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 في منزله بضواحي العاصمة كيب تاون بعد صراع مع مرض السرطان.
وأقامت عائلته جنازة خاصة في الأيام التي أعقبت وفاته، التي أعلن عنها رسميا ديف ستيوارت، المتحدث باسم مؤسسة فريديرك دوكليرك.