قَرّب العلماء وأبعد الشعراء ومات مسموما.. عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين

عمر بن عبد العزيز ثامن خلفاء بني أمية وواسطة عقدهم، ارتفع به العدلُ وردُّ المظالم حتى لُقب بخامس الخلفاء الراشدين بعد انتهاء الخلافة الراشدة بـ60 سنة، وطلب العلم على يد الصحابة وكبار التابعين حتى عُدّ واحدا من أكابر علماء عصره. ولد في المدينة المنورة عام 61هـ ومات مسموما سنة 101هـ بالقرب من مدينة معرة النعمان.

أمر بتدوين الحديث الشريف والعناية به لمّا ولي الخلافة. تولى إمارة المدينة المنورة والطائف وسائر الحجاز، ثم ولي الخلافة بعد وفاة ابن عمه سليمان بن عبد الملك، الذي جعله وزيرا له ومشيرا عليه.

ولما تسلم الحكم، قام بحملة تطهير واسعة عزل فيها عددا كبيرا من ولاة أسلافه الذين اتهموا بالظلم والفساد، وأعاد العمل بالشورى بعد تعطليها، وكانت مدة خلافته سنتين و5 أشهر.

المولد والنشأة

ولد أبو حفص عمر بن عبد العزيز عام 61هـ في المدينة المنورة عند أخواله آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمه هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وهي ابنة الفتاة الهلالية التي سمع عمر حوارها مع أمها في أثناء جولاته التفقدية في المدينة يرعى أهلها، فلما أشارت الأم على ابنتها أن تمذق (تخلط) الماء باللبن حتى يزداد ويفي ثمنه بنفقات معيشتهما، معللة ذلك بغيبة عمر وعدم رؤيته إياهما، ردّت الفتاة قائلة: "والله، ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء". وما إن سمع عمر بكلامها حتى زوّج ابنه عاصم بها، فولدت لعاصم ليلى، وولدت ليلى عمر بن عبد العزيز.

وأما أبوه، فهو عبد العزيز بن مروان، أحد أمراء بني أمية، ولي مصر في عهد أبيه وظل حاكما عليها 20 سنة، وكان نحويا متقنا.

وجدّه مروان بن الحكم مؤسس الدولة الأموية الثانية، وكاتب عثمان بن عفان وأمين سره. وعمه عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس وأحد كبار فقهاء المدينة.

صورة لضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز (مواقع التواصل)

التكوين العلمي

نشأ عمر في المدينة المنورة عند أخواله، وكان يتردد على الصحابي الجليل عبد الله بن عمر يتلقى عنه العلم والحديث وتفسير القرآن، وقد تفرس ابن عمر في وجه الفتى فرأى فيه مخايل الذكاء والزعامة، فكتب إلى أبيه لما أراد أن يستلحق زوجه وأبناءه إليه في مصر أثناء ولايته عليها ببقاء عمر عنده، فسُرّ الوالد لذلك، وأجرى عليه نفقته وأوصى به أخاه عبد الملك.

وظل عمر في المدينة يجالس علماءها وكبار فقهائها حتى اشتدّ عوده في العلم وقويت شوكته في الفقه والحديث، وصار مرجعا يرجع إليه الناس. وكان ممن جالسهم وأخذ عنهم شيخه صالح بن كيسان، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة، وسعيد بن المسيب سيد التابعين، ولما توفي والده كفله عمه عبد الملك وكان فقيها مشهودا له بالعلم، فنشأ في كنفه وجلس إليه وتلقى عنه العلم والسياسة وحسن التدبير، وزوّجه ابنته فاطمة.

وقد ورد اسمه في كتب الحنفية بوصف "عمر الصغير" تمييزا له عن جده عمر بن الخطاب، كما ذكره الإمام مالك في الموطأ في أكثر من 20 موضعا، وكذلك ترجم له الإمام النووي من الشافعية في الأسماء واللغات، وقد قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: "لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز".

قال عنه شيخه عبيد الله بن عبد الله: "كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة". وقال مجاهد بن جبر: "أتينا عمر نعلمه، فما برحنا حتى تعلمنا منه".

وعلى الرغم من منزلته العلمية، فإن علمه لم ينتشر ولم يجد طريقه ليكون مذهبا يضاهي مذاهب من كان مثله بالعلم أو دونه، بسبب انشغاله بالسياسة من جهة، ووفاته المبكرة من جهة أخرى.

وقد قال واصفا نفسه: "خرجت من المدينة وما من رجل أعلمُ مني، فلما قدمت الشام نسيت".

وعلى الرغم من الانهماك التام بالسياسة إبان توليه الخلافة، فإن الاهتمام بالعلم لا سيما حديث رسول الله ﷺ ظل ملازما لعمر، فلما خشي ضياع الحديث النبوي بوفاة التابعين الذين يحملونه، وبانتشار الوضع والكذب على النبي ﷺ أصدر أوامره إلى العلماء بجمع سنن الرسول الكريم وحديثه.

بالهجري - لوحة تخيلية لعمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز عُرف عنه عدله وتقواه وورعه وذكّرت خلافته الناس بجده عمر بن الخطاب (الجزيرة)

ولايته على الحرمين

ولي عمر بن عبد العزيز عام 87هـ إمارة المدينة في عهد ابن عمه الوليد بن عبد الملك بعد عزله واليها السابق الذي لم يكن حسن السيرة في أهلها، وكانت المدينة تأوي عددا من الساخطين على حكم بني أمية والناقدين لسياساتهم العامة.

وكان عمر مدركا لطبيعة المدينة الاجتماعية والسياسية، فأول ما تسلم الإمارة بادر إلى تشكيل مجلس للشورى ضم فقهاء المدينة السبعة وأعيانا من أهلها لهم مكانة اجتماعية فيها وحضور سياسي بارز.

وكان منهم القاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله وغيرهم، وحدد لهم ما يبتغيه منهم فقال: "إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى، أو بلغكم من عامل لي ظُلامة، فأحرّج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني".

وكان عمر لا يخرج عن رأيهم، لا سيما إذا كان هذا الرأي مما يوافق عليه سعيد بن المسيب، وكان ابن المسيب لا يدخل على أحد من الخلفاء، غير أنه كان يدخل على عمر ويأتيه فينصحه ويذكره ويشير عليه.

أقبل عمر أول الأمر على إغلاق دور الشراب والمجون، وكان يدور في أزقة المدينة نهارا ويعسّ فيها ليلا يراقب ويرصد، وقد هداه هذا السعي في شوارع المدينة إلى المحتاجين والفقراء، فتتبع حاجاتهم وسدّ رمقهم وردّ كرامتهم، وكان قد اشترط على ابن عمه الخليفة ألّا يرفع العطاء إليه حتى يسد حاجة أهل المدينة.

وقام بأمر من الوليد بتوسعة المسجد النبوي وضم إليه حجرات أزواج النبي ﷺ، عدا حجرة السيدة عائشة رضوان الله عليهن جميعا، كما جوّف محرابه ورفع المآذن عليه، فصارت سنة في المساجد.

وظلّ أمير الحج سنوات إمارته على الحجاز، يقيم الحج ويخطب في الناس ويعظ ويفتي ويعلم الناس المناسك.

ومن أهم مآثره إبان حكمه المدينة والحجاز جسر الهوة بين السلطة الحاكمة وبني هاشم ممن أصابتهم الجفوة من بعض خلفاء بني أمية، فرفع المظالم عنهم وأمر بصلتهم ورحب بهم وأمر ألا يقفوا على بابه إذا حضروا، بل يدخلون من ساعتهم.

فكان يقول: "إني أستحيي من الله أن يقف ببابي رجل من أهل بيت النبي ﷺ فلا يؤذن له عليّ من ساعته". وكان يقول لهم: "والله ما أهل بيت على ظهر الأرض أحب إلي منكم، ولأنتم أحب إليّ من أهل بيتي".

وظل يقيم العدل ما وسعه ذلك ويرفع عن الناس المظالم حتى ضاق به الحجاج بن يوسف الثقفي، عامل الوليد على العراق بعد أن آوى الذين فروا من بطشه إلى المدينة، فكتب الحجاج إلى الوليد يغمزه بذلك ويصف الأمر بالوهن في الحكم والضعف في الحاكم فقام الوليد بعزل عمر عن الإمارة.

فخرج من المدينة يتلفّت باكيا ويقول لخادمه: "يا مزاحم، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة"، في إشارة إلى حديث النبي ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد".

خلافته

وصل عمر إلى دمشق في محاولة منه للإصلاح بمنع ما يستطيع من المظالم التي كانت تؤرّقه مستشعرا المسؤولية بوصفه فردا من العائلة الحاكمة، غير أنه لم يكن على وفاق مع الوليد، فظلت محاولات الإصلاح متوقفة حتى توفي الوليد وخلفه أخوه سليمان، حينها رأى عمر أن الفرصة مهيأة للإصلاح والتغيير، وكان سليمان مؤثرا للحق محبا للعدل فاستوزر عمر وعينه مستشارا له.

ومن وزراء سليمان كذلك رجاء بن حيوة الرجل العالم الصالح الذي ظل يحث سليمان على استخلاف عمر، حتى قال سليمان مرة في حضرة جمع من بني أمية: "والله لأعقدنّ لهم عقدا لا يكون فيه للشيطان نصيب".

blogs عمر بن عبد العزيز
لوحة تخيلية للخليفة عمر بن عبد العزيز (مواقع التواصل)

بويع عمر بالخلافة في صفر سنة 99هـ، ولم يرق ذلك الأمر بعض أبناء عبد الملك غير أنهم أذعنوا لما رأوا من إقبال الناس وفرحهم بخلافة عمر، وكان عمر كارها للأمر راغبا عنه مستشعرا ثقل المسؤولية وعبئها، ولما خطب في الناس أول الأمر أحلهم من بيعته، غير أنهم صاحوا صيحة واحدة: "قد اخترناك يا أمير المؤمنين".

وقد استغرقت المسؤولية الثقيلة كل وقت عمر وجهده، حتى إن زوجته فاطمة كانت تدخل عليه فتراه ساهما يبكي، فتسأله فيجيبها: "لقد علمت أن ربي سيسألني عمن وليت عليهم، وأن خصمي دونهم محمد ﷺ".

وتقول زوجه: "إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للناس كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وصلَه بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه فدعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى واضعا رأسه على يده، تسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة، فأقول: قد خرجتْ نفسه أو تصدعت كبده، فلم يزل كذلك ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائما".

ومنذ أن ولي الخلافة ترك المباهج بكل صورها وهو الذي ورث عن أبيه أموالا طائلة، فعاش متقشفا زاهدا كأي فرد من أبناء أمته.

منهجه في خلافته

حرص أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في خلافته على 3 أمور رأى أن أسلافه لم يقوموا بها على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه، وهي إقامة الحق بالتزام الكتاب والسنة، وتطبيق الشورى، ونشر العدل.

فقد أعلن منذ أول خطبة له منهاجه الواضح باتباع سنة النبي الكريم ﷺ وهدي الخلفاء الراشدين، حتى قال الحسن البصري التابعي الشهير: "ما ورد علينا قط كتاب من عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة أو إماتة بدعة أو رد مظلمة".

ثم التفت عمر إلى مستشاريه ووزرائه فقام بتوسيع دائرة الشورى لتعم العلماء والصالحين وأهل الرأي والمشورة، كما منع الشعراء من الدخول عليه.

وكان يرسل إلى أهل العلم ومن يتوسم فيهم الخير والصلاح يستشيرهم ويستنصحهم ويستأنس برأيهم ومنهم ميمون بن مهران، ورجاء بن حيوة، ورياح بن عبيدة الكندي، ومنهم كذلك الحسن البصري وسالم بن عبد الله وطاووس بن كيسان وآخرون.

وأما العدل فإن أظهر مثال عليه ما فعله عمر مع أهله وعشيرته من بني أمية، فقد ألغى الامتيازات المالية التي كانت تعطى لهم، والأرزاق الخاصة التي كانت تجري عليهم، وساواهم بغيرهم من رعيته، فقال لهم في يوم وقد أكثروا عليه في طلب الحقوق: "والله ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء".

وكثيرا ما كان يقضي لخصومهم عليهم في المنازعات بين أهله والناس كما حدث في قضية مسلمة بن عبد الملك وأناس من أهل دير إسحاق.

وجعل من رد المظالم التي ارتكبها أسلافه ديدنا له وسياسة حتى يوم وفاته، فبدأ بنفسه وولده وظل ينازع قومه وأهله ما اكتسبوه بغير حق حتى امتلأت قلوبهم عليه. قال إسحاق بن عبد الله: "ما زال عمر يرد المظالم من لدن معاوية حتى استخلف".

ولقد دخلت عليه عمته يوما تشفع لبني أخيها الذين انتزع عمر بن عبد العزيز منهم الأموال والأرزاق، فسايرها وأكرمها غير أنه رد شفاعتها، فعادت إلى بني أخيها تقول: "تزوجون آل عمر -تقصد ابن الخطاب- فإذا نزَعَ إلى الشبه جزعتم!! اصبروا له".

قال أحمد بن حنبل وقد ذكر عمر بن عبد العزيز: "ما كان أشده على بني أمية".

وفاته

أثارت سياسات عمر بانتزاع الأموال ممن أخذها بغير حق وبرد المظالم والتضييق على المتكسبين بغير وجه حفيظة نفر من بني أمية، حتى دفعتهم إلى التآمر عليه بدس السم في طعامه بعد أن أغروا غلامه بألف دينار، وكان عمر قد أهمل الاحتراز والتحفظ ورفض الحراسة.

وظل عمر يشتكي من مرضه 20 يوما والسم يسري في دمه ويقتله قتلا بطيئا حتى أسلم الروح إلى بارئها في رجب سنة 101هـ، وعمره دون 40 عاما، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، ودفن بدير سمعان بالقرب من معرة النعمان في سوريا.

قالت زوجته فاطمة بنت عبد الملك لما سألها المعزون عن حاله في بيته: "والله ما كان عمر بأكثركم صلاة ولا صياما، ولكني والله ما رأيت عبدا لله قط كان أشد خوفا لله من عمر".

وقال الحسن البصري لما سمع خبر وفاته: "مات خير الناس".

المصدر : الجزيرة