أم قيس بلدة أردنية أثرية سياحية

ما إن تدخل البلدة الأثرية في أم قيس بالأردن حتى يستقبلك نقش للشاعر الروماني القديم "أرابيوس"، جاء فيه: "أيها المارّ من هنا، كما أنت الآن، كنت أنا، وكما أنا الآن، ستكون أنت، فاستمتع بالحياة فإنك فانٍ". ربما لذلك أطلقوا على هذه البلدة "مدينة الفلاسفة والشعراء".

وقد عرفت بلدة أم قيس قديما باسم "جدارا" و"غدارا"، ووردت في بعض الشعر العربي بلفظ "جَدَر"، وكانت تلقَّب بـ"حِصْن الشمال"، و"عروس بلاد الشام". واختارتها منظمة السياحة العالمية كأفضل قرية أثرية سياحية، من بين 136 قرية ضمن هذا التصنيف.

الموقع

تقع بلدة أم قيس في أقصى شمال المملكة الأردنية الهاشمية، على بُعد 28 كيلومترا من مدينة إربد، و120 كيلومترا عن العاصمة عمّان، وتتبع إداريا "لواء بني كنانة" في محافظة إربد.

وتربض أم قيس على قمة هضبة ترتفع حوالي 370 مترا فوق مستوى سطح البحر، وهي تشرف على هضبة الجولان السورية المحتلة وحوض نهر اليرموك، وجبل الشيخ وجنوب لبنان وإصبع الجليل شمالا.

وإلى الغرب منها تقع بحيرة طبريا وجبال الجليل الأوسط والأعلى ومدينة الناصرة وجبل الطابور، "جبل التجلي" ووادي الأردن، ثم سلسلة جبال عجلون جنوبا، وسهول حوران والمروج الشمالية الأردنية شرقا، وهي بهذا الموقع البانورامي تعد حلقة الوصل بين ملتقى عدد من الطرق التجارية الرئيسية القديمة والحديثة التي تربط بين سوريا وفلسطين وبقية مناطق بلاد الشام.

وتعدُّ أم قيس واحدة من حلف المدن العشر المعروفة بـ"ديكابوليس"، والتي انطلقت فكرتها في الحقبة الهلنستية اليونانية، لغايات تنظيمية سياسية ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م، عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي حصونا دفاعية في المشرق. وتعني "ديكا" العشر أما "بوليس" فتعني المدن، وتعني مجتمِعة حلف المدن العشر.

وضمّت المدن العشر في البداية جراسا (جرش)، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (أيدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى)، 8 منها أردنية معاصرة، ومعها بيسان الفلسطينية، ودمشق وبصرى السوريّتان، ولاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) و"بيت راس" شمال الأردن.

السكان

تعد أم قيس مدينة معمورة على مرّ التاريخ، سكنها المقدونيون اليونانيون والسلوقيون والرومان واستوطن فيها اليهود العبرانيون والغزاة من الفرس، واحتلها العرب الأنباط القادمون من جنوب الأردن، واستقرّ الحكم فيها للعرب الغساسنة، والروم البيزنطيين ردحا من الزمن.

ثم جاءها الفاتحون المسلمون من عرب الجزيرة وسكنها بعضهم إلى جانب الغساسنة، الذين تحوّلوا للإسلام وظلّت منذ ذلك التاريخ عربية مسلمة، حتى يومنا هذا، حيث يناهز عدد سكانها اليوم 5 آلاف نسمة.

التاريخ

يرجع تاريخ بناء "جدارا" إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ويرجَّح أن المقدونيين بنوها في أواخر عهد الإسكندر المقدوني، بعد اجتياحهم مشرق البحر المتوسط. ثم استولى عليها أنطيوخوس السلوقي، بعد أن هزم بطليموس الرابع، وذلك في الفترة بين 186 و223 قبل الميلاد.

وفي 64 ق.م، دخلت أم قيس تحت حكم الرومان، وأثناء تلك الفترة ظهر السيد المسيح عليه السلام، ودانت الإمبراطورية الرومانية رسميا بالديانة المسيحية، وتذكر المراجع أن المسيح دخلها في المرة الأولى التي عبر فيها إلى شرق نهر الأردن، قادما من بحيرة طبريا، وفيها قال العبارة التشريعية الخالدة في الزواج وتحريم الطلاق "ما جمعه الرب لا يفرقه إنسان".

ازدهرت جدارا في القرن الأول الميلادي، لموقعها على تقاطعات الطرق التجارية بين الشرق والغرب، لكنها كانت مطمعا دائما للغزاة، من الفرس والعبرانيين والمصريين، وفي القرن الثاني حكمها العرب الغساسنة، الذين تحالفوا مع الرومان لصدّ هجمات الفرس على منطقة شمال الأردن وجنوب سوريا.

وفي سنة 636 ميلادية فتحها المسلمون بقيادة الصحابي شرحبيل بن حسنة، وذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بعد معركة اليرموك، ومنذ ذلك التاريخ بقيت "جدارا" تحت حكم الممالك الإسلامية المتعاقبة على بلاد الشام، إلى أن جاء العثمانيون، وهم الذين غيَّروا اسمها من جدارا إلى "ماكوس"، لأنها كانت مركزا لجمع الضرائب والمكوس، بسبب وقوعها على الطرق التجارية المهمة.

وكان السكان المحليون يحرِّفون الاسم إلى "مكيس"، ومع الزمن تحوّرَ الاسم إلى "أم كيس"، واستقر على "أم قيس" مع بداية الحكم العربي الهاشمي.

في العصر الحديث لعبت "أم قيس" أدوارا مهمة في زمن الحرب والسلم، فقد شهدت في سبتمبر/أيلول 1920 مؤتمرا تداعى إليه أعيان شمال الأردن يحددون فيه مطالبهم لسلطات الانتداب البريطاني، ممثلة بالمندوب السامي البريطاني الميجر سمرست، وتركزت هذه المطالب في:

  • تشكيل حكومة وطنية، تضم عجلون والسلط والكرك، برئاسة أمير عربي هاشمي.
  • تقديم بريطانيا الأسلحة والمساعدة الفنية للجيش.
  • منع هجرة اليهود.

وفي يونيو/حزيران 1967 كانت أم قيس جبهة متقدمة للقوات الأردنية في حربها مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.

الاقتصاد

كانت جدارا مدينة العيش الرغيد والحياة الهانئة، وقد وَصفت الكتب التاريخية حياة سكّانها في العصر الروماني بالبذخ والترف، والتمتع بملذات الدنيا، فكانوا يعالجون أجسادهم بينابيع المياه الكبريتية الساخنة ثم يصعدون إلى أعلى الهضبة يستمتعون بالشمس الساطعة والأجواء الرطبة.

وتأتي هذه الميزة من الغنى والثراء بسبب وجود المدينة على تقاطع الطرق التجارية بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، حتى إنها اشتهرت بمركز جمع الضرائب، وذلك في أكثر من مملكة من الممالك التي تعاقبت على حكمها، وكان آخرها العثمانيون، الذين سموها "ماكوس".

معالم أم قيس

  • المسرح الشمالي: بني في الجزء العلوي من المدينة، استخدمت حجارة هذا المسرح، من البازلت والحجر الجيري، في بناء المدينة التي بنيت على أنقاض مدينة جدارا، كما استخدمت أقبيته ثكنات عسكرية، مما زاد في تهدمه مع الوقت، وكان جدار المسرح متصلا بجدار المدينة. ويرجح الباحثون أن جدارا كانت منتجعا، حيث عرف عنها الثراء والغنى، وبعدما ينتهي الناس من الاستمتاع بالمياه الكبريتية حول المدينة يصعدون لها ويمارسون نشاطات ترفيهية كالمسرح. والمسرح الشمالي كبير يبلغ قطره الخارجي 85 مترا، والداخلي 49 مترا، وقد اقتطع جزء منه من الصخر. ويرجح أن المسرح بني في نهاية القرن الأول الميلادي وبداية القرن الثاني.
  • المسرح الغربي: ويزوره آلاف السياح حتى يومنا هذا، ولا يزال محتفظا بشكله على عكس المسرح الشمالي، وربما يعود السبب إلى بعده عن الطريق العام، وإلى صعوبة الوصول إليه، فكان من الصعب أخذ حجارته لبناء البيوت. يبلغ قطر المسرح الخارجي 58 مترا. ووجد في المسرح تمثال رخامي يصور الإلهة تايكي "ربة الحظ والرعاية"، وهي تمسك "قرن الوفرة والخير" دلالة على ثراء المدينة وجرت عملية نقل التمثال وعرضه في متحف أم قيس.
مدينة "أم قيس" الأثرية بالأردن.. أثينا الشرق
مدينة "أم قيس" إحدى أقدم المدن الأثرية في الشرق الأوسط (الجزيرة)
  • مجمّع الحمّامات: وتقع شرق الشوارع المبلطة وفي طريق ترابية، وهي على الطراز الروماني، وتحوي غرفا للماء الساخن وأخرى للبارد وغرفا لتغيير الملابس. بنيت هذه الحمامات في القرن الرابع الميلادي، وظلت تستخدم حتى القرن السابع الميلادي. وعلى بعد 500 متر هناك نصب تذكاري متصل من الخلف بصهريج ماء كبير.
  • المقابر: تعدّ المقابر الفردية والجماعية إحدى أهم الدلائل على رخاء المدينة، وتنتشر المقابر العائلية في جدارا، فنجد مقبرة عائلة جيرماني ومقبرة موديستوس ومقبرة تشيرياس ومقبرة كرياس، وفي هذه المقابر وجدت المنحوتات النصفية والمتعلقات الشخصية وأغراض أخرى للاحتفالات الجنائزية.
  • بوابة طبريا: على بعد 800 متر من تقاطع شارعي الكاردو والديكمانوس، توجد آثار أساسات لبوابة المدينة الغربية وتحيط بها أبراج عديدة. وعلى بعد 400 متر من أساسات البوابة الأولى هنالك آثار البوابة الثانية على شكل قوس ثلاثي، ويدل هذا على التوسع والازدهار الذي عاشته المدينة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي.
  • شارع الأعمدة والدكاكين المقنطرة: يخترق شارع الأعمدة -وكان يسمى شارع "ديكومانوس ماكسيموس"- مدينة جدارا من الشرق نحو الغرب بطول كيلومترين، وترتفع على جانبيه الأعمدة ذات الطراز الكورانثي، وإلى الشرق منه ثمة طريق روماني كان يربط جدارا بمدينتي أبيلا وبصرى الشام.
  • البازيليكا (الكنسية) البيزنطية: وهي مبنية من الحجارة البازلتية والجير الأبيض، يبلغ طولها من الداخل 22 مترا وعرضها 16 مترا، ولها 3 أروقة، وهي مبلطة، وأما أعمدتها فهي من البازلت ومن الحجر الكلسي، وتحمل تيجانا من الطراز الكورنثي.
  • نقش ميلياقروس: وهو على مدخل مدينة "أم قيس" الأثرية، ويمثِّل عبارة منقوشة على حجر الشاهد، الذي كان منصوبا على قبر الشاعر القديم "أرابيوس"، يخاطب فيها الضيوف قائلا "أيّها المار من هنا، كما أنت الآن، كنت أنا، وكما أنا الآن، ستكون أنت، فاستمتع بالحياة فإنك فانٍ".
  • متحف أم قيس: وهو موجود في بيت الروسان (إحدى العائلات الأردنية المشهورة في المنطقة)، وكان يستعمل في الأصل منزلا للحاكم العثماني، ويعرض هذا المتحف قطعا أثرية من تماثيل وفسيفساء وعملات معدنية.
  • أنفاق المياه: بدأ نظام القنوات والأنفاق المائية منذ العصر البرونزي، ولكنه ازدهر وبلغ أوجه في العصور الكلاسيكية، حيث كانت الأنفاق المائية التي تزود المدن بالماء أمرا ضروريا، وكانت تلك الأنفاق سرية تحت الأرض ويدخل إليها المهندسون للصيانة عبر مداخل منحدرة وبعيدة عن أعين العدو في حالات الغزو والحصار.

أعلام

تعتبر أم قيس مدينة الفلاسفة والشعراء وكتّاب التراجيديا، من أمثال مينيبوسو فيلوديموس، الملقب بـ"المحب للناس"، والأديب يونوماوس صاحب الكتب العديدة في السياسة والفلسفة والسخرية، والمولود في القرن الثاني الميلادي، إضافة للشاعر أريبوس صاحب النقش الخالد.

وقد لمع منهم الشاعر اليوناني ميلياغروس الجداري أو الغداري، نسبة لاسم المدينة القديم، المولود في القرن الأول الميلادي، وكان من أشهر شعراء عصره وجامعا للقصائد، إذ تروي كتب التاريخ أنه تمكن من جمع نحو 134 قصيدة، شكلت نواة الأنثولوجيا والمختارات الأدبية اليونانية وأطلق عليها "الإكليل".

وقد اختار الشاعر ميلياغروس قصيدة له لنقشها على شاهدة قبره بعد وفاته يقول فيها:

أيها العابر من هنا

لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى

فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة

إنه ميلياغروس ابن أوقراطس

الذي تغنى بالحب

وجعل الدموع السعيدة تهطل من المآقي

لأنه وقف واسطة

بين ربات الشعر وتجسيد الجمال الساحر

لقد كان رجلا من مدينة صور

التي باركتها الآلهة

ولكن مدينة جدارا المقدسة

كانت هي مسقط رأسه.

المصدر : مواقع إلكترونية