تريغفي لي.. أول أمين عام للأمم المتحدة

تريغفي هالفدان لي، سياسي ومحام نرويجي، ولد عام 1896، وهو أول أمين عام للأمم المتحدة، شغل هذا المنصب في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومع احتدام الحرب الباردة وبقي فيه 7 سنوات، وسعى إلى جعل الأمم المتحدة منبرا للسلام في "أعقد وأصعب وظيفة في العالم" على حد قوله، حتى توفي عام 1968.
المولد والنشأة
ولد تريغفي لي بأوسلو، في 16 يوليو/تموز 1896، ونشأ مع والدته وأخته الكبرى بعد أن قطع والده صلته بالعائلة وهاجر إلى أميركا.
كانت والدة لي تدير مقهى في الضاحية النرويجية، وهو المكان الذي تعلم فيه كيف يقرأ الصحف بصوت عال أمام جمع من المستمعين، وظهرت وقتها موهبته في الخطابة.

الدراسة والتكوين العلمي
موهبة لي في الخطابة دفعت بعض المانحين المحليين إلى دعم مساره التعليمي في المدرسة والجامعة، حتى حصوله على شهادة في القانون عام 1919، الأمر الذي أهله ليصبح مستشارا قانونيا للاتحاد النرويجي لنقابات العمال (LO) عام 1922.
التجربة السياسية
الشاب المولع بالقانون اهتم بالسياسة أيضا، وسرعان ما تدرّج في صفوف حزب العمال، ليكون جاهزا من أجل شغل عدة مناصب وزارية في الحكومة النرويجية، من بينها وزير العدل ووزير التجارة حتى سنة 1939.
أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما كانت الحكومة النرويجية في منفاها في لندن، تم تعيين لي وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1946 وخلال سنوات الحرب، عمل أيضا رئيسا للوزراء لفترة وجيزة.
مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، كان لي على رأس الوفد النرويجي المشارك في اجتماع أعضاء قوات الحلفاء في سان فرانسيسكو في أبريل/نيسان من سنة 1945.
حمل الاجتماع عنوان تشكيل هيكل بديل لعصبة الأمم، وفيه التقى ممثلون من 50 دولة يمثلها 242 مندوبا و1444 مشاركا معتمدين رسميا، وخلال هذا المؤتمر التنظيمي الدولي، ولدت الأمم المتحدة.
بعد 6 أشهر على اجتماع سان فرانسيسكو، ترأس لي مرة أخرى وفدا نرويجيا، للمشاركة في أول جمعية عامة للأمم المتحدة، عقدت في لندن.
وبناء على اقتراح من الولايات المتحدة، وبدعم من الاتحاد السوفياتي، وافق مجلس الأمن على ترشيح لي، لينتخب أمينا عاما للأمم المتحدة من قبل الجمعية العامة في الأول من فبراير/شباط 1946 لمدة 5 سنوات.

تريغفي لي أمينا عاما للأمم المتحدة
حاملا حقيبة أول أمين عام منتخب، وصل لي إلى نيويورك في مارس/آذار 1946، ولم تكن الأمم المتحدة قد عثرت بعد على مقر دائم، لذلك بدأ عمله في فندق والدورف أستوريا في مانهاتن.
في غضون أسبوعين، استطاع السياسي البراغماتي تحصيل مكاتب مؤقتة، وقبل نهاية السنة قامت الأمم المتحدة بتأمين موقع لمقرها المستقبلي.
يذكر لي في مذكراته، أنه حصل على دعم شخصي من قطب العقارات جون دي روكفلر، الذي أعطى الأمم المتحدة شيكا بقيمة 8.5 ملايين دولار، لدفع ثمن موقع أرض في مانهاتن، بني عليها مقر الأمم المتحدة الذي تم الانتهاء من تشييده عام 1952.
مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، برز اسم تريغفي لي، كواحد من أهم الفاعلين في المسرح الدبلوماسي العالمي، ببنية قوية وحماسة سياسية وخبرة إدارية في التفاوض، بالإضافة إلى إدراك لما يمكن أن تكون عليه الأمم المتحدة في خضم نظام دولي جديد.
كانت البداية مع ملف شكوى إيران من بقاء القوات السوفياتية على الأراضي الإيرانية، خلافا لميثاق الأمم المتحدة، حيث اتخذ لي موقفا علنيا نشطا وقدم رأيا قانونيا أرسى سابقة مفادها أن للأمين العام الحق في التدخل بشكل موضوعي ومن تلقاء نفسه في مناقشات المجلس، وهي الآلية التي سرعان ما تكرّست في النظام الداخلي للأمم المتحدة.
طور لي تدريجيا صلاحيات مكتبه من خلال نشاطه في مختلف المسائل التي عُرضت على الأمم المتحدة، وأبدى جهودا معتبرة لتعزيز استمرار المشاركة السوفياتية وتسهيل اندماج الصين الشيوعية في الهيئة الدولية، لكنه لم يسلم من الاتهامات بخصوص علاقته مع الولايات المتحدة وتأثير سياسيين أميركيين على قراراته.
ومع احتدام الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، اتُّهم الأمين العام للأمم المتحدة بتفضيل تعيين الأميركيين في المناصب الجديدة لهيئته، ووصف بأنه منحاز لأميركا، فحاول إظهار استقلاليته مرارا، قبل أن يؤدي دوره الصريح في تنظيم جهود الأمم المتحدة الأمنية ضد الحرب بين الكوريتين في 1950، إلى قطيعة مع الاتحاد السوفياتي.
أعلنت موسكو أنها لن تدعم استمرار لي لفترة ولاية ثانية في منصبه، أمام إصرار واشنطن على دعمه مجددا، وانتهى صدام القطبين بشأن بقاء لي من عدمه على رأس الهيئة الدولية بقرار الجمعية العامة تمديد ولايته لمدة 3 سنوات أخرى.
اعتبر الاتحاد السوفياتي هذا التمديد "غير قانوني"، ورفض الاعتراف بتريغفي لي أمينا عاما بمجرد انتهاء فترة ولايته الأصلية، وفي الوقت نفسه عانى الأمين العام وموظفوه من مشاكل كبيرة ومن ضغط أميركي هائل بسبب توظيف الأمانة العامة للأمم المتحدة شيوعيين مزعومين من جنسية أميركية.
وبسبب هذا الضغط الأميركي من جهة والمقاطعة السوفياتية من جهة أخرى، صرّح لي بأن "مصلحة الأمم المتحدة تكمن في استقالته"، فقدّم استقالته التي دخلت حيز التنفيذ في أبريل/نيسان 1953.
في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في السابع من أبريل/نيسان 1953، وصف لي سنواته السبع في منصب الأمين العام بأنها الأصعب والأكثر تحديا في حياته.

رؤيته لتحقيق السلام
قدم لي مع مطلع سنة 1950 ما عرف ببرنامج الأعوام العشرين لتحقيق السلام من خلال الأمم المتحدة، واقترح في الخطة آلية دولية جديدة للسيطرة على الطاقة الذرية وكبح سباق التسلح، كما اقترح إنشاء قوة تابعة للأمم المتحدة لمنع أو وقف اندلاع أعمال العنف المحلية.
وفي رسالة إلى مجلس الأمن بتاريخ السادس من يونيو/حزيران 1950 قال "شعرت أنه من واجبي أن أقترح بداية جديدة نحو حل سلمي نهائي للمشاكل العالقة".
وكتب لي في شرح أهداف منظمته قائلا "أنا لست طوباويا.. أرى في الأمم المتحدة نهجا عمليا للسلام والتقدم، ليس بصيغة سريعة وسهلة، ولكن من خلال الاستخدام الحكيم والمخلص والمستمر لمؤسساتها من قبل الدول الأعضاء على مدى سنوات عديدة".
ويضيف لي في تفسير رؤيته للسلام الدولي "أولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أن نكون أحرارا، ومن فقدوا منازلهم، ومن عانوا ولا يزالون يعانون من عواقب الحرب، منحونا تفويضا مقدسا (لبناء أساس متين للسلام من العالم)".
وقال أيضا "إن التعهد المشترك والأداة العالمية للغالبية العظمى من الجنس البشري هي الأمم المتحدة، ولا يمكن للعالم أبدا أن يقبل أطروحة اليأس وفرضية صراع لا رجعة فيه ولا يمكن التوفيق فيه".
ولكسب التأييد لمشروعه، التقى لي بعدد كبير من المسؤولين والدبلوماسيين في واشنطن ولندن وباريس وموسكو، لكن جهوده تجاوزتها الأحداث، حيث اندلعت الحرب الكورية في يونيو/حزيران 1950، بعد أسابيع قليلة فقط من بدء نشر رؤيته للسلام.

حياته بعد الأمم المتحدة
بعد 7 سنوات على رأس الأمم المتحدة، عكف لي مباشرة على كتابة مذكراته في كوخ أسرته الجبلي قرب روروس في النرويج، قبل أن يعود إلى الساحة السياسية مجددا عام 1955، حيث تم تعيينه حاكما لمقاطعتي أوسلو وأكيرشوس.
وفي سنتي 1959 و1960 استفاد من شبكة اتصالاته الدولية من السنوات التي قضاها في الأمم المتحدة ليترأس لجنة عينتها الحكومة لتعزيز الاستثمار الأجنبي في النرويج.
وفي عام 1963، عاد لي في عمر الـ67 إلى الحكومة وزيرا للصناعة، ولكن في غضون العام كان عليه أن يأخذ إجازة بسبب نزيف في المخ.
عاد لي إلى الحكومة مجددا في يناير/كانون الثاني 1964 وزيرا للتجارة والشحن، وشغل هذا المنصب حتى استقالة حكومة غرهاردسن بعد الانتخابات العامة في خريف عام 1965.
الوفاة
توفي تريغفي هالفدان لي في 30 ديسمبر/كانون الأول 1968 بنوبة قلبية بعد عمر امتد 72 سنة قضى كثيرا منها في أروقة الدبلوماسية العالمية.