فتح أنطاكيا على يد الظاهر بيبرس.. "أعظم فتح بعد تحرير بيت المقدس"

Illustration of a Ruined city walls of Antioch
بيبرس استطاع تخطّي أسوار أنطاكيا الحصينة بعد تدميرها ثم أحرق قلعتها لمنع الصليبيين من العودة إليها (غيتي)

وضع الظاهر بيبرس أنطاكيا نصب عينيه بعدما هزم المغول في معركة عين جالوت، لأنها كانت رأس حلفاء وشركاء المغول، وبقي يخطط طوال 10 سنوات بعد تولّيه الحكم حتى استطاع بذكائه ودهائه هدم حصنها المنيع، فاتحا بذلك يوم الرابع رمضان عام 666 هـ منطقة مهمة تتحكم بالطرق الشمالية للشام، وكاسرا بها شوكة الصليبيين بتدمير ثاني إمارة بعد "الرها" يؤسسها الصليبيون في أعقاب حملتهم الأولى.

عُدّ فتح أنطاكيا أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين منذ فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، لما حمله من قوة وعزة وتمكين للمسلمين في مرحلة عرفوا فيها بالوهن والضعف وضياع أراض بين أيدي المغول والصليبيين.

الحملة الصليبية على أنطاكيا

فتحت أنطاكيا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بعد معركة اليرموك بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وبقيت المدينة تحت حكم المسلمين حتى سيطر عليها الإمبراطور البيزنطي نقفور الثاني، ثم وقعت بيد السلاجقة عام 1085م.

وهكذا تناقلتها الأيدي حتى بداية الحملات الصليبية الأولى على الشام عام 1098م (491هـ) وسقوطها بيد بوهمند الذي جعل منها ثاني إمارة صليبية، وبقيت كذلك على امتداد نحو 170 سنة.

وبعد استيلاء الصليبيين عليها أزالوا كل أثر إسلامي فيها، وحوّلوا مساجدها إلى كنائس، وحصّنوها بسور طوله 12 كيلومترا، داخله 136 برجا و24 ألف شرفة، يطوف عليها حراس كل يوم وليلة بالتناوب، وجعلوها قاعدتهم العسكرية لقيادة حروبهم الصليبية، حتى غدت أعظم المدن مناعة وحصانة وقتئذ، وصار فتح المسلمين لها أمرا صعبا، إلى أن أتى الظاهر بيبرس وزلزلها بحصار دام 5 أيام فقط!

أهمية أنطاكيا

أحد أسباب الصراع على هذه المنطقة تاريخيا موقعها الجغرافي المميز، فقد كانت تعادل مدينة القسطنطينية من حيث مساحتها وثراؤها، وهي مدينة كبيرة تقع غربي مدينة حلب، وعلى مصب نهر العاصي بالبحر المتوسط.

للمدينة أهمية خاصة لدى الصليبيين، وذلك لموقعها الواصل بين بلاد الشام وبلاد الروم، ولأنها مقر مملكة هرقل عظيم الروم أيام الفتح الإسلامي الأول، وأيضا لوجود كنيسة القديس بطرس التي تعد من أقدم الكنائس المسيحية المصنوعة من كهوف منحوتة في الجبال، وفيها أطلق اسم المسيحيين لأول مرة.

ولها أهمية أخرى ففيها الكنسية الملكية الكاثوليكية، كما كان يطلق على بطريرك طوائف السريان الأرثوذكس والروم الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والروم الكاثوليك والسريان الموارنة اسم "بطريرك مدينة الله أنطاكيا العظمى وسائر المشرق"، أي من بلاد الشام من جبال طوروس إلى حدود مصر وقلقيلية وقبرص، وامتد نفوذها إلى العراق وفارس حتى القرنين الخامس والسادس.

وبقيت أنطاكيا مركز الكرسي الرسولي حتى القرن السابع، وبعد الفتح العربي الإسلامي الأول تنقّل بطاركة الروم الأرثوذكس بين أنطاكية والقسطنطينية وقبرص حتى استقروا في دمشق التي صارت مركز بطريركيات الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسريان الأرثوذكس.

بيبرس وحلم توحيد البلاد الإسلامية

اتفق أمراء المماليك على تعيين الظاهر بيبرس سلطانا عليهم عام 1260م، عقب مقتل السلطان سيف الدين قطز، وباشر بيبرس إرساء الاستقرار بالبلاد التي عين عليها ومنها مصر والشام، وعمد إلى تقوية الجيش ومدّه بالسلاح، وحصّن حدود بلاده، وأعاد عهد الدولة العباسية إلى مصر.

تحالف الصليبيون مع المغول ضد المماليك، وعملوا مرشدين لجيوشهم، حتى إن بعض الإمارات الصليبية استقبلت قوات مغولية في حصونها، فتسبب ذلك في إشكالية كبرى للمماليك، فعمد السلطان منذ توليه الحكم وعلى مدى 10 سنوات إلى العمل على إخراج الصليبيين من الشام بصورة نهائية، خاصة بعد سحقه المغول في معركة حمص الأولى عام 1260م.

بدأ بيبرس خطته في استرجاع البلاد الإسلامية التي استولى عليها الصليبيون، فانطلق من مصر إلى فلسطين، وكانت المعاهدة بينه وبين الحاكم الصليبي في يافا قد انتهت ولم تجدد، وسار حتى فاجأه بدخوله إلى المدينة.

حصار أنطاكيا

فتح بيبرس قيسارية عام 663هـ (1265م) ثم أرسوف وبعد عام فتح "قلعة صفد" فتحطمت معنويات الإمارات الصليبية، وبدأ بعضها يطلب الهدنة والأمان.

ثم اتجه إلى الكرك، وبعد ذلك إلى غزة بعدما أجبر يافا على الاستسلام، ثم انعطف على حصن الأكراد، وبعد ذلك ضرب "قلعة عكا"، ولم يبق للصليبيين هناك سوى قلعة "عتليت"، ووصل إلى طرابلس في 15 شعبان 666هـ وأغار عليها وقضى على حاميتها وأرهب من حولها.

كما مرّ على صافيتا وحصن أنطرسوس فتلقاه صاحبها بالترحاب وأطلق سراح 300 أسير من المسلمين كانوا عنده، فلم يتعرّض السلطان بيبرس لإمارته، ومن هناك جهّز طريقه شمالا لفتح أنطاكيا التي جعلها معزولة بفتح ما حولها.

وأرسل بيبرس إلى الحاكم بوهمند السادس رسالة ينذره فيها بالزحف على إمارته، وأمهله 3 أيام، لكنه لم يلق ردا منه.

خرج بيبرس من طرابلس عام  666هـ (1268م)، ولم يخبر أحدا من قادته عن وجهته، موهما من حوله أن وجهته ليست أنطاكيا، فنزل أولا حمص ثم اتجه منها إلى حماة، وهكذا كان يتنقل بين المدن ليلا ويحطّ رحاله بها صباحا حتى لا يتمكن الصليبيون من تتبعه ومعرفة أهدافه، إلى أن ظن بوهمند أنه ترك طرابلس عائدا إلى مصر.

ومن حماة قسم بيبرس جيشه إلى 3 فرق، ليحكم سيطرته على المدينة ويعزلها عن بقية المدن، فأرسل واحدة إلى الشمال لسد الممرات بين قلقيلية والشام ومنع وصول الإمدادات من مملكة أرمينية الكبرى، وأرسل أخرى إلى ميناء السويدية لقطع الصلة بين أنطاكيا والبحر.

ثم ذهب بفرقته الرئيسية مباشرة إلى أنطاكيا، وحاصرها في أول رمضان محاولا فتحها سلميا لكن أهلها أبوا، وفي اليوم الثاني قرر ضرب أسوار المدينة، فطلب أهلها الأمان وأرسلوا وفدا للتفاوض ووضعوا شروطا كثيرة، رفضها بيبرس جميعها.

ولم تفلح مفاوضات التسليم بقيادة والي المدينة ونائب بوهمند، فقد خاف كبار القساوسة والوزير والأمراء من الأمير بوهمند السادس وبطشه بهم.

شدد السلطان المملوكي حصاره على المدينة في اليوم الثالث، واستطاع وقتئذ إنشاء ثغرة مكنت القوات من تسلق الحصن، وبدأت معركة كبيرة داخل أنطاكيا، وحينئذ أغلق بيبرس أبواب المدينة ففرّت الحامية الصليبية التي تقدر بـ8 آلاف مقاتل إلى القلعة، ولما أيقن أهل المدينة أنها ساقطة لا محالة سلموا أنفسهم في اليوم التالي طالبين الأمان على حياتهم، وأذعنوا ففتحت المدينة في الرابع من رمضان.

نتائج فتح أنطاكيا

بعدما فتح بيبرس المدينة أطلق سراح أسرى المسلمين فيها، وأخذ منها غنائم كثيرة حتى قيل إن كثرتها جعلتهم يقسمون النقود بالأوعية، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه لمّا رأى تقصيرا من رعيته.

ثم أرسل السلطان إلى بوهمند السادس يخبره بما فعل وما حلّ بالمدينة وأهلها، وكان بوهمند لا يدري بما حدث وهو في إمارته الثانية في طرابلس جنوبي أنطاكيا، وقال في الرسالة "وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر أن لم تكن في هذه المدة بأنطاكيا، فلو كنت بها لكنت إما قتيلا وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا".

وحينما تم لبيبرس فتح أنطاكيا سلّم قلعتها للأميرين بدر الدين بيليك الخازندار وبدر الدين بيسرى الشمسـي، وبعد أن قسم الغنائم سار إلى القلعة وأشعل فيها النيران، فامتد لهيبها إلى أنحاء المدينة، فتركها وقد صارت خاوية على عروشها، وكان الهدف من ذلك بث روح اليأس في نفوس الصليبيين من العودة إلى هذه المدينة الحصينة التي ظلت خاصرة في قلب الشام قرنين تقريبا.

وعندما وصلت أخبار الفتح إلى عكا أرسل صاحبها طالبا العفو والرضا من السلطان المملوكي، وعرض عليه هدنة مدتها 10 سنوات، كما جاءه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه إعادة ما أخذوه من المدن الإسلامية خلال الغزو المغولي للشام، منها بهنسا ومرزبان ورعبان.

هرب الداوية (فرسان الهيكل) من منطقة بغراس القريبة من أنطاكيا، وتركوا حصنها خاويًا، فأرسل الظاهر حملة عسكرية استولت على القلعة وكل ما فيها، وأصبحت حصنًا من الحصون الإسلامية، وشرعت طرابلس في طلب الصلح فعليا، وبدأت المفاوضات بين الجانبين.

عادت المدينة إلى المسلمين بعد سيطرة الصليبيين عليها 170 سنة، وبدأ عهد جديد عقب انهيار الصليبيين في المنطقة، فلم يبق لهم عندئذ سوى طرابلس، وبدأ بيبرس حملة الجهاد الكبرى، ليكون بذلك الوحيد الذي استطاع التغلب على المغول والصليبيين، أكبر قوتين في ذلك الوقت.

المصدر : مواقع إلكترونية

إعلان