السلطان العثماني سليم الثاني
السلطان العثماني الحادي عشر والابن الثاني لسليمان القانوني من زوجته الروسية "حُرّم"، ولد ومات في إسطنبول، ودام حكمه 8 سنوات، فتح خلالها قبرص، وشكّل ذلك منعطفا مهما في سيطرة العثمانيين على البحر المتوسط، إلا أن بعض قراراته أسهمت في إضعاف الدولة ومهدت لسقوطها فيما بعد.
المولد والنشأة
وُلد السلطان سليم الثاني بن سليمان الأول بن سليم يوم 28 مايو/أيار 1524م، في قصر توب كابي بمدينة إسطنبول شمالي غربي تركيا، ويقول بعض المؤرخين إنه وُلد خلال عرس عمته السلطانة خديجة على الصدر الأعظم إبراهيم باشا.
كان مهيب الشكل طويل القامة، يُلقّب بـ"الأصفر" لبشرته الشقراء وعينيه الزرقاوين، حيث يشبه وجه أمه الروسية "روكسلان" أو "حُرّم".
الدراسة والتكوين العلمي
أمضى طفولته في القصر بين إخوته، وتلقّى حتى الـ16 من عمره تعليما جيدا كجميع ملوك آل عثمان، ثم أرسله والده إلى سنجق قونية عام 1542م ليتعلّم ويكتسب الخبرة الإدارية، وبعد عامين فقط نقل إلى سنجق مانيسا، ثم عاد إلى قونية عام 1558م وبقي هناك حتى عام 1562م.
واهتم -بحسب المؤرّخين- خلال شبابه بمهنة الصياغة التي ورثها أبا عن جد، فكان يصنع أهلّة ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة يستخدمها لتتبع الأسطر عند القراءة، وعُرف عنه أنه ملحّن للأغاني على مقامات عثمانية عديدة، كما تظهر إحدى المنمنمات مهارته بالصيد والرماية.
التجربة السياسية
كان الابن الثالث للسلطان سليمان القانوني، والثاني من زوجته "حُرّم"، إلا أنه بعد وفاة شقيقه محمد ثم إعدام أخيه غير الشقيق الأمير مصطفى، بقي مرشحا للعرش هو وشقيقه بايزيد، وكانت شخصيته هادئة للغاية، في حين تمتّع بايزيد بشخصية عصبية متمردة بحسب المؤرخين، لذا حصل على دعم والده السلطان.
وفي 29 مايو/أيار 1559م، اشتبكت جيوش الأميرين على أطراف مدينة قونية، وانتصر سليم بدعم من والده، وبعد أن لجأ بايزيد إلى إيران، أعاده الشاه إلى الإمبراطورية العثمانية، ثم قُتل بدسيسة من أحد الوزراء، ليصبح الأمير سليم الوريث الوحيد للعرش.
بعد وصول خبر وفاة السلطان إليه ذهب إلى القسطنطينية يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 1566م، وخرج بعدها بيومين إلى بلغراد لاستلام جثة والده المحنّطة ولقاء الجيش، وأكمل الرحلة التي كانت تستغرق عادة 30 يوما في 15 يوما.
وعندما سمع الجيش بقيادة محمد باشا صقللي وهو في طريقه إلى بلغراد بوفاة السلطان، وصل إلى المدينة في حالة حداد، حيث كان سليم بانتظاره، ورفض إقامة حفل تنصيب جديد بعد ذلك، ثم عاد إلى إسطنبول.
ولم يكن السلطان -بحسب المؤرخين- مؤهلا لحفظ فتوحات أبيه، إلا أن وجود الوزير الفذ والصدر الأعظم محمد باشا صقللي المدرّب على الأعمال السياسية والحربية أفاده كثيرا وحفظ الدولة من السقوط.
صلح النمسا
عقد في 17 فبراير/شباط 1568م مُعاهدة صلح مع النمسا، نصّت على اعتراف الدولة العثمانية بملكية الأخيرة للمجر مقابل أن تدفع الجزية السنوية المقررة بالعهود السابقة، وأن تعترف بتبعية أمراء أقاليم ترانسلفانيا والأفلاق وبغدان الرومانية للسلطان والدولة العثمانية.
المعاهدة مع فرنسا
زاد توثيق عُرى الاتحاد مع بقية الدول والإمبراطوريات المجاورة؛ فجدد مع ملك فرنسا شارل التّاسع عام 1569م الاتفاقيات التي تمت بين الدولتين في عصر السلطان سليمان، وأيد سليم امتيازات القنصلية وزاد عليها بنودا عدة كإعفاء الفرنسيين من دفع الخراج الشخصي، وإطلاق سراح جميع رقيقهم مع معاقبة من استعبدهم، وأن يرد ما أخذه قراصنة البحر من سفنهم، وأن تكون المراكب العثمانية ملزمة بمساعدة ما يرتطم من سفنهم على شواطئ الدولة وحفظ ما بها من متاع وركاب.
ولزيادة نفوذ الاتحاد العثماني الفرنسي، اتفقت الدولتان على ترشيح هنري دي فالوا شقيق ملك فرنسا لاعتلاء عرش بولونيا ليكون لهم نظيرا ضد النمسا، كما صارت بولونيا تحت حماية الدولة العثمانية، فأصبحت فرنسا ملكة التجارة في البحر الأبيض المتوسط وجميع البلدان التابعة للدولة العثمانية.
ساهمت الامتيازات الإضافية في إضعاف الدولة العثمانية، حيث بدأت فرنسا بإرسال البعثات الدينية النصرانية إلى جميع أرجاء الدولة التي يسكنها النصارى وخاصة بلاد الشام، فزرعت محبّتها في نفوسهم، الأمر الذي زاد العصيان وشجعهم على الثورات فيما بعد.
فتح قبرص
يعد فتح قبرص جوهرة إنجازاته، فقد كانت تتبع لإيطاليا وتحديدا للبندقية حتى عام 1489م، وكانت تشكّل بتبعيتها هذه خطرا كبيرا على الملاحة والتجارة العثمانية، فضلا عن المخاطر العسكرية والإستراتيجية.
وبعد توقيع كل من النمسا وفرنسا معاهدات مع الدولة العثمانية، وضمان الأخيرة عدم نقض المعاهدات معها، قرر وقادة الجيش التوجه لفتح قبرص، وفي يوليو/تموز 1570م وصل الأسطول العثماني بمئة ألف جندي يقودهم مصطفى باشا إلى ميناء لارنكا، حاصر الجيش قبرص وعاصمتها نيقوسيا، واستمر الحصار والمعارك 5 أشهر، انتهت باستسلام قبرص في أغسطس/آب 1571، وأصبحت تابعة للدولة العثمانية.
إفشال ثورة البشرات
ظلت الدولة العثمانية خلال عهده تقدم سرا المساعدات للحركات البروتستانتية المناوئة للكاثوليكية غرب أوروبا، وتزوّد بالأسلحة الجيش الذي كان يجري الإعداد له من بقايا المسلمين جنوب الأندلس للثورة ضد الإسبان.
بيد أن الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، ألح عليه لتنفيذ خطة والده السلطان سليمان القانوني لاستعادة الأندلس، فعيّن الصدر الأعظم في مارس/آذار 1568 القائد البحري علج علي والي طرابلس واليا على الجزائر، وأمره بالاستعداد للهجوم على إسبانيا.
باشر علج علي تكديس الذخائر واحتياطي المواد الغذائية في منطقة مستغانم (وهران)، ودوت صيحة الجهاد في أرجاء المغرب، كما تدفق المتطوعون من كل مكان، فحشد قرابة 14 ألف رام وفارس و60 ألف مقاتل، إلى جانب الأسلحة والمدفعية.
خلال تلك الفترة كان المورسكيون يعدون للثورة الشاملة في غرناطة والتي عرفت لاحقا بثورة البشرات، إلا أن نيرانها خمدت دون أن يرسل السلطان النجدة العثمانية رغم أنه سحب جيشين من جيوشه الكبيرة من البلقان، فإنه لم يوجه أيا منهما للأندلس، وإنما وجه أحدهما إلى اليمن والآخر إلى إستراخان.
حملة كبرى إلى اليمن
كانت اليمن قد خضعت للحكم العثماني عام 1517م، وأصبحت جزءا من أراضي الإمبراطورية عام 1538م، لكن الأحوال فيها اضطربت عام 1567م بعد ظهور الزعيم الزيدي المطهر، الذي كاتب أهلها ودعاهم إلى الخروج عن طاعة السلطان، فاجتمعت حوله القبائل ودخل صنعاء بعد هزيمة العثمانيين فيها.
شعر السلطان بخطورة الموقف، فأرسل حملة كبيرة إلى اليمن بقيادة سنان باشا عام 1568م، واستعاد قلاع تعز وعدن وصنعاء، وضمّها مرّة أخرى إلى الأراضي العثمانية.
الوفاة
أجمع المؤرخون على أنه توفي يوم 15 ديسمبر/كانون الثاني 1574م بعد انزلاق قدمه على رخام الحمام، إلا أنهم اختلفوا في سبب ذلك، فقال المستشرقون إنه كان مخمورا وانزلق، في حين ذكر المؤرّخون الأتراك أنه كان يتفقد الأجنحة والحمامات المجددة في قصر توب كابي بعد حريق نشب فيه، فانزلقت قدمه وسقط على الرخام.
وكان آنذاك يصارع المرض منذ مدة طويلة، لذلك أخبره الأطباء أنه يعيش أيامه الأخيرة، فتوفي عن عمر يناهز 50 عاما، ودفن في مسجد آيا صوفيا بإسطنبول.