قربّه سلاطين المغرب وكرموه.. "محمد البيضاوي أمانة الله" الأديب والناقد والسياسي الموريتاني

صورة-محمد-البيضاوي-أمانة-الله-معروضة-في-غرفة-من-منزله-الفخم-بتارودانت-للجزيرة-نت_
صورة محمد البيضاوي أمانة الله معروضة في غرفة من منزله بتارودانت جنوب المغرب (الجزيرة)

محمد البيضاوي أمانة الله عالم موريتاني مغربي، جمع بين الإبداع الأدبي والعبقرية السياسية، يعد من العلماء والأدباء الموريتانيين الذين ذاع صيتهم في البلدان العربية حين هاجروا أيام وطأة الاستعمار الفرنسي أوائل القرن الـ20. توفي عام 1945.

نال ثقة السلطان العلوي داخل المملكة المغربية التي تقلد فيها عدة مناصب إدارية، وأتقن الفرنسية وعشق أدبها واهتم بتقوية ثقافته الغربية حتى أعجب به الفرنسيون فهيؤوه ليتولى إقليم موريتانيا حينها ورشحوه لتمثيله في البرلمان الفرنسي.

شارك في مختلف الأنشطة السياسية والفكرية والأدبية بالمغرب، فكان خطيبا ومدرسا في جامع طنجة الكبير ثم قاضيا ومحررا وناشرا في جريدة "السعادة" الرسمية حتى ارتقى إلى منصب باشا (مسؤول محلي تابع لوزارة الداخلية) مدينة تارودانت جنوب المغرب.

كان جريئا ومتعدد المواهب، ويوصف بأنه صوفي متبتل وأديب أحب الفن والغناء، يناظر العلماء في مجالسهم، ويساجل الأدباء في نواديهم، ويزاحم الأمراء والقادة في ميادين السياسة والإدارة.

بعض-أقارب-البضاوي-من-موريتانيا-في-زيارة-عائلية-لمنزله-في-تارودانت-وهو-المنزل-الذي-زاره-فيه-الملك-محمد-الخامس-1945-عام-وفاته
أحد أقارب البيضاوي من موريتانيا في زيارة عائلية لمنزله، وهو المنزل الذي زاره الملك محمد الخامس عام 1945 (الجزيرة)

المولد والنشأة

ولد محمد البيضاوي بن سيدي عبد الله بن أحمد الملقب أمانة الله الجكني في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 1892، في قرية "جوك" الجبلية بولاية "تكانت" شمال موريتانيا.

نشأ في أسرة عريقة اشتهرت بالفتوة والأدب وفي وسط اجتماعي مكتظ بالعلماء والقضاة، يمارس أهله التدريس والإفتاء بشغف وإفراط، تنتشر فيه بيوت الرئاسة والإمارة، وناضل محيطه معرفيا ضد المستعمر وجاهده بالبندقية.

حفظ البيضاوي القرآن الكريم في سن مبكرة وتعلم مبادئ اللغة والسيرة والتاريخ في مرابع أهله على أمه وأخواله وقرض الشعر قبل أن يكمل عامه الـ16 الذي هاجر فيه مع أفراد أسرته إلى المغرب.

ويروي مدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية سابقا سيد محمد مايابى للجزيرة نت أن أمانة الله الجكني "ظهرت عليه مخايل الذكاء والنبوغ والفطنة والحظ وهو صغير، ومن مظاهر ذلك خروجه ذات يوم مع أصحابه للصيد فمنعوه من رمي شركه إلى جانبهم فحز ذلك في نفسه فانتبذ مكانا قصيا منهم وعاد للحي بـ7 حمائم وعاد أصحابه بخفي حنين فعرف الناس أنه سيكون له حظ وافر وشأن".

وفي الطريق إلى المغرب، وفي حين كان الشيخ محمد الخضر يشرح للفتى الصغير درسا من ألفية بن مالك، قاطعه أحد الركاب قائلا لقد صعبت على الفتى، فرد عليه الشيخ "والله إنه لأدرى به مني ومنك ومن مؤلفه".

صور-حصرية-وغير-متوفرة-على-الإنترنت-من-البضاوي-ومقر-إقامته-في-تارودانت-للجزيرة-نت
مقر إقامة البيضاوي في مدينة تارودانت المغربية (الجزيرة)

الدراسة والتكوين

تميزت مسيرة البيضاوي التكوينية بطابعها الترحالي وبتنوع مشاربها ومدارسها، فجاءت ثقافته مزيجا من عدة مدارس بين شنقيطية وقروية وأزهرية وفرنسية.

وكانت مدن المغرب أبرز محطاته الدراسية حين حظي لدى وصوله مراكش عام 1908 مع أبناء عمه باستقبال جيد واهتمام بالغ من السلطان مولاي عبد الحفيظ، الذي أعجب بالوفد أيما إعجاب فأكرمه وقرّبه.

تلقى الشاب خلال هذه الفترة بعض النصوص الفقهية والعربية وانتقل مع السلطان مولاي حفيظ إلى مدينة فاس ليتابع فيها دراسة بعض المتون في الفقه والأدب واللغة مثل مختصر الشيخ خليل، وألفية ابن مالك، ومراقي السعود، ودواوين الشعراء الستة على يد ابن عمه العلامة المحدث الشيخ محمد الخضر بن مايابى (الوزير والقاضي بالأردن فيما بعد) والشيخ محمد العاقب مايابى دفين فاس.

وحضر الشاعر الصغير باستمرار الدروس الفقهية والنحوية بالقرويين، والتي كان يقدمها الشيخين سيد أحمد الخياط والمهدي الوزاني، كما أخذ عن وزير العدل والقاضي الأبرز حافظ المغرب ومحدثه الشهير الشيخ أبي شعيب الدكالي، والذي كان مقربا منه وعلى صلة دائمة به حتى ودعه إلى مثواه الأخير بمرثية خالدة.

وبعد تنازل مولاي عبد الحفيظ عن العرش التحق الأديب الصاعد بالأزهر الشريف وجاوره لمدة عامين وأخذ عن المفسر الشيخ سليم البشري، وعن الشيخ محمد بن أبي الفضل رئيس مشيخة الإسكندرية، وتلقّى هناك بمصر معارف عالية وسعت مداركه، حيث ناظر العلماء كالشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ الأمين الشنقيطي صاحب كتاب الوسيط، قبل أن يعود لمدينتي طنجة وتطوان لتعلم اللغة الفرنسية.

صور-من-رياض-منزل-محمد-البضاوي-عند-مجيئه-إلى-تارودانت-باشا-عليها-وما-زال-حتى-الآن-قائما-يسكن-بعض-أفراد-أسرته
صور من رياض منزل محمد البيضاوي في مدينة تارودانت، ويسكن فيه حاليا بعض أفراد أسرته (الجزيرة)

شهادات فرنسية

بسبب إتقانه اللغة الفرنسية وقدرته الفائقة على التفاوض والحوار، وما عرف عنه من حسن السياسة والتدبير، حظي البيضاوي باهتمام وإعجاب كبيرين من فرنسا التي زارها عدة مرات وأنشد في وصفها أشعارا.

وكان خبيرا بفقه الموازنات، فقد آمن بقاعدة ارتكاب أخف الضررين واختيار أهون الشرين، ولهذا كان وفق قول مختار "منفتحا بحذر على الفرنسيين وقريبا من زعماء وأعيان القبائل، وهذا ما جعله يتصدر التفاوض بجدارة بين المعسكرين".

وقال الأخوان مارتي وإدموند كوفيون الفرنسيان في ترجمتهما للبيضاوي إنه "كان يقدم خدمات رفيعة" في تادلة (منطقة وسط المغرب) في مجال النصح والتفاوض مع الزعماء.

وأضاف الكاتبان -وفق ما تُرجم عنهما في كتاب "تارودانت بعيون فرنسية"- أن البيضاوي "تصرف بطريقة فعالة" في حاشية الجنرال نوكيس (المقيم العام الفرنسي بالمغرب من 1936 إلى 1943) "وفق عقلية القبائل التي نال عندها شعبية قوية"، وهو ما استحق عليه وفق الكاتبين "وسام جوقة الشرف".

ووصف الكاتبان الشنقيطي بأنه عفوي وأنيس ومزاجه منفتح وصاحب محادثة لطيفة يحبها كل الزعماء الذين يقدرون إخلاصه المتين.

علاقته بالسلاطين

بايع البيضاوي 3 سلاطين مغاربة أولهم السلطان مولاي عبد الحفيظ، الذي لازمه تقريبا عقدا من الزمن وكان كاتبه الخاص وأمين خزينته، وقد رثاه عند وفاته بقصيدة مشهورة، وأيضا السلطان مولاي يوسف، الذي نظم قصيدة في تهنئته عند توليه السلطة وأنشدها أمامه بنفسه أعجب بها وأظهر له استحسانه لها، وقد تقلد مناصب عديدة في عهده.

وآخرهم الملك محمد الخامس، وكان العالم الموريتاني آنذاك قاضيا في مدينة "وادي زم" (وسط المغرب)، وقد هنأ السلطان ومدحه بقصيدة من 100 بيت.

وكان محمد الخامس وفق ما أكد المختار حين قدم تارودانت عام 1945 لتدشين توسعة وترميم الجامع الكبير خص البيضاوي بزيارة في منزله وانبهر بمخزونه التراثي الجم من كتب ومخطوطات نادرة، فقدمها أفراد الأسرة هدية للملك بعد وفاة البيضاوي.

وكان بالإضافة إلى ذلك ذا علاقة حسنة بكبار باشوات المغرب كباشا مراكش التهامي الكلاوي المزواري، الزعيم القوي والمتمرد المثير للجدل، فقد كان قريبا منه وهنأه ومدحه بقصائد، كما كان صديقا للقائد العيادي (قائد الرحامنة) الذي دعم مولاي عبد الحفيظ ضد أخيه عبد العزيز، وتمسك بشرعية السلطان بعد نفي محمد الخامس رغم تحالفه مع الحماية الفرنسية.

مختار-أمانة-الله-إداري-مغربي-متقاعد-و-ابن-عم-الشاعر-للجزيرة-نت
"مختار أمانة الله" إداري مغربي متقاعد وابن عم الشاعر محمد البيضاوي (الجزيرة)

رحلته إلى موريتانيا

سبق للبيضاوي أن زار مدينة أطار شمال موريتانيا مرات عديدة ولكن زيارته الأبرز كانت في عام 1945 في مهمة رسمية تمهيدا لترشحه لتمثيل موريتانيا في البرلمان الفرنسي أو توليه إقليم موريتانيا وفق ما قاله المختار أمانة الله.

والرأي نفسه رجحه الأستاذ سيد محمد قائلا إنه "نظرا لكون الزيارة كانت بإشراف ومواكبة فرنسية، لم يزر خلالها إلا المدن المركزية التي يوجد فيها حكام فرنسيون منها كيفة وكيهيدي وألاك وأطار وبوتيلميت التي استقبل فيها استقبال الملوك من طرف عبد الله ولد الشيخ سيديا في حفل باذخ".

واعتذر البيضاوي عن زيارة أقاربه في مدينة "لبحير" لأسباب أمنية طالبا منهم أن يأتوه في مدينة كيفة، وكان -وفق قول سيدي محمد- له برنامج ثابت في أول النهار مع الحكام وفي آخره يستقبل الوفود والأعيان ويجزل لهم العطايا حتى ضرب به المثل في الكرم، وذهب بعدها إلى مدينة أندر ودكار قبل أن يعود للمغرب.

الوظائف والمسؤوليات

في مقابلة خاصة مع الجزيرة نت يقول مختار أمانة الله (إداري مغربي متقاعد وهو ابن عم الشاعر الذي عاش معه طفولته في تارودانت) "إن أول وظيفة تقلدها البيضاوي كانت في ديوان السلطان مولاي عبد الحفيظ، حيث اختاره كاتبا خاصا عام 1914 بمصر وصحبه إلى الديار المقدسة ثم رافقه في جولة عربية شملت سوريا وفلسطين، ثم عاد إلى طنجة وظل مدير ديوانه وأمين خزانته إلى أن ارتحل الأمير إلى إسبانيا".

من هنا انطلقت مسيرة البيضاوي العملية، ومن هنا خطط ومهد لمرحلة المهام الصعبة، حيث يقول المختار "بعد أن تعلم البيضاوي الفرنسية في تطوان وكتب بها مقالات ينتقد الفرنسيين استدعاه القنصل الفرنسي وكلفه بالتدريس في ثانوية رونو بطنجة بعد نشوب الحرب العالمية الأولى وكان في نفس الوقت مدرسا وخطيبا في جامعها".

وهكذا بالرغم من أنه لم يعمر طويلا فقد خلّف البيضاوي مسيرة حافلة بالعطاءات والإنجازات وتقلد مناصب سامية من أبرزها:

  •  كاتب ومترجم باللغة الفرنسية في الاستعلامات "ببني ملال" عاصمة سهل تادلة.
  • محرر في جريدة "السعادة" الرمسية في الرباط ابتداء من عام 1920.
  • عضو مجلس الاستئناف الشرعي بالرباط.
  • قاضي منطقة "بني عمير" وسط المغرب من عام 1921 إلى عام 1926.
  • قاضي منطقة "وادي زم" وسط المغرب من عام 1926 إلى عام 1932.
  • باشا "تارودانت" جنوب المغرب من عام 1932 إلى وفاته عام 1945م.

وقد تخللت هذه المهام أوسمة عديدة وجوائز وتكريمات منها: وسام "جوقة الشرف" والوسام الفلاحي والوسام العلوي ووسام الافتخار.

الاديب الشنقيطي
منزل الأديب كان مركزا للتلاقح الأدبي والفني يلتقي فيه الأدباء والمطربون المغاربة والقادمون من موريتانيا (الجزيرة)

المؤلفات والإنجازات.. مواهب متعددة ومشاركات متنوعة

ساهم البيضاوي في النهضة الثقافية والأدبية بالمغرب، وواكب الحراك التجديدي هناك، وواجه منتقديه ونشر مقالات نقدية حادة في مجلة المغرب، وعرف بتوجهه الإحيائي وإعجابه بأحمد شوقي الذي شارك في تأبينه بقصيدة شعرية.

وكان منزله في تارودانت مركزا للتلاقح الأدبي والفني يلتقي فيه الأدباء والمطربون المغاربة والقادمون من موريتانيا، ولكن اهتمامه بالأدب وشغفه بالفن والموسيقى الموريتانية الأصيلة لم يشغله عن التدريس، فكانت له دروس ثابتة في الضحى وبين المغرب والعشاء في جامع تارودانت الكبير يشرح فيها صحيح البخاري ونصوصا أخرى.

فهو رجل موسوعي كما وصفه للجزيرة نت الأستاذ سيدي محمد و"عالم شرعي، وخبير لغوي، وإداري مدني، وسياسي ودبلوماسي، وأديب بحس نقدي فائق يهوى الغناء والطرب، وصل المغرب غريبا لا يأوي فيه إلى ركن شديد غير العلم والأدب، ولكنه بفضل مزاوجته بين الحكمة والقوة استطاع أن يصل القمة بتدرج في فترة وجيزة".

ومن بعض مؤلفاته:

  • ديوان شعري ضخم بين الشعر الفصيح والحساني، ضم قصائد في الغزل والشوق والرثاء والمديح والوصف وتناول قضايا عامة عربية وحث على طلب العلم وتعلم المرأة ومواكبة التطور الذي يشهده العصر الحديث.
  • "مذكرات في الأحكام الشرعية في العقار والمواريث"، وهو عبارة عن زبدة تجربته في القضاء والأسلوب الذي عالج به القضايا التي عرضت عليه.
  • مجموع مقالات نقدية في "مجلة المغرب" وعدد كبير من الأشعار والمقالات المتنوعة في جريدة "السعادة".

وفاته

في ديسمبر/كانون الأول 1945 توقفت مسيرة البيضاوي ورحل فجأة بعد أن دُس له السم في الشاي، فوأد ذلك أحلامه ومستقبلا زاهرا كان ينتظره في وطنه الأم، وبكاه كثير من الشعراء والأعيان.

ودفن رحمه الله في مراكش مع أمه في مقبرة باب أغمات، وجمع له باشا مراكش حينها (صديقه التهامي الكلاوي المزراوي) أهل مراكش للصلاة عليه وأشرف على نقله ودفنه بنفسه.

المصدر : الجزيرة