"الثورة العربية الكبرى".. ثورة الشريف الحسين ضد العثمانيين
الثورة العربية الكبرى ثورة مسلحة قادها أمير مكة الشريف الحسين بن علي، بدعم من بريطانيا، في التاسع من شعبان عام 1334ه (العاشر من يونيو/حزيران 1916)، ضد الدولة العثمانية، لتزايد الشعور القومي عند العرب حينها، ورغبة كثيرين منهم في الاستقلال عن العثمانيين.
أسباب الثورة العربية الكبرى
لقيام الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية عدة عوامل، أولها سياسة التتريك والتجنيد الإجباري، وسياسة القمع التي نهجها من تولوا السلطة بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، ومشاركتهم في الحرب العالمية الأولى عام 1914 إلى جانب ألمانيا، وما خلفه ذلك من أوضاع اجتماعية قاسية.
وعام 1915 عاشت عدة مناطق عربية مجاعة، بسبب مصادرة السلطات العثمانية للمحاصيل الزراعية، والأملاك الفلاحية، لتمويل قواتها العسكرية المشاركة في الحرب.
وكان السبب الثاني ناتجا عن مشاركة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1914، ما أخاف وأزعج بريطانيا، إذ خشيت ثورة المسلمين ضدها، خاصة لو خرج العثمانيون منتصرين.
وكان انتصار الدولة العثمانية احتمالا مطروحا، وكان من شأنه أن يحيي فكرة الوحدة العربية أو الإسلامية عند العرب والمسلمين، ما يهدد الوجود البريطاني في المنطقة وآسيا بأكملها.
وأكدت هذه المخاوف مذكرة إستراتيجية أعدَّتها الدائرة السياسية في حكومة الهند البريطانية، مبرزة أن المخاطر تتمثل في "الخوف من ثورة المسلمين في مصر والهند ضد الوجود البريطاني، وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية مجددا"، ودعت المذكرة إلى زعزعة استقرار الدولة العثمانية وإضعافها من الداخل لإنهاء هذه المخاطر.
في حين كان السبب الثالث في قيام هذه الثورة هو طموح الشريف الحسين بن علي ليصبح خليفة للعرب وللمسلمين، بعد الوعود التي قدمتها له الحكومة البريطانية، حينما اختارته وشجعته ليكون حاكما على المناطق العربية التي كانت تحت سلطة العثمانيين.
بداية الثورة
بعد اقتناع بريطانيا بضرورة إنهاك الدولة العثمانية، التي كانت تشكل خطرا على وجودها في المنطقة العربية وآسيا، عبر إحيائها لفكرة الوحدة بين المسلمين؛ بدأت الحكومة والمخابرات البريطانية في البحث عن بديل، ليحل محل الأمير العثماني في المدينة المنورة فخر الدين باشا، في المناطق العربية التي كان يحكمها العثمانيون.
مع ضرورة امتلاك هذا البديل لصفات وشروط محددة، تجعله يحظى بالإجماع من طرف العرب وعموم المسلمين، ليضمن البريطانيون عدم ثورة هؤلاء عليهم.
واختير الشريف الحسين بن علي أمير مكة بديلا، وهو منحدر من سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يمتلك سلطة روحية كبيرة على عموم المسلمين بفضل هذا النسب.
وكانت علاقة الشريف الحسين بن علي مع الحكومة العثمانية متوترة جدا، بسبب رغبة العثمانيين في الإطاحة به من إمارة مكة، وهو ما كان يدركه، خاصة بعد إطاحة حكومة الاتحاد والترقي التركية بالسلطان عبد الحميد الثاني.
وبدأ البريطانيون في مراسلة الشريف الحسين بن علي، عن طريق المندوب السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون، فيما سمي تاريخيا بـ"مراسلات الحسين- مكماهون" سنة 1915، لتشجيعه على الثورة ضد العثمانيين، ووعدوه بتنصيبه خليفة على المسلمين.
وفي 30 أغسطس/آب 1915، بعث هنري مكماهون رسالة تحريضية إلى الشريف الحسين بن علي، جاء فيها "إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة".
وقد فعلت الإغراءات البريطانية فعلتها في نفس الشريف الحسين بن علي، الذي كان يطمح لخلافة المسلمين، فأعلن الثورة على العثمانيين في العاشر من يونيو/حزيران عام 1916، بعد أن أطلق الرصاصة الأولى، من شرفة قصره في مكة، إيذانا بانطلاق ما عرف بـ"الثورة العربية الكبرى" ضد حكم العثمانيين.
وأثلج هذا الحدث صدر مكماهون، فبعث رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن في 14 أغسطس/آب عام 1916، يقول فيها "إن لدينا فرصة فريدة قد لا تسنح مرة أخرى، في أن نؤمّن بواسطة الشريف نفوذا مهما على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية، وربما نوعا من السيطرة عليهما".
ودعمت بريطانيا الشريف الحسين بن علي بالسلاح والمال، بعدما أمدته خلال السنة الأولى من الثورة بـ71 ألف بندقية، وأكثر من 40 مليون طلقة، كما عززت جيشه بأعداد كبيرة من الأسرى العرب الذين كانوا تابعين للجيش العثماني.
أهم الأحداث
بدأت هجمات الثورة العربية المدعومة من طرف الجيش البريطاني على الوحدات العثمانية، وانطلقت المعارك بشكل فعلي في جدة، بتاريخ 13 يونيو/حزيران 1916، وانهزم العثمانيون هناك.
وكان الاستيلاء على مدينة جدة بمينائها البحري انتصارا سياسيا وعسكريا حاسما للعرب، إذ سهّل لهم عملية وصول الإمدادات الغذائية والعسكرية.
وتمت بعدها السيطرة على مكة في التاسع من يوليو/تموز 1916، في حين استمرت الحامية العثمانية صامدة في المدينة المنورة، وصمدت بقوة ضد القوات العربية، تحت قيادة الفريق عمر فخر الدين باشا، ورفضت الاستسلام حتى يناير/كانون الثاني عام 1919.
وبعد السيطرة على مكة، استولى العرب على ثغري "الليث" و"المويلح" على البحر الأحمر، كما حاصروا مدينة الطائف بقيادة الأمير عبد الله بن الحسين، نجل الشريف الحسين بن علي.
واستولت القوات العربية على العديد من المدن الساحلية الأخرى على البحر الأحمر، بمساعدة البحرية الملكية البريطانية.
وعُد المئات من الرعايا العرب العثمانيين من هذه المدن أسرى حرب، وأُجبروا على القتال في صفوف القوات العربية، كما أرسلت بريطانيا جنودا مسلمين من مصر، التي كانت إحدى مستعمراتها، للقتال مع القوات العربية ضد العثمانيين.
ورغم ذلك، لم تكن الثورة العربية ضد العثمانيين في بدايتها بالقوة المطلوبة في نظر البريطانيين، ما دفعهم إلى إرسال مساعدات عسكرية للقوات العربية، كما قرر ضابط المخابرات البريطاني توماس إدوارد لورنس، المعروف تاريخيا بـ"لورانس العرب"، تحمل مسؤولية قيادة الثورة بشكل مباشر.
وشكل لورانس -الذي كان جزءا من جيش الشريف الحسين- وحدات تهاجم القوات العثمانية، وتعمل في الوقت نفسه على تدمير خط السكك الحديدية الذي أنشأه العثمانيون بالحجاز، لتعطيل خطوط الإمداد، وتقييد حركة الجيوش العثمانية، وتحييد دفاعها عن الجبهات الرئيسية الأخرى، كالعراق وفلسطين.
وفي عام 1917، نسّق "لورانس العرب" مع الأمير فيصل، أحد أبناء الشريف الحسين بن علي، لشن هجوم ناجح على ميناء العقبة، حيث واجها مقاومة قوية من سكان المنطقة، الذين ظلوا يحاربون إلى جانب العثمانيين، لكنهما نجحا في الاستيلاء على الميناء.
ومن جانب آخر، ساعد "الثوار العرب" الجنرال البريطاني إدموند ألنبي، قائد التجريدة المصرية (حينما كانت مصر تحت الانتداب البريطاني) في شن هجمات على الخط الدفاعي العثماني في غزة، على مستوى بئر السبع ووادي نهر اليرموك، ما ساعد البريطانيين على الاستيلاء على القدس في ديسمبر/كانون الأول 1917.
واستمرت هجمات القوات العربية مدعومة من قوات الحلفاء في التقدم طوال عام 1918، مما أدى إلى تحييد المواقع التابعة للعثمانيين، وتسبب في تراجع جيوشهم واستسلامهم في الأخير، لتتمكن القوات العربية من الاستيلاء على دمشق في بداية أكتوبر/تشرين الأول 1918.
وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، تم التوقيع على هدنة مودروس، بين العثمانيين وقوات الحلفاء التي كانت ضمنها جيوش الحسين بن علي العربية، والتي أنهت الأعمال العدائية بين الدولة العثمانية والحلفاء بشكل رسمي.
وفي مارس/آذار عام 1920، أعلن المؤتمر الوطني السوري تنصيب الأمير فيصل بن الحسين بن علي ملكا على سوريا، لكن هذا التنصيب لم يستمر طويلا مع بداية مفاوضات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
النتائج السياسية
قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، وقّعت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية سرا سنة 1916، على ما سمي بـ"اتفاقية سايكس بيكو"، التي تم بموجبها اقتسام تركة الدولة العثمانية، وكان من بين شروط توقيع هذه الاتفاقية أن تبقى طي الكتمان، كي لا يعلم زعماء العرب بها حتى انتهاء الحرب.
وفي 24 مايو/أيار 1917، جست بريطانيا ومعها فرنسا نبض الشريف الحسين، لمعرفة مدى استعداده لقبول فكرة استعمار فرنسا لسوريا.
وعندما قابله الدبلوماسيان البريطاني سايكس والفرنسي بيكو، كان رده "إنه لا يمكنه أن يكون طرفا في عمل يرمي إلى تسليم مسلمين لحكم مباشر من قبَل دولة غير إسلامية".
وبعد شهور قليلة، اندلعت ثورة البلاشفة في روسيا في أكتوبر/تشرين الأول 1917، ونشر الثوار في روسيا الوثائق السرية التي عثروا عليها، وكان من بين هذه الوثائق، وثيقة الاتفاقية السرية "سايكس – بيكو"، فعلم بذلك الشريف الحسين بن علي.
وعندما استفسر من البريطانيين عن حقيقة الاتفاقية وفحوى بنودها، كان جوابهم أن ما عثر عليه البلاشفة الروس ليس إلا سجلا لمحادثات قديمة، وتفاهما مؤقتا بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، وليس معاهدة رسمية.
وصدّق الشريف الحسين قول البريطانيين، وهنأهم بعد استيلائهم على مدينة القدس قائلا "إن هذا النبأ مستلزم للفخر العظيم"، إذ كان يظن أن القدس ستكون ضمن أراضي مملكته المنشودة.
وبعد نهاية الحرب وتوقيع هدنة مودروس، ظهرت حقيقة بريطانيا المؤلمة تجاه العرب، فلم تف بوعودها التي قدمتها لهم لإقامة دولتهم الموحدة، وتبخرت أحلام الشريف الحسين بن علي، الذي كان يطمح إلى أن يكون ملكا على دولة العرب الموحدة.
وبقي ملكا على الحجاز فقط، لسنوات قليلة قبل تنازله عن العرش لصالح ابنه الذي لم يعمر فيه طويلا هو الآخر.
ومن جانبها احتلت فرنسا سوريا تنفيذا لاتفاقية "سايكس – بيكو"، وطردت منها الأمير فيصل نجل الشريف الحسين بن علي، الذي أصبح ملكا على سوريا بعدما أعلن عن تأسيس حكومة عربية في دمشق عام 1918.
وفرضت بريطانيا انتدابها على فلسطين وبدأت في جمع اليهود من مختلف بقاع العالم وتوطينهم بها، تنفيذا لوعد بلفور الذي سبق أن قدمه آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا، إلى الصهيوني ليونيل دي روتشيلد.
وهو الأمر الذي لم يستسغه الشريف الحسين، ورفض التوقيع على معاهدة فرساي سنة 1919، التي أسدلت الستار على أحداث الحرب العالمية الأولى، بين الحلفاء وأتباعهم من جهة وألمانيا من جهة أخرى، وهو ما دفع بريطانيا إلى التخلي عن الحسين بن علي.
وبدأت في الوقت نفسه بدعم منافسه عبد العزيز آل سعود أمير نجد بشكل سري، كما تخلى الشريف الحسين عن العرش لنجله الآخر علي بن الحسين، وأبحر في اتجاه العقبة ليدعم ابنه ضد آل سعود، الذين اجتاحوا منطقة الحجاز عام 1924، وأسسوا فيها دولتهم.
وهُزم علي بن الحسين، الذي غادر إلى الهند بعد ذلك، ومنها إلى العراق حيث مات، وطرد عبد العزيز آل سعود الشريفَ الحسين بن علي الذي هرب إلى العقبة، قبل أن تجبره بريطانيا على مغادرتها والذهاب إلى العيش في منفاه الإجباري في قبرص.
وفي 23 يونيو/حزيران 1921 وصل الأمير فيصل، الذي طردته السلطات الفرنسية من سوريا إلى العراق، وتوج ملكا عليها بعدما نصّبته بريطانيا.
وقبل ذلك كان الأمير عبد الله، النجل الآخر للشريف الحسين، قد وصل إلى مدينة مَعان عام 1920، حيث احتضنه أهالي شرق الأردن، وأسَّس هناك إمارة شرق الأردن عام 1921.
علم الثورة
كان التصميم الأول لعلم الثورة العربية الكبرى مكونا من 4 مستطيلات بـ4 ألوان (أبيض وأسود وأخضر وأحمر)، وبعد ذلك تم تعديله من خلال جعل اللون الهاشمي الأحمر مثلثا متصلا بالألوان الثلاثة الأخرى، ويشير الأسود إلى علم الدولة العباسية، والأخضر للدولة الفاطمية والأبيض للدولة الأموية.
وذكرت بعض المصادر التاريخية أن تصميم راية الثورة استلهم من "رموز الصحوة العربية"، ولم يكن هناك تدخل أجنبي في وضع هذا التصميم. ورفعت الثورة العربية الكبرى هذا العلم أول مرة في السادس من يوليو/تموز 1917، حينما دخلت قواتها مدينة العقبة في الأردن الحالية.
لكن في بداية الثورة، حملت القوات العربية العلم الهاشمي الأحمر، الذي كان راية الهاشميين منذ عهد الشريف أبو نمي الثاني، الذي كان معاصرا للسلطان العثماني سليم الأول، وحتى عام 1916.
وبسبب أهميتها ورمزيتها التاريخية، تسمى راية الثورة العربية الكبرى بأم الرايات، إذ أصبحت بعد ذلك مصدرا لتصميم العديد من رايات الدول العربية (المتأسسة بعد سقوط الدولة العثمانية)، والتي اعتمدت الألوان والأشكال الأربعة لراية الثورة العربية في تصميم أعلامها الوطنية.