تعود بدايتها للقرون الوسطى واستهدفت آلاف المسؤولين والمؤسسات.. التاريخ الطويل للعقوبات الغربية على روسيا
تعد روسيا أكثر بلد في التاريخ تعرض لعقوبات خارجية، فقد تجاوز عدد المستهدفين بالعقوبات من مؤسسات وأفراد بعد الحرب في أوكرانيا فقط 8 آلاف، وفقا لقاعدة بيانات "كاستيلوم دوت إيه آي" (Castellum.ai) لتتبع العقوبات، ويقترب عددها الإجمالي (بدءا من عام 2014 بعد ضم جزيرة القرم) من 11 ألفا، أي أزيد بنحو 3 مرات من إيران التي تحتل المرتبة الثانية بين الدول الأكثر تعرضا للعقوبات.
من "إيفان الرهيب" إلى القنبلة الذرية
تعود بداية العقوبات الأوروبية على روسيا إلى القرون الوسطى، عندما أمر أمير موسكو إيفان الرهيب بإحضار 123 حِرفيا من أوروبا للاستفادة من خبراتهم، ورغم موافقة الإمبراطور الألماني تشارلز الخامس في البداية على ذلك، فإن هؤلاء الحرفيين لم يصلوا إلى روسيا، فقد تم القبض عليهم جميعا خشية أن يسهموا في تقوية الإمبراطورية الروسية عسكريا واقتصاديا.
بعد ذلك، بدأت حملة إعلامية لتشويه سمعة روسيا، من ضمنها توزيع منشورات في عدد من المدن الأوروبية، كُتب فيها "روسيا بلد الظلمات" و"الروس متوحشون، وبرابرة وقيصرهم رهيب للغاية… لديه ما لا يقل عن 50 زوجة، كما هي الحال في الحريم التركي… الأتراك ليسوا التهديد الأكثر فظاعة لأوروبا مقارنة بالروس".
لكن العقوبات فقدت أهميتها حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما عادت بشكل جديد، وكان الأكثر شهرة منها آنذاك، حظر امتلاك روسيا أسطولا في البحر الأسود، والذي أدخل ضمن شروط معاهدة باريس عام 1856 بعد حرب القرم.
الحقبة السوفياتية
بعد الثورة الاشتراكية، أصبح الاتحاد السوفياتي هدفا للعقوبات، وتعرض طوال تاريخه تقريبا لضغوط من الولايات المتحدة في ما يتعلق بالتجارة والوصول إلى التكنولوجيا.
وبعد انهياره عام 1991، بدا أن عصر العقوبات على روسيا -وريثة الاتحاد السوفياتي- قد انتهى مع الانتقال من الاشتراكية إلى النظام الرأسمالي الليبرالي، لكن ذلك لم يحدث، فقد تراجعت القيود لبعض الوقت، لكنها سرعان ما عادت.
وكان سبب الصراع الجديد هو الشكوك في تعاون الخبراء الروس مع إيران في مجال الصواريخ والمجالات النووية، وبعده عام 1998، أدرجت واشنطن 10 مؤسسات علمية وجامعية روسية في قائمة العقوبات.
حتى عام 2012، لم تكن العلاقات بين روسيا والغرب "صافية" دائما، لكنها لم تتصاعد إلى الحد الذي يتم فيه استخدام العقوبات، غير أن وفاة المحامي والمدقق الضريبي سيرغي ماغنيتسكي في سجنه بموسكو عام 2009 شكل بداية تصاعد الأزمة.
فبسبب وفاة ماغنيتسكي، قدم نواب جمهوريون وديمقراطيون في الكونغرس الأميركي مشروع "قانون ماغنيتسكي"، وصادق عليه الرئيس آنذاك باراك أوباما في ديسمبر/كانون الأول 2012، ونصّ على معاقبة الشخصيات الروسية المسؤولة عن وفاة ماغنيتسكي، لكن القانون أصبح أشمل بعد ذلك.
في البداية كان "قانون ماغنيتسكي"، المعتمد في الولايات المتحدة، موجها إلى الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا متورطين في وفاة ماغنيتسكي. ولكن في وقت لاحق، تمت إضافة أشخاص آخرين إلى قائمة العقوبات، اعتبرتهم واشنطن مسؤولين عن انتهاك حقوق الإنسان في روسيا وحول العالم.
أزمة القرم
بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014، بدأ تطبيق تدابير تقييدية أكثر شمولا، إذ تضمنت "منع دخول المسؤولين عن الأعمال التي تقوِّض وحدة الأراضي الأوكرانية إلى البلدان الأوروبية".
أما حزمة العقوبات الثانية، فقد بدأت أبريل/نيسان 2014، وكانت مدفوعة باتهام روسيا بتزويد المتمردين الموالين لها في أوكرانيا بالأسلحة، ونتيجة لذلك، علق مجلس أوروبا في العاشر من أبريل/نيسان 2014 حق التصويت للوفد الروسي.
بينما فرضت الحزمة الثالثة في العام نفسه، بعد تحطم طائرة بوينغ الماليزية في الجو فوق الأراضي الأوكرانية، وحسب عدد من القادة الأوربيين، فإن سبب الحادث يعود لتصرفات المتمردين المدعومين من روسيا.
شكلت الانتخابات الرئاسية الأميركية سبب المرحلة التالية في الضغوط والعقوبات، بعد فوز الملياردير دونالد ترامب في تصويت عام 2016 بفضل التدخل الروسي حسب مزاعم واشنطن.
نتيجة لذلك، أصدرت الولايات المتحدة في أغسطس/آب 2017 ما سمي بقانون "مكافحة أعداء أميركا" الذي ثبت العقوبات المفروضة سابقا، وجعل من المستحيل إزالتها أو مراجعتها من غير موافقة الكونغرس. وربيع العام التالي، تم فرض عقوبات مالية على 13 شخصا ومنظمة روسية بتهم ممارسة القرصنة عبر الإنترنت.
ويوليو/تموز 2018، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على الشركات المشاركة في بناء جسر القرم، معتبرا أنها "عززت السيطرة الروسية على شبه الجزيرة التي تم ضمها بشكل غير قانوني، والتي بدورها تقوض وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها".
وقبل بضعة أشهر من ذلك في أوائل مارس/آذار 2018، ذاعت فضيحة جديدة بعد تسميم الضابط السابق في المخابرات العسكرية الخارجية سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا بمادة قوية.
وكان سكريبال أدين في روسيا بتهمة الخيانة، وأصبحت هذه القضية أساسا لمزيد من العقوبات، فقد فرضت وزارة التجارة الأميركية عقوبات إضافية على الصادرات ذات الاستخدام المزدوج إلى روسيا، وسبتمبر/أيلول 2018 أيضا، فرضت عقوبات على قوائم الشركات العاملة في صناعات الفضاء والدفاع، وطردت 29 دولة غربية مع حلف شمال الأطلسي 149 دبلوماسيا روسيا على الأقل.
واندلع صراع آخر جديد على خلفية تسميم زعيم المعارضة أليكسي نافالني واعتقاله بعد عودته إلى موسكو، إذ قالت واشنطن إنها "تشارك مخاوف الاتحاد الأوروبي بشأن تعميق الاستبداد داخل روسيا"، لذا رحبت "بتصميم الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على روسيا، ومن خلال هيئات حقوق الإنسان التابعة للاتحاد". ومارس/آذار 2021، فرضت عقوبات على 7 مسؤولين روس.
الحرب الروسية على أوكرانيا
أدى تفاقم الأوضاع بشأن أوكرانيا إلى زيادة هائلة في ضغط العقوبات، ففي فبراير/شباط 2022، فُرض حظر على مواطني الولايات المتحدة بالتمويل والاستثمار والتجارة في "جمهوريتي" لوغانسك ودونيتسك.
وعلى خلفية اعتراف روسيا بهذه "الجمهوريات"، فرضت الولايات المتحدة ودول غربية قيودا جديدة شملت البنوك التي تموّل الصناعات الدفاعية في روسيا و42 شركة تابعة لها.
بالموازاة مع ذلك، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على 351 نائبا في مجلس الدوما صوتوا بالموافقة على الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك كمناطق روسية.
بعد بدء الحرب في أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022، نفذت واشنطن حظر الأصول في الولاية القضائية الأميركية، وفرضت قيودا على المعاملات بالدولار وعلى التعامل بين البنوك الروسية والأميركية.
وتم منع الشركات الروسية المملوكة للدولة من استيراد المنتجات عالية التقنية والاقتراض في الأسواق الأميركية والأوروبية، وجُمدت أصول عدد من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين الروس.
أما الاتحاد الأوروبي، ففرض عقوبات على مسؤولين وبنوك وشركات روسية، وأدرج عددا منهم في القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي.
لاحقا، جرى التحفظ على احتياطات البنك المركزي الروسي في بنوك دول مجموعة السبع (ما يعادل نصف احتياطي البنك المركزي)، وتم إلغاء "الجوازات الذهبية" للمستثمرين الروس، وفصل البنوك الروسية عن نظام "سويفت" (SWIFT) الدولي لتحويل الأموال.
وحظر الاتحاد الأوروبي بيع وتوريد ونقل وتصدير الأوراق النقدية باليورو إلى روسيا، وانطبق الحظر كذلك على الحكومة والبنك المركزي.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2022، دخل حظر توريد النفط الروسي عن طريق البحر إلى الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ، واتفقت دول الاتحاد على سقف أسعار قابل للتعديل للنفط الروسي المشحون بحرا عند 60 دولارا للبرميل، ومنعت الدول الغربية شركاتها من تقديم خدمات النقل والتمويل والتأمين لناقلات النفط التي تحمل النفط من روسيا بسعر أعلى من المستوى المتفق عليه.